كثيرة هي السطور والصفحات التي كتبت عن كوكب الشرق “أم كلثوم” .. سيرتها ومسيرتها؛ بل إن عشرات الكتاب والباحثين قدموا الكتب والرسائل العلمية التي تبرز عبقرية “أم كلثوم” وعطائها الفني المتميز، لكننا هنا نحاول أن نستشعر نبضاتها وخلجاتها، ونتعايش معها في أفراحها وأتراحها في بعض الأوقات والمواقف، نستكشف كوامن علاقاتها بالناس وعلاقات الناس بها .. نلمس قمة تواضعها في نفس الوقت الذي تهزنا فيه عظمة عنفوانها وهي تشدو بأحلى الكلمات وأعزب الألحان .. باختصار إننا سنذهب في رحلة غوص إلى أعماق أم كلثوم بالكاميرا والصورة وليس بالقلم والكلمات وحدهما ..
وهنا لم أجد غواصاً يقودنا في هذه الرحلة أفضل من المصور الكبير فاروق إبراهيم الذي اقترب منها كثيرا ورافقها في العديد من رحلاتها .. وكان المصور الوحيد الذي تسمح له أم كلثوم بالاقتراب منها بالكاميرا إلى أقرب مسافة ..
دُوْنَ نظَّارَة
لم تكن أم كلثوم تسمح لأحد أن يصورها عن قرب وهي بدون نظارة إلا فاروق إبراهيم الذي التقط لها صورة نادرة وهي تؤدي بروفة إحدى أغنياتها مع فرقتها الموسيقية بقيادة “عبده صالح” .
إن أم كلثوم رغم شخصيتها القوية التي تبدو بها أمام جمهورها إلا أنها إنسانة شديدة البساطة وطيبة القلب .. كانت خلال شهور الصيف تترك حجرات “فيلتها” كلها وتنام في البدروم بحثاً عن نسمة هواء، فلم يكن في الفيلاَّ أجهزة تكييف لأن هواء المكيفات يضر بصوتها وكانت كثيراً ما تخرج لتتمشَّى حول الفيلاَّ، ولكن بعد أن ازدحمت المنطقة التي تقع فيها الفيلاَّ بالمباني والسيارات أصبحت تفضل أن تمارس رياضة المشي في البلكونة ..
إِنسانة حَنُونة
ويدلل فاروق إبراهيم على إنسانية أم كلثوم بواقعة غريبة حدثت في المغرب عندما طلب الملك الحسن الثاني عاهل المملكة المغربية من أم كلثوم أن تغني في حفل خاص للأسرة المالكة .. وكانت التعليمات بأن يكون الحفل خاصاً بكل معنى الكلمة؛ أي بلا رجال إعلام ولا مصورين .. ولكن فاروق إبراهيم بحسِّه الصحفي شعر بأن غناء أم كلثوم في هذا الحفل الملكي الخاص فرصة لا يمكن أن تمر دون أن يسجلها بكاميرته .. فحمل كاميرا صغيرة وأخفاها في ملابسه، وعند دخوله قاعة الحفل قال لرجال الأمن .. أنا العقيد “فاروق إبراهيم” من الحراسات الخاصة..
وبدأت أم كلثوم الغناء، وفوجئ فاروق إبراهيم بأن الملك “الحسن الثاني” يمسك بالأوكورديون ويعزف بنفسه ضمن الفرقة الموسيقية .. كانت لقطة لا يمكن أن تمر دون تسجيل، ولكن ماذا يفعل .. وكيف يجرؤ على أن يصور جلالة الملك وهو في مقعد العازفين، وعندما انتهت أم كلثوم من الغناء أسرع الملك لتحيتها وقام بنفسه بمساعدتها في ارتداء “البالطو”، وكان لا بد من تسجيل هذه اللقطات النادرة وليكن ما يكون .. وبعد انصراف الملك وأم كلثوم للعشاء فوجئ فاروق إبراهيم بوزير داخلية المغرب في ذلك الوقت ” أوفقير” يعنفه ويأخذ منه الكاميرا .. ويقبض عليه .. وعندما علمت أم كلثوم بذلك وكانت تستعد لاستئناف الحفل، ذهبت إلى الملك وقالت له بنوع من التحدي:” أنا لن أغني إلا إذا المصور بتاعي رجع حالا” .. وبالفعل لم تغن أم كلثوم إلا بعد أن اطمأنت على عودة فاروق إبراهيم.هكذا كانت أم كلثوم إنسانة عظيمة .. تهتم بمصورها ومن أجله تتحدى الملك وترفض الغناء رغم أنها كانت تستقبل وتعامل في الدول التي تزورها كالملوك والرؤساء ..
الوِسَادةُ المَنْسيَّة
ويتذكر فاروق إبراهيم الحفاوة البالغة التي استقبلت بها أم كلثوم في تونس حيث تم استقبالها بشكل رسمي ورحبت بها السيدة “وسيلة” حرم الرئيس “بورقيبة” ترحيباً عظيماً .. وأقيم حفلها الغنائي في إستاد تونس الذي اكتظ بالجماهير، وحيث شدت بأغنية “الأطلال” على مدى ساعتين ونصف وبشكل لم يسبق له مثيل .. ولا ينسى فاروق إبراهيم موقفاً طريفاً حدث في تونس حيث نسيت مرافقتها الدائمة السيدة إحسان إحضار الوسادة الخاصة بها والتي تأخذها معها في كل بلد تذهب إليه لأنها لا تنام إلا عليها، ولتفادي هذا الموقف اضطروا إلى إحضار 32 وسادة لتختار من بينها واحدة.
بِنْتُ نُكْتَة
ومثلما كانت أم كلثوم إنسانة عظيمة ورقيقة المشاعر كانت أيضا خفيفة الظل، وعلى حد تعبير فاروق إبراهيم – بنت نكتة – .. قال ذلك وهو يتذكر حفل التكريم الذي أقامته لها السفارة المصرية بالمغرب، وكان من بين الحاضرين أحد المصريين الذين استقروا في المغرب منذ سنوات طويلة الذي أخذ يلقي بنكات سخيفة، ورغم تبرم الحاضرين لم يتوقف عن إلقاء النكات لفترة طويلة حتى قاطعته أم كلثوم قائلة ” إنت بقى اللي جاي تنكد علينا النهادرة” .. وهنا ضجت قاعة الحفل بالضحك .. ويتذكر واقعة أخرى عن خفة ظل أم كلثوم عندما كانت في زيارة للسودان وأهداها الرئيس إسماعيل الأزهري ” نسناسا ” فأطلقت عليه اسم فاروق إبراهيم، وعندما أبدى دهشته وسألها لماذا ؟ .. قالت ” لأنه بيعمل زيك بالضبط عمال يتنطط هنا وهناك .. زي ما أنت بتتنطط وأنت بتصور” .. وموقف آخر حدث في السودان أيضا عندما حل يوم عيد ميلاد أم كلثوم 31 ديسمبر ولم يجد ما يقدمه لها بهذه المناسبة فنزل إلى حديقة الفيلا التي كانت تقيم فيها واقتطف وردة جميلة وقدمها لها مهنئا .. فقالت له :” ياما جاب الغراب لأمه”.
سُرعَةُ بديْهَة
وتتواصل رحلة غوصنا في أعماق أم كلثوم التي مثلما كانت شديدة البساطة والطيبة .. كانت شديدة الذكاء أيضا .. ويقلب فاروق إبراهيم في أكوام الصور التي أمامه، وينتزع من بينها صورة نادرة عندما سقطت أم كلثوم على خشبة المسرح وهي تشدو في إحدى حفلاتها في العاصمة الفرنسية بأغنية “الأطلال”، وعندما وصلت إلى مقطع ” هل رأى الحب سكارى مثلنا” جن جنون الجمهور وتهافت على المسرح، فسقطت أم كلثوم، وقام فاروق إبراهيم بتسجيل هذا الحدث الفريد بكاميرته وسرعان ما تداركت أم كلثوم الموقف ووقفت على الفور، وغنت بدون موسيقى وهي تشير بيدها نحو الجمهور ” هل رأى الحب سكارى بيننا” مستبدلة كلمة ” مثلنا ” بكلمة ” بمستبدمستبدلة كلمة ” مثلنا ” بكلمة ” بيننا ” وسرعان ما نسي الجمهور ما حدث، واندمج معها بعد أن استفزته بذكائها وسرعة بديهتها وهي تغير كلمة في هذا المقطع وتردده عدة مرات وسط تصفيق الجمهور المتواصل .. وصمم فاروق إبراهيم على إرسال صور سقوط “أم كلثوم” على المسرح إلى جريدة أخبار اليوم دون أن يستأذن أم كلثوم وبالفعل بعث بها مع أحد الركاب المسافرين إلى القاهرة وطلب عدم كتابة اسمه على الصور عند نشرها .. وثم نشر الصور وغضبت أم كلثوم .. وعندما ذهب “فاروق إبراهيم” إليها في الفندق وجدها ثائرة، وعرضت عليه الصور المنشورة فقال لها: أكيد اللي التقط هذه الصور شخص يهودي .. فقالت له متسائلة: واللي نشر الصور يهودي أيضاً ؟ وهنا أسقط في يد “فاروق إبراهيم” ولم يكن أمامه إلا أن يعترف ويقول لها: أنا مصور وإن لم ألتقط هذه الصور فإن “مصطفى بيه” – يقصد مصطفى أمين – سيرفدني؟ ورجاها ألا تزعل منه، وهنا قالت له: الذي أغضبني أنك كذبت عليّ، والرجل الذي يكذب تكون فيه كل المعاني السيئة .. وأنا لا أحب أن يكون
قُبْلةٌ على يَدِهَا
صورة وحيدة جمعت بين “أم كلثوم”، والعندليب الأسمر “عبد الحليم حافظ”، وليست غرابة الصورة في قيام “عبد الحليم” بتقبيل يد “أم كلثوم”، ولكن في حكاية هذه الصورة التي تعود بداية أحداثها إلى حفل نادى الضباط الذي حضره الرئيس “جمال عبد الناصر”، وأعضاء قيادة الثورة وغني فيه “محمد عبد الوهاب” ثم “أم كلثوم”، وتأخر غناء “عبد الحليم” إلى قرابة الثالثة صباحاً، وعندما صعد على المسرح قال:”أنا باغني بعد الست و لا أدري هل هذا تكريم لي أم مقلب” .. وتضايقت “أم كلثوم”، وحصلت قطيعة تامة، وعبثاً حاول “عبد الحليم” مصالحتها، إلى أن كان حفل زفاف عازف الجيتار الراحل “عمر خورشيد” في فندق هيلتون وكان الاثنان مدعوين فيه، وعندما شاهد “عبد الحليم” “أم كلثوم” اتجه إليها وأمسك بيدها وقبَّلها بحرارة، واستأذنها أن تسمح لفاروق إبراهيم بالسفر معه إلى تونس، فقالت له ” اهه عندك خده .. ما هو المصور الوحيد اللي بيداري لك الباروكة” .. فرد “عبد الحليم”: “لا والله يا ست الكل .. دي مش باروكة .. حتى شوفي” وهنا شدت شعره لتتأكد من حقيقة كلامه .. ولم يتركها “عبد الحليم” إلا بعد أن تأكد أن “أم كلثوم” قد صفحت عنه وصالحته.
شائعاتُ زَوَاج
وأواصل رحلة غوصي في أعماق “أم كلثوم” الإنسانة العظيمة والفنانة الكبيرة، في محاولة لاستكشاف علاقاتها بالناس، وعلاقة الناس بها، وأتوقف عند شائعة زواج أم كلثوم بالكاتب الكبير الراحل “مصطفى أمين”، تلك الشائعة التي حظيت باهتمام كبير، كما أثارت جدلاً استمر فترة طويلة، وذلك عندما أكدت المؤرخة الموسيقية “رتيبة الحفني” أن كوكب الشرق قد تزوجت بالفعل من الكاتب الكبير، وأن عقد زواجهما تم حفظه في مكتب الرئيس “عبد الناصر”، كما أكدت “رتيبة الحفني” أيضاً أن “أم كلثوم” ارتبطت بزواج فعلي بالملحن “محمود الشريف”، وخرج العديد ممن اقتربوا من “أم كلثوم” يكذّبون هذه الشائعات، ويؤكدون أن علاقة “مصطفى أمين” و”محمود الشريف” بأم كلثوم لم تكن تتعدى حدود الصداقة الوطيدة، وأن “مصطفى أمين” تحديداً قد لعب دوراً كبيراً، في حياة أم كلثوم الفنية، وأنه قدم لها أفكار عدد من أغانيها كما كتب لها قصة فيلم “فاطمة”، وكان أحد المقربين الذي تعود إليهم للمشورة، كما أن “أم كلثوم” قد وقفت بشدة بجانب “مصطفى أمين” في كثير من أزماته، وأثناء سنوات سجنه حاولت التوسط لدى القيادة السياسية للإفراج عنه.
حِكايةُ حُب
وأذكر أنني عندما أجريت حواراً تليفزيونياً مع الكاتب الكبير الراحل “مصطفى أمين” سألته عن أول لقاء له مع “أم كلثوم” فقال لي: “أنا كنت أشتغل نائب رئيس تحرير روزاليوسف عام 1933 ورحت لأم كلثوم أعمل معاها حديث صحفي وكانت وقتها ملئ السمع والبصر وقدمت نفسي لها باسم “مصطفى محمد”، وطلبت مني أن أذكر لها أسئلة الحوار، وكان سؤالي الأول هو: إيه رأيك في الحب وكم مرة أحببت؟؟ وهنا وقفت “أم كلثوم” غاضبة وقالت: انتهت المقابلة ما فيش حديث .. فقلت لها ما فيش حديث يعني حايرفدوني وأنا مسؤول عن أسرة كبيرة، وكده حاتشرد. وصعبت عليها وردت متأثرة: ما فيش مانع بشرط بلاش الأسئلة دي..
وبالصدفة رن جرس التليفون فحملته وسارت به عدت خطوات بعيداً عني، وأنا حسيت إنها بتكلم راجل، وعندما انتهت المكالمة وعادت، قلت لها: خلاص أنا عرفت جواب سؤالي اللي أغضبك، وعرفت إنك أنت بتحبي، فاحمر وجهها، وسألتني: إيه اللي أنت عرفته بالضبط ..فقلت لها: كل شيء ظهر على وشك. فسألتني أنت حاتكتب الكلام ده؟ قلت لها: طبعاً.قالت :لأ أرجوك توعدني إنك ما تكتبش ولا كلمة من الكلام ده.
تكملة الحكاية فى كتاب ومقالات