كثيراً ما تحاصر مشاعر الحيرة الكاتب الذي يحاول تسجيل لمحات من سيرة أحد الشخصيات الثرية والعظيمة.. هؤلاء الذين أثروا الحياة من حولهم، وتركوا بعد رحيلهم بصمات وعلامات تشهد على ما بذلوه من جهد وإبداع.. أما الحيرة فتأتي من ثراء المسيرة، وضيق المساحة المخصصة للكتابة.. ومن هنا يشعر الكاتب أن عليه أن يوجز حياة عريضة، وإنجازات كثيرة، وخصال إنسانية فريدة في بضعة سطور.. وهي الإشكالية التي واجهتني عند الكتابة عن الراحل الكبير اللواء أحمد زكي عبد اللطيف ـ الذي ولد بمحافظة أسيوط عام 1922، وظل حلم صباه وشبابه أن يرتدي ملابس الجندية والشرف وأن يلتحق بجيش مصر الباسل.
التحق بالكلية الحربية وتخرج فيها برتبة الملازم في نوفمبر من عام 1939 ليبدأ رحلته في سلاح المدفعية متدرجاً في الرتب العسكرية والمناصب الرفيعة التي نال منها الكثير.
ولعل المتابع لمسيرته يكتشف من الوهلة الأولى المهام الحيوية والخطيرة التي اضطلع بها طوال سنوات خدمته بالقوات المسلحة، وما حصل عليه من دراسات وأنواط ونياشين رفيعة من مصر وسوريا والأردن ويوغسلافيا وغيرها، وهو ما يعكس المكانة الخاصة التي حظي بها الراحل الكبير.. الأمر الذي دفع القيادة السياسية إلى تكليفه بمهمات تحتاج نوعية متميزة من الرجال مثل اللواء أحمد زكي.. الذي تولى مهمة بناء وتنظيم وتسليح القوات المسلحة من خلال توليه موقعه الحساس كرئيس لهيئة التنظيم والإدارة بعد نكسة 1967.. حيث واصل الليل بالنهار ليتم مهمته في إعادة تنظيم وتعبئة القوات بعد إتمام عملية البناء.. لم تكن عملية سهلة خاصة في تلك الظروف الاستثنائية التي واجهت جيش مصر في هذه المرحلة.. واستطاع الرجل أن يحقق نجاحاً كبيراً ومشهوداً في هذه المهمة الوطنية الصعبة التي قدم كبار قادة القوات المسلحة وقتها شهادتهم على ما بذله من جهد وإبداع.
لم تكن الكفاءة والأداء المتميز هما السبب الوحيد في مشاعر التقدير التي أحاطت اللواء أحمد زكي من قادته وزملائه وأبنائه في القوات المسلحة، لكن ما تميز به الرجل من خلق قويم، وشخصية جذابة، وخصائص إنسانية جعلته محط الأنظار طوال فترة خدمته..
ورغم مرور سنين طويلة على الحقبة الصعبة التي أعاد خلالها اللواء أحمد زكي عملية تنظيم القوات المسلحة بعد نكسة 1967 فإن هذه الأعمال والإنجازات التي حققها لا تزال ماثلة في الأذهان، ولا يزال يتردد اسم اللواء أحمد زكي حتى اليوم كمثال للشجاعة والإيثار والعطاء المخلص من أجل الله والوطن.
* * * * * *
في شهر يونيو من عام 1971 أحيل اللواء أركان حرب أحمد زكي عبد اللطيف إلى التقاعد.. ليبدأ مرحلة جديدة من مسيرة كفاحه وعطائه وإبداعه.. لقد كانت له مقولة يرددها دائماً وهي: “إذا كان النجاح هو أحد متطلبات العصر الذي نعيشه، فإن البقاء على القمة هو التحدي الأكبر الذي نواجهه”.. وهكذا أراد اللواء أحمد زكي أن يظل على القمة دائماً حتى بعد أن ترك الخدمة العسكرية، ليبدأ مشواره الجديد في المجال الذي أحبه وهو السياحة، وفي هذا المجال وضع خبرته الكبيرة وجهده الوفير.. فكانت السياحة هي ميدان القتال الجديد الذي حشد فيه الخطط والأسلحة المختلفة ليصبح بعد سنوات أحد الخبراء البارزين في هذا المجال.. فبعد أن عمل لسنوات كوكيل أول لوزارة السياحة ورئيس اتحاد الغرف السياحية.. تولى رئاسة مجلس إدارة عدد من شركات القطاع العام السياحي من بينها شركة “إيجوث” التي كانت تملك وقتها معظم شركات القطاع العام الفندقية والسياحية.. ثم قام بإنشاء شركة الخليج مصر للفنادق والسياحة، وشركة سميراميس، ليتوالى إنشاء عدد من الشركات التي شهدت جميعها نجاحاً كبيراً في ظل قيادة الرجل الذي كان كل من يعمل معه يتفاءل به وبالنجاحات المستمرة التي يحققها.. ويذكر أن اللواء أحمد زكي قام بإنشاء فندق شيراتون هوليوبليس “720” غرفة في موقع كان يعتبر نائياً وقتها، وليصبح هذا الفندق واحداً من العلامات الفندقية البارزة في مصر وليثبت بعد نظر هذا الخبير المتميز.
وإذا توقفنا عند عام 1992 نجد مشهداً آخر من الإنجازات التي حققها اللواء أحمد زكي عندما تقدمت مجموعة من المستثمرين والبنوك وشركات التأمين برغبتها في قيادة الرجل لأحد المشروعات الاستثمارية الكبيرة فكانت شركة “رواد السياحة” التي أقيمت برأس مال مرخص بلغ خمسمائة مليون جنيه، وليتولى رئاسة مجلس الإدارة والعضو المنتدب لهذه الشركة الرائدة.. وظل اللواء أحمد زكي يقدم عطاءً متواصلاً استمر أكثر من خمسة وعشرين عاماً، فبالإضافة لما أسسه ورأسه من شركات تعمل في مجالات السياحة المختلفة فقد كان من أشهر المتحمسين لأهمية التخطيط والتدريب.. فقام بإعداد أول خطة للسياحة في مصر حتى عام 2000 بالتعاون مع الحكومة الألمانية، كما قام بإنشاء مجموعة من المدارس الفندقية في الإسكندرية والأقصر وعدد من مراكز التدريب المتخصصة في إمداد قطاع السياحة بالعمالة الفنية والمدربة.. كل ذلك إضافة لما قدمه من بحوث ودراسات فنية عن تأثير السياحة على الاقتصاد المصري، وكذلك وضع ميثاق شرف يلتزم به جميع العاملين، وبحوث أخرى عن الحلول العلمية للمشكلات التي تواجه قطاع السياحة، وإصدار القوانين التنفيذية بالتنسيق مع الدولة، كما لا يمكن تجاهل جهوده في استضافته لمؤتمر منظمة الآستا لأول مرة في مصر.
وبعد.. أجد نفسي وقد اقتربت من مشكلة كتاب السير الذاتية.. ضيق المساحة أمام غزارة الإنجازات.. لكني لن أغادر هذه السطور قبل أن أسجل.. أنه إذا لم تكن المساحة قد أتاحت لي ذكر كل الإنجازات والتفاصيل، فإن الأمر الذي لا يمكن إغفاله هو ما كان يتمتع به الراحل الكبير من شخصية هادئة رصينة تتسم بالخصائص الأخلاقية الرفيعة، والتواضع الجم، والقدرة الدائمة على إضافة مزيد من الأصدقاء إلى سجل حافل بالأسماء والمواقع..
رحم الله اللواء أحمد زكي عبد اللطيف الذي ترك لنا عدداً من الأعمال الخالدة، كما ترك ذرية صالحة حملت الراية وراحت تكمل المسيرة، كما ترك لنا بصمات وسمات ومبادئ لا يمكن أن ننساها