الدكتور ممدوح البلتاجي لم يكن مجرد وزير حمل ثلاث حقائب وزارية هامة ومن قبلها مجموعة من المناصب الرفيعة والهامة – ترك موقعه وسلم الراية فحسب – الواقع أن البصمات الإيجابية والإنجازات الفاعلة التي حققها الرجل على مدى مسيرة ثرية وحافلة لا يمكن نسيانها أو تجاهلها أو القفز فوقها – ممدوح البلتاجي قبل وبعد كل ذلك قيمة وطنية وثقافية وإنسانية يصعب أن تتكرر فقد اقتربت من الرجل طوال أكثر من ربع قرن.. ورصدت الكثير من مسيرته وإنجازاته وتعرفت على خصائصه الشخصية من خلال عشرات الحوارات الصحفية التي أجريتها معه، وكذلك من خلال الإقتراب الإنساني الذي أتاح لي ربما أكثر من غيري روعة الإكتشاف وسبر الأغوار والوقوف على الخصائص الرفيعة التي تتوارى خلف قيم التواضع والأصالة..
كثيرة هي المحطات الشامخة في مسيرة الدكتور ممدوح البلتاجي أذكر منها صموده الوطني عندما تحلي بالحكمة في مواجهة أحداث ساخنة وأزمات عديدة واجهت السياحة المصرية من بينها أحداث الدير البحري بالأقصر إثر تعرضه للإرهاب الأحمق ثم ما لحق بها من أحداث إرهابية استدعت أن يشكل الرجل ما يسمى “إدراة الأزمات” وأن يعمل ليل نهار لإزالة الآثار السلبية التي لحقت بالسياحة المصرية حينئذ ولم تكن هذه الجهود خافية على الخبراء داخل مصر وخارجها الأمر الذي دعا منظمة السياحة العالمية لإختيار الدكتور ممدوح البلتاجي لرئاسة إدارة الأزمات السياحية العالمية وذلك خلال إجتماع الجمعية العمومية للمنظمة المنعقد وقتها في كوريا الجنوبية.. ليتواصل الجهد الخلاق لوزير السياحة- دكتور البلتاجي وكتيبة العمل في الوزارة وفي قطاع الأعمال الخاص الذي التف حول الوزيرالجاد والدؤوب لتقفز السياحة المصرية قفزات هائلة ولتحلق طائرتها في سماء الإنطلاق ولتسجل أرقام السياحة الوافدة لمصر وعوائدها أرقاماً غير مسبوقة ومكانة تستحقها مصر.. ولم يكن الإرهاب وحده هو التحدي الوحيد الذي واجهه الرجل بل كان إرث الماضي والبيروقراطية التي عشعشت في كثير من قطاعات الدولة وهيئاتها والنظرة الرجعية للسياحة بإعتبارها نشاط ترفي إستطاع البلتاجي أن ينهض بكثير من هيئات السياحة وبغيرها ممن لها علاقة مباشرة بها وأن يمنع ذبح الدجاجة للحصول على البيضة الأخيرة لها كما استطاع أن يحدث نهضة في ثقافة القطاع والمتعاملين معه ليستقر مفهوم جديد هو أن السياحة هي “قاطرة التنمية الإقتصادية” وكثير من المفردات التي كان لها أثر إيجابي وجديد على طبلة أذن المجتمع بأثره..
وعلى الرغم من التحديات المتلاحقة وأحياناً سوء الفهم والقصد والتربص بهذا القطاع الذي بدأ ينمو بقوة ويأخذ مكاناً بارزاً على خارطة التنمية الإقتصادية ويضخ الخير في شرايينه فلم ينس البلتاجي مصالح مصر العليا وسيادتها ومكانتها واستطاع أن يحبط كثيراً من محاولات التفريط في ثرواتها القومية، وأذكر يوماً حادثة أرجو أن يغفر لي الصديق الحبيب الدكتور البلتاجي أني أذكرها دون استئذانه وأتمنى أن تتضمن مذكراته التي يسجلها الآن في كتاب هذه الواقعة.. عندما تلقى طلباً بتخصيص مساحات كبيرة من الأراضي في سيناء لمستثمرين قطريين، وعلم من مصادره الخاصة أن شراء الأرض سيتم لحساب اسرائيليين ولم يتردد في رفض الطلب والغريب أنه تلقى خطاباً من رئيس الوزراء أنذاك الدكتور عاطف عبيد يقول فيه عبارة مريبة “لماذا لا نستفيد من تدفقات رأس المال الأجنبي في تعمير سيناء”..(!!)
يومها أخذت أخمن – ترى ماذا سيفعل البلتاجي تجاه هذه التأشيرة الغامضة بل والمريبة.. كيف سيواجه رغبة رئيس الوزراء.. ولم يخيب البلتاجي ظني فكانت تأشيرته الجسورة “أرفض ويحفظ” وإذا كانت هذه التأشيرة قد حفظت ضمن أوراق ومستندات الدولة فإنها قد حفظت أيضاً في ضمير هذا الوطن.
لقد أدرك البلتاجي بحسه الوطني قيمة سيناء.. وظل طوال فترة توليه المسئولية يرفض أن تذهب أرض سيناء للإسرائيليين حتى لو كان عبر وسطاء أو من خلال ضغوط مهما كان حجمها – والواقع أن ما ساعده على هذه المواقف المتشددة خاصة بيع أراضي سيناء لغير المصريين هو حرصه على تنفيذ فكر الرئيس مبارك وتعليماته الخاصة بهذه القضية ..
وينتقل البلتاجي من وزارة السياحة بعد كم من الإنجازات غير المسبوقة ليتولى موقعه الجديد كوزير للإعلام.. وهو اختيار صادف أهله – لكن ما حدث في هذه الشهور القليلة التي تولى فيها مسئولية وزارة الإعلام يستحق أن يؤلف البلتاجي كتاباً كاملاً حول الأحداث التي وقعت في هذا المبنى القابع على النيل والذي ينوء بالأخبار والأسرار وبكل أنواع الضرب تحت الحزام.. والدكتور البلتاجي يرفض الحديث عن هذه المرحلة – مرحلة الشهور القليلة التي أمضاها وزيراً للإعلام لكن القريبين منه يعرفون بعض تفاصيلها كما يحفظها التاريخ في خزانته، ولا أعرف هل سيفرج البلتاجي في كتابه الجديد عن بعض من أسرار تلك الفترة.. هل سيتحدث عن الشائعات المغرضة التي أطلقها البعض في الوقت الذي كان الرجل منشغلاً خلاله بإعادة بناء جهاز إعلامي عصري.. أتمنى أن يفعل ذلك فإن ما لديه ليس ملكه وحده بل هو ملك التاريخ.. ملكنا جميعاً.. ملك الحقيقة التي لابد أن تقفز إلى السطح وتبوح بمكنوناتها مهما طال الزمن.. فإذا كان للدكتور البلتاجي حسابات خاصة تجعله يغلق الباب على تلك الأسرار فإننا ندعوه أن يعفي من يعرفها أن يفرج عنها.
والله من وراء القصد.