بقلم : عبد الرحيم ريحان.. مدير عام منطقة آثار جنوب سيناء
أمين لجنة الإعلام بالاتحاد العام للآثاريين العرب
لجأ الرهبان لمنطقة جبل موسى أو جبل سيناء منذ بداية القرن الرابع الميلادى وذلك لتوفر مصادر المياه والتى كان يتم تجميعها فى أحواض خاصة يتم حفرها لتجميع ميا الأمطار التى تنحدر من أعلى الصخور الصماء من الجرانيت الأحمر الذى لا تنفذه الماء وأقام الرهبان سدود من الحجر بشكل الهلال لتقاوم ضغط المياه كما ساعد المناخ المعتدل على نمو النباتات وإقامة مجتمع زراعى كما ساعد على انتشار الرهبنة حياة العزلة والأمان وليكون الرهبان قريبين من الجبل المقدس وكان أول ناسك يلجأ لهذه المنطقة أشارت إليه المصادر القديمة قديس يدعى أونوفريوس Onophrius وقد إلتجأ إلى مغارة فى وادى ليان جنوب جبل موسى وكان ذلك فى بداية القرن الرابع الميلادى ولقد زار الحجاج المسيحيون جبل سيناء منذ القرن الرابع الميلادى ومنهم الإمبراطورة هيلانة أم الإمبراطور قسطنطين التى زارت منطقة جبل سيناء عام 336م وشاهدت هناك مجتمعات رهبانية فأسست لهم كنيسة بجوار شجرة العليقة الملتهبة تسمى كنيسة العذراء وكذلك برجين محصنين وبين أعوام 381 – 384م زارت الراهبة إجيريا Egeria أو اثيري فلسطين وجبل سيناء وهى راهبة جاءت من أوربا ووصفت الحياة الرهبانية حول الجبل المقدس ووصفت الأنشطة الزراعية للرهبان وصعدت جبل موسى ورأت على قمته كنيسة وعدد من الرهبان وزار الراهب نيلوس سيناء عام 395م وكان هذا الراهب محافظاً للقسطنطينية وترك عائلته وبلاده ليحيا حياة الرهبنة بجبل سيناء وأقام هناك قرب مغارة إيليا النبى فى الأرجح إلى أن مات عام 411م .
ولقد بنى الإمبراطور جستنيان دير سانت كاترين فى القرن السادس الميلادى ليحقق ثلاثة أهداف تأمين الحدود الشرقية للإمبراطورية والدفاع عن مصر ضد أخطار الفرس و تأمين طرق المواصلات بين مصر وفلسطين و العمل على نشر المسيحية وخصص الدير للعذراء مريم وأطلق عليه دير طور سيناء وفى القرن التاسع الميلادى أطلق على الدير دير القديسة كاترين للقصة الشهيرة لهذه القديسة ومن أبدع الفنون المسيحية بهذا الدير أندر واجمل وأقدم فسيفساء فى الشرق وهى فسيفساء التجلى التى تعود لعصر إنشاء الدير فى القرن السادس الميلادى ولقد حفظت كاملة حتى الآن وحافظ عليها المسلمون طوال العصور الإسلامية التى مرت على سيناء وتقع بكنيسة التجلى الكنيسة الرئيسية بالدير وتصور تجلى السيد المسيح المخصصة له كنيسة التجلى وهى مصنوعة من قطع صغيرة متعددة الألوان يسودها اللونان الأحمر والأزرق على خلفية من الذهب المعتم وهى من عمل فنان من مركز حضارى ربما يكون القسطنطينية ويقول كروزيمر Krautheimer أن هذه الفسيفساء ربما تكون قد صنعت فى ورشة فى غزة أو جلبت من غزة أو القسطنطينية.
وتروى الفسيفساء أحداث التجلى أن السيد المسيح أخذ تلاميذه (يوحنا-يعقوب-بطرس) وصعد بهم على انفراد إلى جبل مرتفع ليكونوا شهوداً على معجزة سماوية ستحدث هناك وقد أجاد الفنان فى التكوين الفنى للوحة فى تصميمها بواقعية تتفق مع نص الإنجيل حيث نجد السيد المسيح واقفاً فى وسط هالة بيضاوية الشكل عن يمينه النبى إيليا وعن يساره النبى موسى وكلاهما يرفع يده اليمنى إيماءاً لمخاطبة السيد المسيح وصوّر الفنان تلاميذ المسيح يوحنا ويعقوب راكعان على الجانبين بينما بطرس مستلق عند قدمى المسيح والزخارف التى تزين الإطار الخارجى للتصويرة عبارة عن إطار بداخله دوائر متماسة تتضمن بورتريهات (صور شخصية) لتلاميذ المسيح الإثنى عشر الحواريين وستة عشر شخصية من الأنبياء والكاهن (لونجينوس) التى تذكر الكتابة التذكارية أسفل باطن عقد الحنية أنه رئيس الدير الذى تم تنفيذ زخرفة الفسيفساء فى عصره وفى كوشة عقد الحنية ملكان يشغلان كل مساحتها يطيران بجناحى طاووس فى اتجاه مركز العقد وأسفل كوشة العقد دائرتين ، اليمنى بها بورتريه يوحنا المعمدان واليسرى بورتريه السيدة العذراء وتعكس هذه الفسيفساء أسلوب القسطنطينية فى القرن السادس الميلادى متمثلة فى الخطوط المتعرجة الصارمة – ملامح الوجوه – الخلفية المتألقة – الغموض ويشبه هذا الموزايك موزايك كنيسة رافنا بإيطاليا وبازيليكا فى سالونيكى باليونان من حيث أن الموضوع الرئيسى حوله ثلاثون جامة بها الحواريون والملائكة والأنبياء ومطران الدير.
ويضم دير القديسة كاترين مجموعة من أهم الأيقونات وأندرها وأجملها فى العالم وهى صور دينية مسيحية فهناك أكثر من 2000 أيقونة صغيرة وكبيرة منها مجموعة فريدة ذات قيمة فنية رائعة وهى محفوظة فى كنيسة التجلى ومعرض الأيقونات وفى الكنائس الصغيرة والملحقة وفى غرف ملابس الكهنة والصوامع وغيرها من الأماكن المتعددة فى الدير وتغطى هذه الأيقونات فترة زمنية طويلة من القرن السادس حتى التاسع عشر الميلادى وتنقسم من الناحية التاريخية والفنية لعدة أقسام منها أيقونات القرن السادس والسابع الميلادى التى تعتبر أقدم الأيقونات بالدير وهى الأيقونات المسبوكة بالشمع أو المثبتة ألوانها بالحرارة ويتم ذلك بخلط الشمع فى درجة حرارة عالية بألوان نباتية ثم يعقب ذلك مباشرة نشرها فوق السطح الخشبى للأيقونة وكان الفنان يسجل أولاً تصميم الموضوع فوق سطح خشبى ثم يقوم بتسخين الشمع مع الألوان النباتية ثم يبدأ بفردها وهى ساخنة على السطح المعد من قبل باستخدام فرشة الألوان أو قلم النقش أو قطعة من الحديد المحماة فى النار ثم يقوم بسحق الألوان وحكها تدريجياً وذلك باستخدام أداة خاصة حتى يصبح لهذا المزيج خاصيته التى تجعله يتغلغل وينفذ فى أعماق مسام المادة وهكذا عندما تبرد الألوان تصبح ثابتة تماماً ولا يمكن محوها ومن أمثلة هذه الأيقونات بدير القديسة كاترين أيقونة القديس يطرس ، تنصيب السيدة العذراء بين القديسين والملائكة ، الصعود أما الأيقونات من القرن السابع حتى التاسع الميلادى فتعتبر من الأعمال الفنية التى تمت فى معامل محلية للأديرة الشرقية فى مصر وفلسطين وسوريا وصنعت فى فترة الفتوحات الإسلامية وتتميز بالسمات الشعبية وهى تقليد محلى للكنيستين القبطية والسريانية وكان لهذه الأيقونات دور هام فى الإسهام بشكل قاطع فى تشكيل وصياغة الفن المسيحى للأجيال اللاحقة وأمثلتها بدير كاترين أيقونة الصلب وهناك أيقونات من القرن التاسع إلى الثانى عشر الميلادى حيث تمثل أيقونات هذه الفترة خاصيتين متميزتين تنفردان بها الأولى وهى الفترة التى تلت فترة محاربة الأيقونات وقد داوموا فيها على الرسم التقليدى الذى كان موجودا قبل عصر محاربة الأيقونات والخاصية الثانية تمثل التحول إلى المفهوم الكلاسيكى الذى يتميز بدقة فى الشكل ومن بين هذه الأيقونات عدد كبير أنتجته معامل بيزنطة وأمثلتها بدير كاترين أيقونات لرؤساء الملائكة ، المشاهد الإثنى عشر التى تمثل حياة السيد المسيح و سير بعض القديسين وأيقونة القديس ميركيروس التى تعود للقرن التاسع الميلادى وهى تصور قتل القديس ميركيروس للإمبراطور جوليان المارق عن الدين.
وبالدير أيقونات تعرف بالمينولوجيا وهى أيقونات التقويم الشهرى لخدمة الكنيسة وتعتبر من أهم وأعظم ما فى دير كاترين حيث يصور فيها القديسون وهم يمثلون كل يوم على مدار السنة وقد نسقت اثنتا عشرة أيقونة كبيرة بدير كاترين بحيث يبدو فى كل واحدة منها صور القديسين مكتملين على مدار كل شهر ويرجع مصدر هذه الصور التقويمية إلى الكتابات الموجودة فى المخطوطات بالدير التى كتبت فى القرنين الحادى عشر والثانى عشر أما الأيقونات السينائية فهى مجموعة بالدير يرجع تاريخها إلى الفترة ما بين القرن الثانى عشر والخامس عشر الميلادى وتمثل شخصيات تاريخية كان لها اتصال مباشر بالدير وساهمت بدور فعّال فى مسيرته الروحانية من رهبان – رؤساء دير- بطاركة – شخصيات لها موضع التقديس مثل نبى الله موسى – القديسة كاترين.
ويحتمل أنها رسمت داخل الدير لكى تسجل مختلف المواقف الهامة فى تاريخ حياة الرهبنة وتعتبر هذه الأيقونات مصدر هام من مصادر التاريخ والفن ومن أمثلتها أيقونة القديسة فلاهرنيوتيسا من القرن الرابع عشر وهناك الأيقونات الكريتية التى رسمت بعد العصر البيزنطى وكان هناك اتصال مباشر بين الدير وأهالى كريت باليونان خصوصاً أشهر الرسامين من الذين ينتمون للمدرسة الكريتية الذين قاموا برسم الأيقونات التى تمثل أيقونات ما بعد العصر البيزنطى وهم ميخائيل الدمشقى –جورجى كلونتزاس – عمانوئيل لمباردو- فيكتور الكريتى – أنجيلو الكريتى وغيرهم .
ولقد حفظت أيقونات دير القديسة كاترين فى العهد الإسلامى بل أن هناك أيقونات رسمت فى العصر الإسلامى من القرن السابع حتى التاسع عشر الميلادى كما أن المسلمين لم يمنعوا جلب الأيقونات من خارج مصر إلى الدير والذى جلب إليه عدد كبير من الأيقونات من مناطق كانت خاضعة للعالم الإسلامى فى ذلك الوقت كما توفرت لأيقونات الدير الحماية فى فترة تحطيم الأيقونات التى انتشرت فى القسطنطنية والعالم المسيحى فى الفترة من 726 حتى 843م .
ويحوى هيكل كنيسة التجلى تابوتان من الفضة أهديا للدير فى العصر الإسلامى رسم على غطاء كلاً منهما صورة القديسة كاترين مصنوعة من الذهب الخالص المرصع بالأحجار الكريمة التابوت الأول إهداء من قيصر روسيا بطرس الأكبر عام 1688م والثانى إهداء من إسكندر الثانى 1860م واستخدما التابوتان فى حفظ الهدايا الثمينة ، وهناك تابوت آخر تحت قبة المظلة التى تقع على يمين مذبح الكنيسة يحوى التابوت صندوقين من الفضة أحدهما يضم جمجمة القديسة كاترين يحوطها تاج ذهبى مرصع بالجواهر والآخر يضم يدها اليسرى وتزينها الخواتم الذهبية المرصعة بالأحجار الكريمة.