بقلم: الدكتور رؤوف الانصاري
السياحة الدينية هي السفر بهدف زيارة الأماكن المقدسة . والسياحة هي صناعة مرتبطة بالرغبة الإنسانية في المعرفة وتخطي الحدود . وستظل السياحة بشكلٍ عام، والسياحة الدينية بشكل خاص ، من أكثر الصناعات نمواً وأكثرها رسوخاً في المستقبل. وتحتل السياحة الدينية في حضارات الشعوب واقتصادها موقعاً متميزاً ومكانة بارزة، فبالإضافة لمردودها الاقتصادي تشكل جسوراً حضارية مهمة للتقارب والتفاهم بين الشعوب.
وما إن نذكر عالماً من علماء الأمة إلا ونجد أنه ساحَ في كثير من البلدان، وتنقل ما بين الشرق والغرب ، من الأندلس والمغرب إلى القاهرة ودمشق واسطنبول وبغداد والمدن الدينية المقدسة ، وإلى طهران وخراسان وكابول وآسيا الوسطى وبالعكس، بهدف الزيارة والحصول على العلم والاستزادة منه . وكلما كثر ترحال العالم ازدادت سعة علمه ومعرفته.
وقد شهدت السياحة خلال القرون الماضية ازدهاراً واسعاً ، خصوصاً سياحة العلماء والرحالة والمؤرخين من أمثال المسعودي، الخوارزمي ، البيروني، الإدريسي، ابن فضلان (الذي وصل إلى شمال أوروبا)، ابن بطوطة ، حمد الله المستوفي، ابن جبير، ياقوت الحموي ، ابن عساكر ، ابن سينا ، جابر بن حيان ، الكندي ، الفارابي وغيرهم . حيث توسعت آفاق علمهم واستفادت من علومهم وتجاربهم الشعوب الإسلامية وشعوب العالم الأخرى ، وما زالت الكثير من مؤلفاتهم تعتبر أحد أهم المصادر العلمية وتُدرس في معظم جامعات العالم .
ويُعد علي بن هبة الله المعروف بابن عساكر (499 – 571هـ / 1105 – 1176م) مؤرخ دمشق ومحدثها من الرحالة المشهورين والذي سافر من دمشق في طلب الحديث ، فكانت له سياحتان (دينيتان) واحدة إلى بغداد سنة 521هـ ، وأخرى إلى خراسان سنة 529هـ عن طريق آذربيجان ماراً بخوي وتبريز ومرند ، ثم زنجان ، ثم أبهر وصولاً إلى خراسان ، سامعاً من مشايخ هذه البلدان وغيرها من البلدان الأخرى .
وتُعد رحلات ابن عساكر نموذجاً للسياحات (الدينية) التي قام بها العلماء والرحالة ، إذا كان لنا أن نطلق على هذه السياحة صفة (الدينية) لأن هدفها كان دينياً ، فقد تجاوزت هذا الوصف ، فالذين أرخوا لابن عساكر مثلاً ذكروا مَن سمع منهم الحديث في مدينة (أبهر) ثم قالوا : وسمع من هبة الله بن أبي الهيجاء شيئاً من الشعر. وبذلك تكون السياحة الدينية سياحة أدب وشعر وثقافة عامة إلى جانب هدفها الأساس: سماع الحديث وروايته . وقال ابن عساكر متحدثاً عن سياحاته الدينية من قصيدة :
وأنا الذي سافرت في طلب الهدى . . . سفرين بين فدافد وتنائف
وأنا الذي طوفت غير مدينة . . . . . من اصبهان الى حدود الطائف
والشرق قد عاينت أكثر مدنه . . . . . بعد العراق وشامنا المتعارف
وجمعت في الاسفار كل نفيسة . . . . . ولقيت كل مخالف ومؤالف
وهو في أبياته هذه يجلو لنا السياحة الدينية أحسن جلاء ، هذه السياحة التي توطن صاحبها على جوب الافاق البعيدة ، وتحمل المصاعب الشديدة ، ليجمع في الاسفار النفائس من السنة النبوية المتمثلة فيما يراه الصحيح من الحديث .
وتعتبر السياحة من العناصر الأساسية في الثقافة الإسلامية ، وهي ليست زيارة الآثار ومعالم المدن التاريخية والدينية والسياحية فحسب ، وإنما وسيلة للتعارف بين المجتمعات والإطلاع على تقاليدها وعاداتها والتعرف على ثقافاتها ، وهي أداة للتواصل الحضاري والثقافي بين شعوب العالم.
وتحتضن الدول الإسلامية خصوصاً العراق العديد من الأماكن المقدسة التي تعتبر من أبرز معالم الحضارة الإسلامية التي تستقطب ملايين المسلمين وغيرهم من أرجاء العالم ، بالإضافة إلى شواهد دينية بارزة لإتباع الديانات الأخرى .
لذلك لابد من السعي والعمل على تطوير السياحة الدينية في العراق من خلال وضع برامج متطورة لاستقبال مجاميع الزوار ، وتشمل بالإضافة إلى زيارة العتبات المقدسة ، إيجاد طرق حضارية ، منها التعرف على ثقافات المجتمعات وتبادل الزيارات وإقامة الندوات والمعارض والمهرجانات التسويقية وزيارة معالم المدن الأخرى القريبة من المدن الدينية ، وتوفير كافة الخدمات والمستلزمات الضرورية التي يحتاجها الزوار والسواح، كالمرافق الصحية والاسبلة ( أماكن شرب المياه ) والعيادات الطبية ومراكز الإرشاد والاتصالات ومكاتب الشرطة السياحية ، بالإضافة إلى تأهيل وتحسين الفنادق والمطاعم والمرافق السياحية الأخرى والإشراف عليها بصورةٍ مستمرة .
إن ما تتصف به الشعوب الإسلامية هو كرم الضيافة وحُسن الاستقبال والترحيب بالزائر والسائح . لذلك فإن السياحة الدينية ، وخصوصاً في العراق ، وفي الظروف الطبيعية ، لها طابع مميز حيث يشعر الزائر أو السائح بأنه بين أهله وذويه ، والعديد من الزائرين تطيب لهم الإقامة مدة أطول خصوصاً في المدن الدينية المقدسة لزيارة مراقد أئمة أهل البيت (ع) مستمتعين بطيبة وكرم أهلها وتعاملهم الحسن مع الزائرين .
ويُعد العراق من الدول الفريدة في العالم الإسلامي بمعالمه الدينية البارزة ، حيث يتميز عن غيره من الدول الإسلامية الأخرى باحتضانه العديد من مراقد الأنبياء (ع) كالنبي إبراهيم (ع) والنبي نوح (ع) والنبي يونس (ع) والنبي ذو الكفل (ع) ، وستة مراقد من أئمة أهل البيت (ع) وهي : مرقد أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي الطالب (ع) في مدينة النجف الأشرف ، ومرقدي الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب وأخيه العباس (ع) في مدينة كربلاء المقدسة ، ومرقدي الإمامين موسى بن جعفر الكاظم ومحمد بن علي الجواد (ع) في مدينة الكاظمية ببغداد ، ومرقدي الإمامين علي الهادي والحسن العسكري (ع) في مدينة سامراء بالإضافة إلى مراقد بعض أئمة المذاهب الإسلامية وشيوخ الطرق الصوفية والصحابة كمرقدي الإمام أبي حنيفة النعمان والشيخ عبد القادر الكيلاني في مدينة بغداد ، ومرقد الصحابي الجليل سلمان الفارسي (رض) في منطقة المدائن (سلمان باك) قرب بغداد مع العديد من المعالم الدينية المهمة لأتباع الديانات الأخرى .
أما في مدينة الكوفة فلا يزال مسجدها الجامع الكبير شامخاً إلى يومنا هذا بجانب العديد من المساجد كجامع السهلة والمزارات ومقامات الأولياء والصالحين ، بالإضافة إلى العديد من المساجد والمعالم الدينية المنتشرة في أرجاء العراق .
والسياحة الدينية إلى المدن المقدسة في العراق لها معانٍ كثيرة ، فهي سياحة جليلة وعظيمة ، لذلك فإن زيارة العتبات المقدسة تعتبر جزءاً من الشعائر الإسلامية لملايين المسلمين .
كانت المدن الدينية المقدسة في مراحل عديدة من تاريخها مركزاً لالتقاء الحضارات والثقافات والشعوب من شتى الأقطار الإسلامية ، وكانت صلة وصل بين علماء ومفكري البلدان الإسلامية على مرّ العصور.
وبعد سقوط النظام المباد الذي فرض خلال فترة حكمه قيوداً على زيارة المدن الدينية المقدسة ، ومنع زائري الدول الإسلامية من زيارتها ، فإن زيادة حركة وتدفق الزوار والسواح إلى هذه المدن قد ازدادت بصورة كبيرة جداً خلال السنوات الاخيرة ، لذلك لابد من تنفيذ العديد من المشاريع العمرانية والخدمية والتخطيطية والسياحية خصوصاً تطوير مراكز هذه المدن والاحياء القديمة المحيطة بها ، لاسيما المحاور الرئيسية المؤدية الى العتبات المقدسة ، وتوسعة الروضات المشرفة وتأهيل وتحسين المراقد والمعالم الدينية الأخرى في المدن المقدسة وضواحيها ، مع زيادة الطاقة الفندقية وإقامة الأسواق الجديدة وبالخصوص الأسواق الشعبية ، وإنشاء المدن السياحية والفنادق الحديثة في ضواحي ومحيط المدن القديمة ، كبحيرة الرزازة في كربلاء ، وبحر النجف والمناطق المطلة على نهر الفرات في الكوفة وبحيرة الثرثار في سامراء والمناطق المطلة على نهر دجلة في الكاظمية ، بحيث تتوفر فيها جميع خدمات المدن السياحية كالمطاعم وملاعب الأطفال والحدائق ومراكز الانترنت ، وربطها بالمناطق القديمة في المدن المقدسة بشبكة طرق حديثة ووسائط نقل ، وذلك لتخفيف الضغط الكبير الذي تعاني منه المدن خلال مواسم الزيارات الدينية ، وتحسين وتأهيل الاحياء القديمة ، من خلال ترميم وصيانة المباني التراثية والتاريخية لاستيعاب الفعاليات السياحية والخدمية للزوار وبطريقة منظمة توفر كافة الخدمات الضرورية لهم وبما لا يتعارض مع وظيفتها الأصلية ، والسعي لتطوير المناطق الخلابة سياحياً كمنطقة عين التمر وذلك لكونها تقع بالقرب من قصر الأخيضر الشهير كأثر تاريخي بارز في العراق ، وتمتعها بوجود العديد من ينابيع المياه المعدنية الصالحة لعلاج مختلف الأمراض الجلدية المزمنة ، وكذلك فأنها تمتلك ثروة زراعية مهمة كالتمور والرمان والتفاح والزيتون ، بالإضافة إلى وجود العديد من الآثار المهمة التي تنتشر في محيطها ، والاهتمام بالخانات التاريخية الواقعة على طريق كربلاء – النجف من خلال ترميمها وصيانتها باستمرار .
وتعتبر سياحة التسوق أحد عناصر الجذب السياحي في المدن الدينية المقدسة ، حيث تزخر هذه المدن بأنواع متميزة من البضائع التي تستهوي الزائر والسائح لشرائها ، وبالخصوص المنتوجات والصناعات التقليدية لجودتها وأسعارها الزهيدة .
لذلك لابد من إنشاء العديد من مراكز التسوق والأسواق الشعبية الحديثة على الطراز المعماري الاسلامي في أنحاء المدن المقدسة ، بحيث تتوفر فيها كافة المرافق العامة والخدمات ومواقف للسيارات . وإيجاد الحلول اللازمة لتفادي عرض البضائع على الأرصفة والطرقات في المناطق المحيطة بالعتبات المقدسة ، مما يتسبب في عرقلة سير المشاة وحركة سيارات الإسعاف والحريق والخدمات الأخرى داخل هذه المدن ، وتشويه صورتها الحضارية المتميزة .
المصدر: بلاد نيوز