هل نحن فعلاً نعمل ضد أنفسنا؟ .. وهل عدنا إلى أيام القرارات العشوائية التي كثيراً ما كانت تصدر دون دراسة آثارها وتداعياتها واستمرارها؟.. وهل تعمل الحكومة بالفعل في إطار منظومة متناغمة تهدف في النهاية إلى الصالح العام؟.. أسئلة ملحة لاتزال تفرض نفسها منذ صدور هذا القرار الذي أحدث دوياً ولغظاً كبيراً في مختلف الأوساط وأثار مخاوف العودة إلى العمل بقوانين بالية تخلصت منها مصر وعدد كبير من الدول بعد أن اقتنعت بتخلفها وعدم مواكبتها لمقتضيات العصر .. فقد جاء القرار “الصدمة” الذي أصدره وزير المالية بقيام الجمارك بتطبيق نظام جديد في كل الموانئ والمطارات المصرية يقضي بتوزيع “اقرار جمركي” على القادمين والمغادرين .. والغريب أن هذا الإقرار تم توزيعه فجأة وبلا سابق إنذار في المطارات والموانئ ليحدث إزدحاماً وإرتباكاً شديدين وليصنع علامات استفهام مريرة على وجه السياح والأجانب القادمين والمغادرين ومن قبلهم على وجوه المصريين وأعصابهم..
والأكثر غرابة ما جاء في تفسيرات المسئولين في الجمارك وفي تصريحاتهم المختلفة بأن هذا الإقرار تم إتخاذه لتنفيذ قانون مكافحة غسيل الأموال، على الرغم بأن بيانات هذا الإقرار المطولة تتضمن أسئلة لم يعد لها وجود في مطارات ومواني العالم كله .
والمتأمل لهذا الإقرار الذي أعده بالقطع موظف بيروقراطي من الدرجة الأولى، يجد الكثير من البنود التي عفا عليها الزمن والتي لا يمكن أن يكون لها مبرر معقول اللهم تأديب السياح وإعاقة مسيرة السياحة التي كانت قد بدأت في الإنطلاق.
والمدهش أن أحداً في وزارة المالية أو مصلحة الجمارك لم يمهد لمثل هذا القرار والإقرار “الصدمة”، ولم يسع لإيجاد أسباب منطقية لصدوره، ولم يراقب عواقبه العشوائية، فإذا ترك أحد المسئولين في وزارة المالية مقعده الوثير في الوزارة وكلف خاطره بالذهاب إلى المطار أو أحد المواني وشاهد بنفسه الزحام الشديد الذي أحدثه القرار لشعر بمغبة ما أصدره وقرره ودفع به، ولأدرك أيضاً مدى إحساس الناس بالمرارة من وجود مثل هؤلاء من حراس البيروقراطية العقيمة .
ولعلني أتوقف أيضاً عند الحجة الساذجة التي ساقها المسئولون عن القرار بأنه جاء تنفيذاً لقانون مكافحة غسيل الأموال وأتساءل:
ولماذا كل هذه البنود التي تم حشو الإقرار بها ودباجتها؟..
وهل تسجيل الملابس الشخصية والهدايا والميداليات النياشين والأدوية والكولونيا والسجائر وغيرها يحد من مكافحة غسيل الأموال؟!!
كما أتوقف عند ما أثير عن أسباب القرار الصدمة من أنه جاء ليوقف استغلال مندوبي شركات السياحة بجمع جوازات سفر السياح واستخدامها في شراء بضائع من الأسواق الحرة، وهو أمر كان يمكن تحقيق الانضباط فيه بإجراءات أكثر عقلانية وذكاء من هذا الإقرار العجيب.
إننا ندق ناقوس الخطر ونحن على أبواب موسم السياحة العربية الوافدة إلى مصر وكذلك عودة أبناء مصر العاملين في الخارج لقضاء أجازات الصيف في بلدهم، ومع استمرار العمل بهذا الإقرار العقيم فإن وضع المطارات والمواني سيكون مأساويا، ثم إن ماذا يجبر السائح مهما كانت جنسيته على أن يأتي إلى بلد يعود فيها الزمن عشرات السنين إلى الوراء، ويستيقظ فيها إرث بيروقراطي كنا قد ودعناه وكسرنا خلفه آلاف القلل، ولعل أكثر ما يدهشني هو الوزير الدكتور يوسف بطرس غالي وزير المالية، والدهشة تأتي من التناقض الكبير الذي تشهده قرارات هذا الوزير الذي أصدر قرار إعادة الإقرار العقيم إلى الجمارك وأحياه بعد مماته، وهو أيضاً الوزير الذي قاد ثورة حقيقية في تطوير الضرائب وإعادة الثقة إلى الممولين، وخطى خطوات كبيرة في سبيل تطوير مصلحتي الضرائب والجمارك والعمل على زيادة الحصيلة من خلال توسيع قاعدة المجتمع الضريبي، والقضاء على آلاف التشابكات ما بين المصالح التابعة لوزارته وبين المواطنين ورجال الأعمال بعد الإستعانة بخبراء متخصصين والتخلص تدريجاً من موظفين معقدين.. يبقى أن أهيب بوزير المالية بأن يسارع بدراسة التداعيات السلبية التي خلفها قرار إعادة الإقرار حفاظاً على مسيرة وزارة المالية التي بدأها الرجل والذي يمثل هذا الإقرار أحد عثراتها ..
والله من وراء القصد.