رؤية فقهية في حقيقة الشهادة والعمليات الإنتحارية
بقلم د. نضير الخزرجي
الحياة هي الحياة .. مسرح مليء بالمشاهد والحوادث والتجارب والتحديات، تعلق بأغصان الذاكرة بعضها وتذوب في تيزاب النسيان كثيرها، وما علق منها تتساقط أهدابها كلما تقادم الزمن، وبعض الذكريات شهدية المذاق وأخرى أشد من العلقم، ولكل ذكرى دورها الخفي في حياة صاحبها.
بين يدي كتاب "شريعة الشهادة" للفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي الصادر حديثا (2016 م) في الأعضاء 47 صفحة من القطع الرقعي عن بيت العلم للنابهين في بيروت، أعادني بالذاكرة الى آذار مارس 1982 م وحينها كنت أمتهن العمل الصحفي، وكنت في مهمة إعلامية أثناء الحرب العراقية الإيرانية (1980- 1988 م) لتغطية عمليات تحرير شوش ودزفول أو ما عرف عنها من الجانب الإيراني بعمليات (فتح المبين) التي انطلقت بنداء (يا زهراء)، تنقلت حينها مع عدد من أقراني من الشباب بين الجبهات الخلفية والإمامية مسجلا ما تراه العين ليكون مادة إعلامية، وبعد أن انتهت العمليات العسكرية التي استمرت ثمان أيام (9-17 / 3/1982 م)، سمحوا لنا بالتقدم الى الخط الأمامي ومشاهدة الأرض الحرام، وكنت حينها وأنا خلف الساتر الترابي ألحظ على البعد حركة بعض القطع العسكرية العراقية، وزحفت قليلا الى المواقع العسكرية العراقية المهجورة والتقطت بقايا صحف بغدادية كانت تتحدث عن انتصارات عظيمة ومطاردة فلول الفرس المجوس (!).
ومما سجلته عدسة العين وبقيت مخزونة في ذاكرة الأيام، مشاهد الفرح الكبير الذي غمر الشباب الغض من الحشد الشعبي (البسيج) الذين كانوا يتسابقون على الموت من أجل استعادة مدنهم التي أقحم فيها نظام صدام حسين الجيش العراقي لاحتلالها لتحقيق أجندات خارجية لازال العراق يعاني من ويلاتها حتى يومنا هذا، وحيث كنا نتحرك خلف الساتر الترابي لا نملك سوى عدستنا وقلمنا وبقايا أوراق، كان بعض الشباب يسير على الساتر فرحا نشوانا بكامل بدنه أو بنصفه، ولقد أنستهم فرحة الإنتصار حقيقة الطرف الآخر الذي لازال يمسك بالبندقية رغم أنه فقد أكثر من خمسين ألف جندي بين قتيل وأسير في حرب طخياء لا طائل منها، وبلغة فارسية ضعيفة مفهومة مصاحبة للغة البدن، توجهت الى بعضهم بالنصيحة طالبا منهم النزول من على الساتر لتفادي القنص من بعيد أو تشخيص المنطقة للهاون أو المدفعية، فرد علي أحدهم والحبور أخذ من جناحيه مأخذا: (برادر من ، نه ترس، با يك گلوله شربت شهادت را مي نوشم) (لا تخف يا أخي، إنها رصاصة واحدة وبعدها أتناول كأس الشهادة)، لم يقتل هذا الشاب في تلك اللحظة، ولكن قذيفة هاون جاءتنا وانفجرت بالقرب منا لاحت شظاياها سيارتنا، ثم انطلقنا الى موقع آخر خشية أن يبللنا بقايا كأس لا ينبغي سقوطه فوق الساتر.
كلمات الشاب المتطوع لتحرير أرضه، هي في ذاتها معبرة وذات دلالات عميقة على حب الاستبسال وعدم الخوف من الموت، ولكنها في معيار الشرع وحسابات العرف العسكري مردودة على صاحبها، إذ لا يصح شرعا وعرفا أن يعرض المرء نفسه لخطر الموت وهو يستطيع تفاديه، كما من العبث اطلاق العيارات النارية دون جدوى إن كان في المعركة أو خارجها.
مفهوم الشهادة
لا شك أن التبادر هو الحبل السري بين المفردة اللغوية ومفهومها، فالصلاة هي الدعاء من الناحية اللغوية ولكن الذي يتبادر الى الذهن عند سماعها هي هيئة الصلاة اليومية من نية وتكبير وقيام وركوع وسجود وتشهد وسلام، والشهادة مفردة أثيرية والمتبادر منها عند الذهن هو الموت قتلا في سبيل الله، ولكن كلمة الشهادة من الناحية اللغوية تعني الحضور والشهود، ولم تأت في القرآن صراحة بمعنى القتل، وإنما القتل في سبيل الله هو الشهود بذاته، ولذلك يقال للمقتول في المعركة الحقة بأنه شهيد لأنه يشهد بدمه على أحقية ما هو عليه وبطلان ما عليه الطرف الآخر ، وشهوده هذا حجة على غيره في تولي أولياء الله والتبري من أعدائهم، وعززت الروايات والأحاديث مفهوم الشهادة عندما سمت المقتول في سبيل الله شهيدا.
هذه المفردة التي تهفو إليها أفئدة المضحين تناولها الفقيه الكرباسي في التمهيد وفي 75 مسألة فقهية مع 14 تعليقا للفقيه آية الله حسن رضا الغديري، الذي اعتاد أن يقدم لكل (شريعة) جديدة بمقدمة ضافية من سنخ موضوع الشريعة.
فالشهادة كما يعرفها الفقيه الكرباسي في التمهيد بأنها: (مصدر شهد بفتح أوله وكسر ثانيه ومضارعه يشهد مفتوح العين وهو القتل في سبيل الله، وأصل المفردة تعيين الحضور والإخبار عما شهده وحضره، واستعير القتل في سبيل الله باعتبار قيامه بشهادة الحق في أمر الله جل وعلا، والشهيد إسم مفعول كما في قتيل بمعنى المقتول، والمشهد بفتح الميم اسم مكان استشهاد الشهيد، والمستشهد بضم الميم هو المقتول في سبيل الله)، ويضيف الكرباسي مؤكدا: (ولم تستخدم المفردة في مختلف صياغتها في القرآن الكريم بمعنى القتل في سبيل الله ولكنها استخدمت في روايات الرسول (ص) وأهل بيته الأطهار)، فالآية 169 من سورة آل عمران جاء فيها: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون)، وفي الآية 4 من سورة محمد (ص): (والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم)، وفي الآية 154 من سورة البقرة: (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون)، و في الآية 74 من سورة النساء: (ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما) ، وغيرها من الآيات، نعم هناك آيات أربع كما يضيف الكرباسي في التمهيد لها دلالات على معنى القتل في سبيل الله، وهي: (النساء: 69، النساء: 72، الزمر: 39، والحديد: 19) وهي إشارات غير مباشرة إلى الموت شهيدا، حيث أن المؤمنين بأجمعهم هم شهداء بالمعنى اللغوي، كما في قوله تعالى في الآية 143 من سورة البقرة: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا).
وأما الروايات التي تشخص الشهادة بالقتل في سبيل الله فهي كثيرة، ومنها قول الرسول الأعظم محمد (ص): (ما من أهل الجنة أحد يسره أن يرجع إلى الدنيا وله عشرة أمثالها، إلا الشهيد فإنه يود أن يرد الى الدنيا عشر مرات فيستشهد لما يرى من فضل الشهيد).
الشهادة وتنوعاتها
يرى الفقيه الكرباسي أن: (الشهادة الشرعية هو الذي يقتل ضمن حرب قائمة بين المسلمين وأعدائهم، سواء كان في ساحة القتال أو على جنباتها، إذا كان ضمن معادلة الحرب)، وحصر الشرعية بالشهادة بلحاظ مراسيم ما بعد الموت لأنه: (من ثبت شهادته فإنه لا يغسل ولا يحنط ولا يكفن بل يدفن بثيابه ودمائه)، وبخلاف ذلك: (إذا لم تكن الحرب شرعية أي دون إذن المعصوم (ع) أو المجتهد الجامع للشرائط في حال غيبته، فالمقتول في مثل هذه الحروب لا يعد شهيدا شرعيا، ولا يمكن أن يسقط عنه الغسل والحنوط والكفن ولا يصح وصفه بالشهيد).
ولكن هل اقتصر مفهوم الشهادة على الموت حصرا، وهل أجر الشهادة مقتصر على المقتول في سبيل الله، وهل اختصت الشهادة بالذكور دون الإناث وبالبالغين دون القاصرين، وهل اختصت الشهادة بالمسلم فقط؟ هذه الأسئلة وغيرها يجيب عليها الفقيه الكرباسي في طي المسائل الفقهية التي يتناولها، ليخلص إلى أن للشهادة مصاديق أخرى غير الذي يقتل في ساحة المعركة، ومن أمثلة ذلك، حراس الثغور: (إذا كانت فرقة من المسلمين يحرسون الحدود أو أن فرقة يداوون الجرحى أو يؤمنون المؤونة للجيش المقاتل فهاجمهم العدو وقتلهم فهم شهداء في نظر الشرع وإن لم يقتلوا في ساحة المعركة)، وموت الغدر شهادة: (فلو قتل العدو أحد المقاتلين غدرا فالمقتول شهيد)، وموت حرب المدن شهادة: ف (في الحروب الحالية التي تكون فيها الأمة كلها في خطر لأن العدو يهاجم بالقنابل والصواريخ سواء يكون إطلاقها من منصات أو من الطائرة على المدن والسكان فإن من يقتل منهم شهيد)، والكل يدخل تحت خيمة الشهادة إذ: (لا يشترط في الشهيد الذكورة والأنوثة، ولا العقل والجنون، ولا البلوغ والتكليف ولا شيء آخر)،
من هنا فإن (المرأة وضع عنها القتال ولكن لو قتلت في المعركة من خلال قيامها بأمور أخرى كتضميد الجرحى وتصليح السلاح وإيصال المؤن، أو اضطرت الى الدفاع عن النفس أو كانت في حرب دفاعية فقتلت فإنها شهيدة شرعية)، وأهل الكتاب والذمة شهداء: (إذا كان في دولة إسلامية أهل ذمة من النصارى واليهود والمجوس فقتلوا من قبل العدو وإن كانوا على عقيدتهم فهم شهداء إذا كانوا مع المسلمين مدافعين عن الوطن أو في حروب الصواريخ والقذائف، فلا يغسلون ولا يحنطون، ولا يكفنون)، وإن اختلف معه الفقيه الغديري في تعليقه وفيه: (قد يصعب إطلاق "الشهداء" عليهم، بل هم ينالون ثواب الشهداء أو التخفيف في العذاب، والله العالم)، وقتيل التفجير شهيد: (إذا قتل المحارب وهو في طريقه إلى القتال ولو بسبب التفجيرات فهو شهيد)، وقتل الحادث شهيد: (من قتل وهو في طريقه الى القتال بسقوط طائرته أو سيارته من شاهق، فالظاهر أنه شهيد أيضا).
وهناك من يتصف بالشهادة وينال أجر الشهيد وفقا لما ورد في عدد من الروايات والأحاديث: (بمعنى أن أجره أجر الشهيد ولكن يغسل ويحنط ويكفن)، مثل: (طالب العلم متى ما مات وهو في طلب العلم مات شهيدا)، وكذلك (ورد في حق من كان في انتظار الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف)، أو (من مات على حب آل محمد (ص))، أو (مات على الطهارة)، أو (من جاهد نفسه)، أو (مات في حالة مداراة الناس)، أو (مات بعد الحج أو العمرة في غضون سنة)، أو (مات على وصية حسنة)، أو (مات بعد إقامة بعض الصلوات المندوبة أو تلاوة بعض السور القرآنية أو قراءة بعض الأدعية)، أو (مات في الكد لعياله أو في غرق أو تحت جدار أو ما شابه ذلك فإنه في حكم الشهيد)، أو (من مات بالسم غيلة من قبل العدو) فهو في حكم الشهيد، أو (من جرح في المعركة ولم يمت ومات بعد ذلك بسبب ذلك الجرح) فهو بحكم الشهيد، أو (المرأة النفساء إذا ماتت في حكم الشهيدة)، أو (من توفي في سبيل الوالدين)، أو (من مات عن مرض عضال)، أو (من مات في يوم الجمعة وليلتها)، ومما يحسب في عداد الشهداء من يموت حرقا، ولكن أجر الشهيد مشروط ب: (أن يكونوا ملتزمين بالعقيدة والأحكام الشرعية فلا يكونون من العاملين بالمحرمات ولا من التاركين للواجبات، ومن الموالين للرسول (ص) وأهل بيته (ع))، وإلا فهو ميت كغيره من الأموات.
انتحار لا استشهاد
لا شك أن الإبتعاد عن منهج (الراسخون في العلم) يوقع المرء في أخطاء قاتلة وإن تلبس بلبوس الإسلام، فالموت حق لا مناص منه (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) سورة الرحمن: 27، ولا يمكن للإنسان أن يخرج من مملكة السماء إلا باذن رب السماء (وكلهم آتيه يوم القيامة فردا) سورة مريم: 95، ولكن لا ينبغي له أن يذهب برجله الى الموت من غير عذر شرعي، وفي استحصال العذر الشرعي لابد من الاحتكام الى الراسخين في العلم أو من ينوب عنهم من الفقهاء الصائنين لأنفسهم والحافظين لدينهم والمخالفين لهواهم والمطيعين لأمر مولاهم، وإلا سقط المرء في وحل أنصاف الفقهاء ومن دونهم من المتفيقهة الذين يقدمون صكوك الغفران وجنة ورضوان لمن يقدم على قتل عشرة من المسلمين على غير مذهبه، أو يفجر المفخخات في الأسواق والمحال العامة أو يتمنطق بحزام ناسف بين السكان، بدوافع مذهبية ملؤها الحقد والكراهية، حتى يعجل على نفسه تناول الطعام مع نبي لهم لا يعرف من الدنيا الا الموت والسيف وليس هو الذي قال فيه رب الخلائق: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) سورة الأنبياء: 107.
فالموت المشروع في سبيل الله من أجل الوطن والعرض والمال والدين يتحقق فيه (الشهادة) ولأهل الشهيد أن يفتخروا به وهم مرفعو الرأس، كما (إن تمني الشهادة في سبيل الله أمر محبوب شرط أن لا يكون هدفا بل لنيل الجزاء)، كما يؤكد الفقيه الكرباسي، أما الموت تحت عنوان (العمليات الإستشهادية) فليس على شيء وإن تصور البعض أنه فيه غرضا نبيلا، ذلك أن: (العمليات التي تعرف بالاستشهادية حتى وإن كان الهدف منه نبيلا لا تجوز، وتعد انتحارا)، لأن (الشهادة ليست هدفا، فمن ذهب للقتال لأجل الشهادة ففي شهادته إشكال)، و (إذا سئم امرؤ من حياته والتحق بالجيش ليموت فهو إنتحار مبطن)، ثم إن: (الإنتحار محرم مهما كانت الظروف)، إلا (إذا أقدم استشهادي على عملية انتحارية فإن كان غافلا عن حرمتها بل تصور جوازها فلربما لا يعد من المنتحرين، ولا يعاقب)، نعم (إذا أجاز حاكم الشرع القيام بعملية استشهادية في ظروف معينة وبشروط دقيقة فلا يجوز إشاعتها بل تختص بموردها)، وحتى في حالة الشهادة فهناك مستحقات لا تسقط عنه ف (الشهيد تمحى ذنوبه التي بينه وبين الله ولكن لا تسقط من ذمته حقوق الناس فلابد من أدائها).
إن النتيجة المستخلصة من (شريعة الشهادة) تتمحور في الفهم الحقيقي لمعنى الحياة التي ينبغي أن تقود صاحبها الى إعمارها وبنائها، فكل الأديان والشرائع منذ أبينا آدم (ع) إلى خاتم الأنبياء والرسل محمد (ص) نادت بالبناء والعمران، وأن الفوز برضوان الله وجنانه يتأتى من خلال إحياء النفوس وقيادة الناس إلى ما فيه خيرها في دنياها وأخراها، ومن يطلب الشهادة فليطلبها من معينها بعد أن يكون قد بلغ من العمر عتيا في خير نفسه وصلاح عباده، فالموت عندها هو بداية مرحلة جديدة من الفوز العظيم والنعيم المقيم، مثلما قال أسد الله الغالب علي بن أبي طالب (ع) عندما ضربه الخارجي عبد الرحمن بن ملجم على رأسه بالسيف وهو صائم يصلي في محراب الكوفة ليلة القدر 19 شهر رمضان عام 40 ه (فزت ورب الكعبة).