الرقة " المسلة " … تتمتع مدينة الرصافة التي تقع على بعد 40 كيلومترا جنوبي غرب مدينة الرقة وتعتبر من أعرق المدن التاريخية بأهمية اثرية كبيرة لاحتوائها سبع كنائس بين كبيرة وصغيرة إلى جانب البازيليكا الكبرى كنيسة الشهداء وما تزال آثارها قائمة حتى الآن.
وذكرت المدينة في اقدم الرقم الآشورية للقرن التاسع قبل الميلاد باسم راصابا وكانت مركزا لمرور القوافل و مقرا لحاكم آشوري سيطر على طرق التجارة و مناطق استيطان القبائل حولها وذكرت أيضا باسم رسيف و تعني الحجر البراق الذي لم ينضج جيولوجيا بعد.
كما ورد اسمها في كتب التاريخ كإحدى مدن منطقة تدمر على الطريق الرومانية بين دمشق و تدمر والطيبة باتجاه الفرات لتصبح بعد العام 293 ميلادي تابعة لمقاطعة الفرات حيث كانت تقيم فيها حامية ضمن سلسلة الحصون الدفاعية الرومانية التي امتدت 30 كيلو مترا بين الحصن والآخر وكانت تبدأ من تدمر وآراك والسخنة والطيبة والكوم والرصافة وتنتهي بمدينة سورا على نهر الفرات لتؤمن بذلك سير القوافل القادمة حتى البحر المتوسط.
وقال رئيس دائرة آثار الرقة محمد السرحان "إن الرصافة شهدت عدة عهود بعد الرومان و استمرت في عهد الدولة البيزنطية وحافظت على مركزها الهام إلى حين انتشار الإسلام بالمنطقة وفي العهد الأموي نقل الخليفة العاشر هشام بن عبد الملك مركز إقامته اليها في العام 724 ميلادي وبنى فيها قصرين خارج أسوارها من جهة الجنوب والجنوب الشرقي ومجموعة من الأبنية السكنية الأخرى إضافة إلى الجامع الأموي المتاخم لكنيسة القديس سرجيوس".
وأضاف السرحان ان هذا الجامع يمتاز بطراز معماري مشابه للجامع الأموي الكبير في دمشق و يحتوي قاعة للصلاة ثلاثية الأجنحة مسقوفة بأسقف جمالونية إضافة إلى صحن الجامع والمحراب الذي مازال واضحا حتى الوقت الحاضر.
وبين السرحان ان البعثة السورية الألمانية العاملة بموقع الرصافة خلال موسم التنقيب الماضي تمكنت من الكشف عن الملحقات السكنية للقصور الأموية وعن غرفة مشيدة فوق حجر كلسي جدرانها من الآجر المشوي وفي أعلى الجدران مواضع لتركيب الأعمدة التي وجد بعض آثارها وهي دلالة على أن المبنى كان يتألف من طابقين فضلا عن اكتشاف برج يمثل زاوية مبنى ومصطبة بديعة التشكيل وفي غاية الجمال يعتقد أنها استخدمت كأريكة جلوس ومكان لإقامة الخليفة هشام بن عبد الملك.
وأكد رئيس دائرة اثار الرقة السرحان أن عمليات التنقيب والترميم ستستمر في موقع المدينة لما لها من أهمية تاريخية وعمرانية هندسية على مستوى المنطقة حتى التوصل إلى سبر كل الأجزاء المدفونة من المرافق التابعة لها و تأهيلها وفق مخططاتها الهندسية القديمة بما يتيح للزوار التعرف عليها والتمتع بجمالها مشيرا إلى أن المكتب التنفيذي لمجلس المحافظة وافق مؤخرا على البدء بأعمال التأهيل بالمدينة وتزويدها بشبكة إنارة تتناسب مع الأهمية التاريخية والأثرية.
بدوره لفت الباحث الآثاري محمد العزو من مديرية آثار الرقة إلى ان الرصافة سميت في القرون الميلادية الأولى سيرجيو بولس نسبة إلى الضابط السوري سيرجيوس والذي اعلن انذاك برفقة ضابط آخر هو باخوس في عام 305 ميلادي عدم الانصياع للأوامر الرومانية فأرسلا إلى حصن الرصافة وعذبا هناك حتى الموت ودفن سرجيوس خارج الحصن داخل المدينة الحالية واعتبر منذ ذلك الوقت قديسا وبني في موضع رفاته كنيسة وعرفت الرصافة انذاك بمدينة سرجيوبولس أي مدينة القديس سيرجيوس.
وبين العزو أن مدينة الرصافة شهدت في تلك الفترة ازدهاراً كبيراً كونها أصبحت مركزا دينيا مهما للحجاج المسيحيين وبنفس الوقت من أبرز المراكز التجارية على طريق الحرير ما أدى لازدهارها عمرانيا و تجلى ذلك ببناء سور المدينة الدفاعي الذي يضم 50 برجاً دفاعياً مجهزة بممرات دفاعية إضافة إلى بناء خمس كنائس ضمن السور أربع منها من طراز البازليكا والخامسة مركزية.
ولفت العزو إلى أن تطور المدينة في الجانب المدني تمثل ببناء خزانات المياه والخان والأبنية السكنية وبلغت اوج ازدهارها في عهد الإمبراطور جوستنيان بين أعوام 527-562 ميلاديا.
وأوضح أن كنيسة القديس سيرجيوس التي أعيد بناؤها عام 559 للميلاد وسميت حينها كنيسة الشهداء تعد من أهم الكنائس الموجودة في المدينة ومن أكبر الكنائس في المشرق مبينا أن آثارها تتميز بطراز معماري وزخرفة فنية فريدة جزء منها مازال محافظا على شكله تماما حتى اليوم مثل البوابة الشمالية في الكنيسة المركزية بالرغم من تعرض المنطقة لسلسلة من الزلازل في القرن السادس الميلادي أدت إلى انهيار جزء كبير من مباني المدينة.
وتابع ان كتلة الأقسام الشرقية ماتزال قائمة حتى الحافة العليا من الدور الثاني و في الجهتين الشمالية والغربية من الكنيسة حتى أعلى النافذة وان للكنيسة ثلاثة محاريب زينت أقواسها بالزخارف المنحوتة.
وأوضح الباحث الاثاري أن طول الكنيسة يبلغ 42 متراً وعرضها 34 متراً وطول بهوها الأوسط 22 متراً وعرضه 10 أمتار مشيرا إلى أن المنقبين عثروا على بلاطة المحراب الجانبي الشرقي التي يعتقد أنها كانت على ضريح القديس سرجيوس فضلا عن اكتشاف مجموعة من الأعمدة والتيجان المزخرفة وبعض الأعمدة وردية اللون والتي يعتقد أنها جلبت من مدينة بعلبك التاريخية الواقعة في سهل البقاع اللبناني.
كما ان للكنيسة وفقا للباحث العزو قبة مركزية محمولة على مربع له في زواياه الأربع أقواس على شكل مثلثات فراغية نتجت عنها حلقة دائرية شكلت الرقبة الأساسية للقبة المركزية التي سمحت بإنشاء نوافذ ذات ارتفاعات متساوية ومزودة بزجاج وأطر خشبية ملونة على كامل الدائرة و أتاحت المجال لإنارة الكنيسة من الداخل.
وأشار الباحث العزو إلى أن الصحن الرئيسي لهذه الكنيسة في الجهة الشرقية ينتهي بحنية لها ثلاث نوافذ تطل شرقا ويصعد إلى هذه الحنية بواسطة أدراج نصف دائرية تنتهي أطرافها من الشمال والجنوب عند عتبات مدخلين لغرفتين تحيطان بها من اليمين بينما من اليسار لهما دور وظيفي ديني فالحجرة التي تقع على اليسار لها درج يصعد إلى الطابق الثاني لغرفة التعميد أما الطابق الأرضي لغرفة التعميد فعثر فيه على قوس كبير متصدع عليه زخارف تمثل أوراق الكرمة وزهرة الأكانتوس.
ونظمت مديرية سياحة الرقة عددا من الفعاليات والأنشطة السياحية بمدينة الرصافة و حولها من أبرزها القداس المشترك الذي أقيم عام 2010 في كنيسة الشهداء بمشاركة عدد من الشخصيات الدينية من مختلف دول العالم وبحضور 100 وسيلة إعلامية إضافة إلى اقامة مهرجان البادية لسباق الخيل والهجن وعرض الصناعات التراثية التقليدية فيها.
وعثرت البعثات الأثرية العاملة بالموقع خلال المواسم الماضية في منطقة المذبح الحنية الشرقية لكنيسة الشهداء على حصيرة من الفسيفساء وصندوق يحتوي مجموعة من الأواني الفضية والنحاسية مطعمة بالفضة والذهب عليها كتابات سريانية تعود إلى القرون الوسطى حيث أطلق المنقبون عليها اسم كنز الرصافة.
المصدر : سانا