خلايا الإخوان النائمة
بقلم / الفاضل عباس محمد على
استلفتُ هذا العنوان من صحيفة "البيان" الإماراتية، عدد الأحد 10 مارس، وجاء تحت هذا العنوان تقرير عن كوادر الإخوان المسلمين المصريين اللابدين والمتسربلين بالتقيّة… والمندسّين كغواصات بكافة الأجهزة والمنظمات والأحزاب،…. وما أن تسنّمت الجماعة السلطة فى مصر بعد الانتخابات…حتى برزت تلك العناصر الحربائية كالضفادع فى بواكير الخريف. ولقد ضرب المقال بعض الأمثلة، مثل محمد البلتاجي الذى ظهر بعيد الإنتفاضة وقبيل الإنتخابات بعباءة المفكر الإسلامي المعتدل البعيد عن الحزبية والتطرف، والمستعد لإبرام الصفقات وللتعاون مع كل من يهمهم الأمر… علي سبيل فتح أبواب الحكم لجميع ألوان الطيف المصري، تحقيقاً للوحدة الوطنية "الشعوبية" المصرية؛…
ولكن اتضح مؤخراً أن البلتاجي من الكوادر الأساسية المحركة للتنظيم ولدفة الحكم، وأنه قد تولي أخطر ملف بالحكومة الإخوانية الجديدة، وهو ملف تصفية أجهزة الأمن والسلطة من جميع العناصر غير المرغوب فيها، وإحلال منسوبي الجماعة فى مكانها. والمثل الآخر هو الدكتور هشام قنديل الذى أشيع عنه لما تم ترشيحه لرئاسة الوزراء أنه ليس عضواً ملتزماً بالجماعة، إنما فقط تكنوقراطي ورع…يصلي الأوقات الخمس فى مواعيدها… ولكن ثروت الخرباوي صرح مؤخراً بأن قنديل عضو "منظم" بالجماعة ما في ذلك أدني شك. جزي الله الخرباوي كل خير علي الزخم الهائل من المعلومات التى وفرها لنا فى الشهور المنصرمة عن التكتيكات السرية للإخوان، خاصة إبان زيارته الأخيرة للإمارات… حيث خاطب ندوة جامعة زايد وألقي محاضرة بوزارة الخارجية وقدم العديد من المقابلات التلفازية والصحافية، ونسأل الحق عز وجل بحق أسمائه وملائكته وأنبيائه الصالحين أن يحفظه من شر الجماعة، فهي تجيد الإنتقام والتصفيات الجسدية، وتنقلب حتي علي الأخ الشقيق، و لا تعرف "عيشاً وملحاً"، وتبرع فى ظلم ذوي القربي.
ولنا فى السودان حكايات وحكايات مع استخدام فقه التقيّة والغواصات بواسطة الإخوان المسلمين منذ قدومهم للساحة السياسية فى خمسينات القرن المنصرم؛ ولكن أبرز نجاحاتهم فى هذا المجال كانت إبان حكم النميري بعد المصالحة التى تمت بين نظامه والمعارضة عام 1977، رغم أن الشريف حسين الهندي زعيم تلك المعارضة لم يطمئن للمصالحة ولم يعد للخرطوم وظل فى موقفه المعارض حتي توفاه الله فى ديسمبر 1981،…
أما الذين هرولوا نحو الخرطوم فهم الصادق المهدي ونفر قليل من أنصاره، والإخوان المسلمون، بقضّهم وقضيضهم، الذين دخلوا فى شعاب السلطة من ساسها لرأسها،… ويقول الإخوان فى أدبياتهم التى أرّخت لتلك الفترة أنهم أرادوا أن يستفيدوا من هامش الحركة والحرية النسبية التى عمت البلاد بعد المصالحة المزعومة، "لنشر الدعوة" وتكريب التنظيم وتوسيع قواعده، والتغلغل فى الحركة الجماهيرية والنقابية التى كان الشيوعيون وحلفاؤهم يحتكرونها منذ تأسيسها فى منتصف الأربعينات.
ولكن الحقيقة التى استشفها السودانيون من ذلك الحلف الإخواني / المايوي (النميراوي) هي أنه لا يستهدف الدعوة و لا شرع الله، بقدر ما يستبطن التمكين الإقتصادي أولاً وأخيراً، فأصبحت الجماعة منذ منتصف السبعينات قوة إقتصادية كبري، وأصبح قادتها برجوازية أطلق عليها إسم "الرأسمالية الورمية"… لأنها لم تشكل نمواً طبيعياً مفيداً للإقتصاد الوطني، ولكنها تأسست علي أنشطة تجارية مشبوهة، يكتنفها تخزين مبالغ فيه للبضائع التى تتم المتاجرة فيها، كالذرة والحبوب الزيتية كالسمسم والفول… والصمغ والفحم، حتى شحت فى الأسواق بالنسبة للمستهلك،…. ويكتنفها تهريب عبر الحدود مع إثيوبيا وتشاد وغيرها، جرياً وراء الأرباح الخرافية، وفى غير صالح الميزان التجاري.
وتقوم بتمويل هذه الأنشطة الهدامة مجموعة مصارف إسلامية، علي رأسها بنك فيصل الإسلامي الذى كان يدير فروعه بالسودان كوادر الإخوان المسلمين، ولقد أسفر كل ذلك النشاط عن المجاعات التي ضربت البلاد عامي 1983/1984، والتي تركزت بشكل خاص فى دارفور وشمال كردفان.
ولما استفحل التدهور الاقتصادي… وتفاقمت الحرب فى الجنوب بعد إعلان قوانين سبتمبر 1983 الشرعية التى نُصّب النميري بموجبها أميراً للمؤمنين، وبايعه علي ذلك حسن الترابي زعيم الإخوان المسلمين السودانيين،… ولما تدهورت الأوضاع السياسية بحكم البطش بالمعارضين وتضييق الخناق عليهم…..
هبّ الشعب السوداني منتفضاً فى ابريل 1985، وكان من المفترض أن يكون الإخوان ضمن القوي السالبة التى أطاحت بها ثورة الشعب، ولكن ثمة مفارقة عجيبة قيّضت لهم مخرجاً من ذلك المأزق – وهي أنهم كانوا قد أودعوا السجون قبل الانتفاضة ببضع أيام، حيث أن الرئيس النميري انقلب عليهم فجأة بدون سبب ظاهر، كما يحدث فى أساط المافيا عندما تختلف حول توزيع الغنائم والأسلاب،… وخرجوا بعد الإنتفاضة من السجون التى مكثوا فيها لأسبوعين فقط….واستثمروا ذلك فى تسويق أنفسهم كأنهم كانوا معارضين للنظام، وكأنهم مناضلون لا يشقّ لهم غبار.
وبالفعل، حققوا نجاحات منقطعة النظير فى الانتخابات النيابية التى أعقبت الانتفاضة، إذ فازوا بسدس مقاعد الجمعية التأسيسة (وبكل مقاعد الخريجين تقريباً)، رغم أن هناك من يقول بإن الإخوان قاموا بعمليات تزوير لم يسبق لها مثيل، وهي ممارسات درجوا عليها بعد ذلك فى كل الانتخابات،….وقد نقلوا تجربتها للإخوان الجزائريين الذين استفادوا منها فى انتخاباتهم النيابية بأواخر الثمانينات (مما حدا بالجيش أن يتدخل ويستولي على السلطة ويعيدها لحزب منظمة التحرير الجزائرية).
لقد كانت التجربة المايوية حاضنة لتنظيم الإخوان، سمحت لهم بالتمرس فى شؤون الحكم وفى استحلاب جهاز الدولة لمصالحهم الإقتصادية، كما هيأت لهم تحالفات راسخة مع التكنقراط المايويين وغير المايويين – من النوع الذى يتقلب كالحرباء ويتعايش مع كل أنواع الحكومات والأنظمة-…فاستفادوا من كل ذلك المخزون عندما سطوا على السلطة فى 30 يونيو 1989….وهنا نعود مجدداً لموضوع الغواصات.
لقد أصيب كثير من السودانيين بالذهول عندما شهدوا تكوين حكومة الإخوان المسلمين الأولي بعد إنقلابهم ذاك، إذ ضمت فى مواقع أساسية بعضاً من زعماء سياسيين كانوا فى قيادة الحزبين الشعبيين الكبيرين، الأمة والإتحادي الديمقراطي: ضمت تشكيلة حكومة الإخوان فى مواقع تنفيذية واستشارية ووزارية كلاً من عثمان عبد القادر عبد اللطيف وعبدالله محمد أحمد وعبد الرحمن فرح وحريكة عزالدين… من المكتب السياسي لحزب الأمة،…كما ضمت الدكتور سليمان أبوصالح من قيادة الحزب الإتحادي الديمقراطي، وزيراً لخارجية النظام الإخوانجي الجديد.
فاتضح أن الإخوان كانوا طوال فترة الديمقراطية الثالثة 1985-1989 فى حالة اختراق صارخ ومستمر للأحزاب السياسية، ولقد جاء وقت تكريم تلك الغواصات دون أن يطرف أي جفن…لا للإخوان و لا لتلك الغواصات السابقة….واكتشف الناس تقريباً سر العجز الذى كبّل خطوات الحكومات الديمقراطية المتعاقبة فى تلك الفترة، وأدركوا سر المقدرة التى كان يتمتع بها جهاز الإخوان الإعلامي فى كشف خطط الحكومة قبل الإعلان عنها، وفى إفشاء أسرارها وإغراقها فى سلسلة من الخلافات البينية والإرباك والعقد المستعصية…كما كشف الإخوان المسلمون فى آخر الأمر عن هويتهم الحقيقية…وهي أنهم تنظيم تآمري، لا يعترف بالآخر، وليس لديه استراتيجية سوى الإنفراد بالأمر… والقضاء المبرم على الديمقراطية وعلى كل القوي السياسية الأخري.
وشيئاً فشيئاً، اتضح أن مسلسل الغواصات لم يتوقف مع الكشف عن هوية معظمها عند تكوين الحكومة الإخوانية الأولي بعد انقلاب يونيو 1989، إذ اتضح أن لهم صديق مقيم بالقاهرة كأنه معارض لنظامهم، وهو الشريف زبن العابدين الهندي…عليه رحمة الله…الذى أوكلت له فيما يبدو مهمة إضعاف تلك المعارضة، والفتّ فى عضدها، بدءاً بالحزب الإتحادي الديمقراطي الذى قاد انقساماً ضخماً فى صفوفه،
و من ثمّ قاد الشريحة المنقسمة نحو إجراء صلح مع نظام الخرطوم (جزءاً من سيناريو متفق عليه سلفاً، منذ الفترة السابقة للانقلاب المذكور)، وعاد الشريف ومن معه للخرطوم، وتم تكريم جماعته بالمقاعد الوزارية وبالتسهيلات المصرفية وغيرها مما ظلوا يتفيّأون ظلاله حتى الآن..
ثم كانت القنبلة الأخري فى شكل انقسام اللواء الهادي بشري الرجل الثاني ب"القيادة الشرعية"، الذراع العسكرية للتجمع الوطني الديمقراطي المعارض،… ومغادرته القاهرة وسط ضجة إعلامية أيضاً متفق عليها مسبقاً،… وتم تكريم الهادي بشرى وأخذ يتقلب فى المناصب الوزارية حتى الآن، إلي أن تم تعيينه مؤخراً والياً لجنوب النيل الأزرق،… والملاحظ أنه عاد يرتدى الزي العسكري ويتمنطق بالصقور والمقصات بعد أن أحيل للتقاعد قبل عشرات السنين، وبعد أن استلم استحقاقات ما بعد الخدمة على دائر المليم.
ولم ينقطع سيل الغواصات الإخوانية التى كشفت عن هويتها فى آخر الأمر، وعادت لتقبض الثمن….و لا داعي للخوض فى التفاصيل.
أما الإخوان المصريون، فهم يسيرون فى خط التمكين بالظلف والناب، و لا يهمهم فى كثير أو قليل ما يحدث للإقتصاد المصري وللكادحين المصريين، تماماً كما ظل إخوانهم يفعلون فى السودان. ولكن لسوء حظهم أن الشعب المصري قد تمرس تماماً عبر ستين سنة من الحكم العسكري الاستبدادي… تمرّس على ذات التقيّة التى يجيدها الإخوان (وهي مستلفة من الفكر الشيعي)، ولقد شايعهم لحين من الزمان، وناصرهم فى الانتخابات الأخيرة لأنه ظن فيهم خيراً، وحسب أنهم سيجلبون له رؤوس الأموال من الدول النفطية التى تتعاون مع الإخوان وتغازل الشعارات الإسلاموية، أو التى تخشي بأس الإخوان…وتتحسب لمقدرتهم على إثارة الفتن، بالتنسيق مع الدولة الشيعية الأكبر بالمنطقة، خاصة وأن الأقليات الشيعية كم يعمل له ألف حساب بتلك الدول…
وعلى كل حال، فإن الشعب المصري يتصدي للإخوان ببسالة اليوم، ويجهض مخططاتهم التمكينية واحداً بعد الآخر….ولقد ساعد فى ذلك أن الإخوان سرعان ما انكشف سرهم وانفضح أمرهم، وذلك عندما تكالبوا على السلطة بنهم لا يعرف التعقل، وأرادوا أن ينفردوا بالأمر فى غفلة من الزمان، وأن يكملوا دوائر التمكين علي جناح السرعة…وفى هذه الأثناء، توقفت عجلة الاقتصاد، واهتزت السياحة، وانقطع حتى بنزين السيارات… وتعسر رغيف العيش….فاندلقت الجماهير للشوارع مرة أخري…ولن تعود لديارها حتى يذهب الإخوان فى مصر إلي مذبلة التاريخ.
ولكن المشكلة الكبري، كما أسلفنا فى ورقات سابقات، أن الإخوان يسعون للإنفراد ببعض الدول الخليجية، عبر حلف وثيق مع الدولة الشيعية المعروفة بالمنطقة، فى وسط بيئات ليست لديها خبرة سياسية متجذّرة، و لا معرفة متأصلة بحبائل الإخوان المسلمين ومؤامراتهم عبر التاريخ، منذ إنشاء الجماعة سنة 1928 بالإسماعيلية فى مصر، فى حضن المخابرات البريطانية. ويستثمر الإخوان على نطاق الدول العربية كلها الأجواء "الثورية" التى أشعلها "الربيع العربي"، كأنهم جزء من ذلك الربيع، مع أنهم كانوا حلفاء للسلطان وجزءاً من مؤسساته التشريعية حتى الفترة السابقة للانتفاضات، ومع أنهم لا يحفلون بالحريات الديمقراطية و لا يستهدفون العدالة الاجتماعية…
وليس من غاياتهم الإصلاح والتقدم الاقتصادي…فهم طلاب سلطة فقط، وعندما يتمكنون… يفتكون بكل القوي السياسية الأخري، و لا يتركون إلا أقرب الأقربين من العشيرة والمحاسيب….وينقلبون حتي على زعمائهم الذين ظللوا ملتزمين لعشرات السنين…إذا ما اختلفوا حول توزيع الغنائم والأسلاب….هذا ما حدث فى السودان عندما قلب نظام الإخوان طهر المجن لمؤسس الحركة حسن الترابي ورهطه. فإلإخوان فى السلطة عبارة عن مافيا ماسونية متخصصة فى النهب والسلب، مستعينة بالقوة المحضة والعنف الشرس ضد كل الاخرين
و لا يكفى أن حكومات الخليج تتصدي للإخوان بالإجراءات الأمنية فقط، إذ لا بد من تصعيد الحملات الإعلامية والفكرية التى تدحض ممارسات وآيديولوجية الإخوان وكافة الجماعات التكفيرية والمتطرفة المتفرعة منهم. وكان جيداً أن أتيحت الفرصة للخرباوي وغيره من المفكرين العرب لكي يخاطبوا الرأي العام بالإمارات.
وهنالك نشاط مقدر تقوم به المؤسسات الوليدة مثل مزمار للدراسات والبحوث، ولكن لا بد من المزيد من الانفتاح على القوى السياسية والمفكرين الذين يجيدون التصدي لجماعة الإخوان ويفحمونها ويغسلون عن الجماهير الدرن الذي تركته على جسمها هذه الجماعة بعد عقود طويلة من الممارسة والتآمر بدول الخليج وبكافة الدول العربية والإسلامية.
ألا هل بلغت….اللهم فاشهد! والسلام.
الصدر : سودانيز اون لاين