بقلم : محمود كامل
لعل قسوة الحاضر تدفع العواجيز فقط للهرب إلى الأيام «الخوالي» التي ظل «زخمها» يلقي بظلاله الوارفة على واقع مرير، حتى ليبدو الأمر وكأنه هروب من «هجير الصحراء القاحلة» إلى «حديقة الله» متجددة الخضرة، متجددة فروع الأشجار والأغصان، ضاربة جذورها إلى أعمق أعماق أرض الله، بما يضمن لها حياة مخضرّة إلى يوم يبعثون، يضاف إليها نصيحة رسول الله فيما معناه: إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم «فسيلة» فليزرعها.
ويعود الهرب إلى الأيام الخوالي إلى ما يحيط بنا من أخلاقيات دخيلة نستغربها ونستهجنها لغربتها عن «جينات» الناس الطيبين، بما يؤكد أننا نعيش عصراً كل ما فيه غريب علينا، ورغم ذلك لم نحس بغربة في الوطن، ذلك أن الوطن باق، وكل ما هو غريب علينا يعود إلى حيث أتى، إيماناً بقول الله (أما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).وأذكر من تلك الأيام الخوالي أنني كنت قبل «نهاية الأربعينيات» في مدرسة «القناطر الخيرية»، حيث نعبر إلى المدرسة بالحدائق الشهيرة أحد كباري محمد علي المُقامة على النيل، أيامها انتشر «وباء الكوليرا» في مصر، وطبقت نصيحة رسول الله: إذا وقع الطاعون بأرض…إلى آخره، ليذهب أهل البلدة جميعاً إلى مكتب الصحة للتطعيم، ليحصل كل منا على تصريح مرور بالصورة إلى أي مكان ماعدا الخروج من المدينة، وذات صباح أظهرنا التصريح ليسمح لنا «عسكري المرابط» الذي يحرس مداخل الكباري بالمرور، لنسمع خلفنا صوت سيارة -على ندرة السيارات أيامها- لنفاجأ بسيارة حمراء -وكان اللون الأحمر قاصراً على السيارات الملكية- أمامها شرطي بموتوسيكل ليوقفها العسكري طالباً تصريح المرور، فيحاول الشرطي إقناع العسكري بأن السيارة بها «الملك فاروق»، ليرد العسكري: معاكم تصريح حتمرّوا، أنا لا أعرف ملكا ولا كتابة، ليظهر الملك والسائق والشرطي تصاريحهم، فيسمح لهم بالمرور، لينزل الملك من سيارته مصافحاً العسكري على انضباطه!