رحلتي الى أمريكا
بقلم : فاطمة غندور
كاتبة صحفية – أستاذ مساعد بكلية الفنون والاعلام – جامعة طرابلس – ليبيا
قد أكون محظوظةً فقد كنتُ جَنوبيةَ الأهل ، وولدتُ في شمال البلاد، لهذا ولد السفر في دمي، وأخلصتُ في حبه ، من الشمال الى الجنوب وبالعكس، كان أبي يُسافر بين الحين والأخر لأهله في براك واحة الصحراء ( جنوب ليبيا ) ، ولذا كنت أجدني علي سفر حينا وأخر، وأي سفر، ليومين : من فجر الاول الى فجر الثاني نجتاز في أوله على جانبي الطريق الذي لم يكن سالكا ومُهيئا، خضرة وبهاء لمساحات زراعية ورعوية، وبيوتات مُترامية لبعض مدن الساحل الغربي، ثم نعبُر وسط ومنتهى الترحال مدنا أكثر تعج بمناظر: الرمال الهادئة، والمتحركة، كثيرا ما تخيلتها بثنياتها وأخاديدها المُرتبة والفوضوية وسائد وأسرة بأغطيتها أحيانا، الحجارة الضخمة والصخور المختلفة الأنواع التي شذبتها عوامل الطبيعة بمرور الزمن، فغدت مجسمات صلدة مُدهشة غريبة في تشكلها وكذا ألوانها، روضني سفر الصحراء بطبيعتها وسرابها، ومشاهدها الحية أو حتى عند إغماضة عيني أثناءها، لأن أكون مُسالمة مُتأملة صبورة لا أضجر أوأمل من تلك الساعات الطويلة، حينها أيضا كنت أُسلي نفسي بهدرزة عائلتي، حكاياتنا التي لا تنتهي، ومجاراة بعض من رفقاء الحافلة لأنهم من (بلاديتنا) أيضا ونعرفهم : القبيلة في الحافلة !، عدا قصص أطفال يشتريها أبي ونحملها معنا مؤونة عقلنا وتسلية وقتنا الطويل، أبنائه في ترحال يُجهد الكبار فما بالك بالصغار.
ثم شاءت الظروف أن اجدني مُسافرة الي اوربا ولمرات عديدة : عملا ومشاركة في نشاطات الاعلام ، والمرأة ، والبحث الشعبي، كان أول الترحال وكنت طالبة فنون، الى النمسا حيث عمل أخي وعاش، وتصادف أيضا أن رحلتها مع الساعات الاولى لليوم الجديد وإن قلت الساعات كما المسافة ، في ريفها الشمالي هناك فضاء واسع لمزارع العنب جلست لساعات أتأمل وأسمع موسيقى الطبيعة الساحرة والحافلة بالشجن، لا يقطعها إلا فاصل للحظات لقطار سريع يربط داخل البلاد وخارجها، كنت بعدها قد وجدت نفسي في رحلة تعليمية عملية الي بلجيكا وعربيا كان السفر الى لبنان ، المغرب، الجزائر، تونس، مصر، قطر، أما أمريكا..
أما أن اجتاز بحر الظلمات المائي – كما ابحرت في بحر الرمال طفلة، أن أفتح عيني على ريفها ليعفرني ترابها، وأقطف بيدي تفاحها، أن يدثرني مطرها وثلجها وأصيخ السمع الى شلالاتها، أن أُعايش أناسها القادمين من أصول متنوعة، أدهشني تناغمهم فالسمع ليس كرأي العين: فلاحين وعجائز، طلاب وأساتذة، مثليين ومدمنين، سياسين ذوي سلطة، وأن أقارب بعض مؤسساتها السياسية والاعلامية الكبريات في ولايات أربع رئيسة وكبرى أيضا: واشنطن، نيويورك، سيراكيوس (قلب نيويورك)، سان فرانسسيكو، لما يقارب الشهر، لأيام بل لأسابيع أحسست أني مواطنتها، وأنا أصعد طائرة وأهبط أخرى في رحلة من أقصاها الشرقي الى أقصاها الغربي، وأنا ألتزم قوانينها نظافة وبيئة، واشارات مرورية، وأنا أقف في يوم انتخاباتها المُتفردة هذا السنة ، ويراجع ورقتي المُراقب علي أهملت وضع اسم مُرشح لجهة ما في قائمة ما،
وأهجس لنفسي : فاطمة أنت الان في الولايات المتحدة في ظرف تاريخي نوعي حيث تقام انتخابات نصفية للكونجرس، ومجلس النواب في عهد الرئيس اوباما، وهوالرئيس الزنجي الاول في تاريخ البلاد، ما انطباعك عن ما يحدث الساعة؟
وهل تحسين ان هناك مسألة مثيرة في حياة الامريكي تمثلها هذه الانتخابات؟
وهل تعتقدين ان هذه الانتخابات ستكون اداة تغيير حاسمة في امريكا ام ان مشروع اوباما للتغير سينتكس، وتعاود الحياة الامريكية نمطها المعتاد، وأنا أبدأ يومي فيها على طاولات إفطار محلات ستار بوكس (التي جاورت كل الفنادق التي نزلت بها) أشارك بعض أهلها مطالعة صحف الصباح – وإن أعجزتني اللغة أحيانا فأنا وجيلي ترعرعنا في نظام ديكتاتوري رأى أن معرفة اللغة والثقافة الاخرى غزوثقافي – في شوارع ولاياتها الاربع التي زرت تُهت أكثر من مرة، كلما غامرت لأكتشفها، وأشبع فضولي بما فيها مغايرا أومتفقا لما رأت عيناي قبلها، تسرق أمريكا كل حواسك، كنت أخذ معي الخريطة لأتبين محط قدمي، وهي الملأى بالإشارات والخطوط الملونة تلك علامة المترو، وعلامات للحافلات وأرقامها، وتلك لمُؤسسات خدمية، فنادق مستشفيات، مكتبة، مطاعم متنوعة…ألخ.
ذات مساءات واشنطن فكرت أن أصل وسط جورج تاون إذ أعلمني صاحب محل القطع الإلكترونية وهوعربي جزائري ، محله غير بعيد عن فندقنا، بمهرجان الافلام العربية السنوي، وكنت بشوق أيضا لزيارة جامعة (جوج تاون) ورؤية بعض المعالم القريبة منها، خرجت لأتقصى المكان والمواعيد (لم ترغب أي من زميلاتي مُرافقتي،
كن مُرهقات من البرنامج المُكثف الذي أكل جل نهارنا، نجلس لساعات في المؤسسات لنستمع للمحاضرات لذلك كنت أخصص وقتا في المساء للمشي لما يقارب الثلاث ساعات وكان خياري في ذلك المساء المشي، ولكن لوهلة فكرت أن أستقل الحافلة عند عودتي من مشواري الى الفندق، صعدت الحافلة وأدخلت العملة المعدنية في الألة المخصصة واستفسرت من السائق عن رقم المحطة الذي يستوجب النزول عنده، أخذني الحديث مع فتاة مكسيكية جلست جواري ولعل شغفي بحديثها عن الطعام المكسيكي وقد أخذت ترشدني الى المطعم الذي تعمل به بعض أيام الاسبوع، ما جعلني أخطأت محطة النزول، ولم أكتشف خطأي إلا عندما أخرجت الخريطة وسألت أحدهم والذي دلني بإشاراته الى الشارع المقابل الذي يلزمني العودة منه مشيا أوبالحافلة، وإن رغبت بالمتروفعلي الرجوع لمحطتين، وأشار علي بأن أسأل شرطية مرور كانت بموازاتنا، توجهت إليها لم تكن بزي الشرطية المعروف فترددت، لكنها شجعتني بطرح سؤالها إن كنت أحتاج المساعدة، تقدمت منها وفتحت صفحة الخريطة لأستعلم موقع إقامتي( فندق دونت).. هونت علي الامر، وأخذت تصف لي وتكرر أسماء وأرقام علي السير باتجاهها، وأجرت إتصالا بأحد زملائها لتتأكد من أني سأنفذ وصفتها للرجوع الى مكاني، إذ أنه يقف مثلها في المحطة القادمة…
وهكذا عدت فندقي،ولا أنكر احساسي بالأمان بل وفكرة المغامرة للخروج مرة أخرى!! وحكيت ما جري لمترجمتنا رنا رعد التي أوضحت لي عمل المتطوعين في الشوارع الامريكية وبدون مقابل حين أخبرتها بما فعلته السيدة حين ضعيت طريق العودة!!. وأسهبت حديثها حول وصايا الاباء المؤسسين حول العمل التطوعي لمختلف الفئات والشرائح المجتمعية والاعمار أيضا كسلوك تعاوني ينبذ الدعة والكسل، ويُنمي قيم: حب العمل والتضحية وحس المواطنة والمسؤلية تجاه المكان، وأكملت بأننا قلما نجد سيرة عمل لأغلب الامريكين تخلومن العمل التطوعي كمجتمع مدني، بل أن هناك بعض المؤسسات الوظيفية تعتد كثيرا بما أسداه الباحث عن عمل، من خدمات تطوعية في أي مجال، والذي قد يمتد لأكثر من سنوات مجانا مجال ويصبح ذلك مسوغا لاختياره وتفضيله.
وأعلمتني بنموذج لذلك فدورتنا الصحفية ينتظم فيها عدد كبير من المتطوعين، لأكثر من 90 منظمة محلية غير حكومية، حيث يتطوع المواطنون العاديون بوقتهم عن طريق فتح بيوتهم ومدارسهم وأعمالهم التي لها علاقة بنشاط الزائر الدولي لولاياتهم المختلفة عن طريق الترتيب لأنشطة مهنية واجتماعية يتكفلون هم بالتنسيق وضبط المواعيد، ويقع كل ذلك تحت مُسمى: دبلوماسية المواطن، أوالرُعاة المحليون، لعقود طويلة من الزمن قدمت منظمات المجتمع المحلي خدماتها الرئيسة والهامة، وظلوا يتواصلون مع المجلس الوطني للزوار الدوليين، الكل يعمل تحت هدف مشترك : خلق وإعطاء صورة ايجابية عن المجتمع الامريكي.
لفت انتباهي أيضا فيما شاهدت في بعض ولايات امريكا الهدوء الكبير الذي شاب الانتخابات قياساً بما أتابعه وأقرأ عنه في كثير من دول العالم، لا صور للمُنتخبين ملصقة على الحوائط أومصفوفة منتصبة فوق أرصفة الشوارع، لا لوحات لا مطويات وملصقات بلا حساب لعدد أولتكرار العبارات والصور، لا مسيرة أومظاهرة أوهتاف باسم أحدهم في خيم تملا الشوارع والساحات، لا عراك أومجادلة أوحتى تبادل لوجهات نظر قد تصل حد التلاسن انحيازا لمرشح عن آخر ضع صوتك في الصندوق وأذهب الى شؤون حياتك.
في امريكا كان الضجيج الواسع والذي يشكل فضاء يصل حد الازعاج والضجر: الاعلانات التلفزيونية، والمقابلات التي يُكرر فيها المرشح ذات الوعود والاماني.
شاهدت مرشحة ألاسكا في أكثر من محطة حتى ظننت أنها في أحد أيام الانتخابات لم تعاود الى بيتها !، تلك الساعات الاعلانية تنفق عليها المليارات من الدولارات على مستوى الولايات، أرقام خيالية ذُكرت في أثناء اللقاءات والحوارات الجانبية مع السياسين والصحفيين، فهل الحرية والديمقراطية رهينة الاموال الامريكية التي يتم تبذيرها من أجل الفوز في الانتخابات، والسؤال الاكثر إلحاحا من أين تأتي تلك الاموال؟، وهل كل المنتخبين هم من أثرياء أمريكا؟، وهل هناك مُسألة أورقابة عن كيفية صرف الاموال التي تأتي من شركات القطاع الخاص،وبعض القطاعات التي تدعمها الدولة أحيانا؟.
كانت الانتخابات الشغل الشاغل للمؤسسات التعليمية الاعلامية التي زرناها كصحفيين عالميين ضمن برنامج إدوارد موروللصحفيين (بدأ البرنامج عام 1949) فقد تم تقسيم الحضور المشارك الذي قارب 150 صحفي من مختلف قارات العالم حسب اللغة والجغرافيا على عدة ولايات أمريكية تخوض الانتخابات النصفية، حتى بدا لنا الامر كأننا مُنتخبون أومُنتخِبين، (كنت قد تحاورت في هذا الموضوع قبل التقييم النهائي للبرنامج مع بعض ممن تعرفت عليهم من صحفي افريقيا وأسيا وأمريكا اللاتينية، وروسيا).
فمن ناحية كان على الطلبة أن يتابعوا صعود أصوات (أرقام) المرشحين وهبوطها :على النت أوعلى قنواتهم التلفزيونية أوبالحضور الشخصي الى المراكز (عمل ميداني أعلمونا في جامعتي نيوهاوس وسيراكيوس بأن على 150 طالب ملاحقة الانتخابات ونتائجها، تسمى اصطلاحا القصة أوالسيناريو)،والتي أظهرت الجمهوريين على الديمقراطيين في الساعات الاولى، ومن ناحية أخرى إعتمد أغلب الاساتذة الذين تكفلوا بإدخالنا كتلاميذ ضمن جدول يومهم الدراسي على الاسهاب والتفصيل في تبيان طريقة الانتخابات، وكيف تبدأ ومتى، الحقوق الخاصة بالتعديل الاول للدستور، والتشريعات المنصوصة من الكونجرس، والخارجية، والقضاء أيضا، وفرشت أمامنا خريطة أمريكا بالكامل وتوزيع الولايات والمقاطعات التي عليها أن تجري انتخاباتها الرسمية الثلاث (مجلس الشيوخ، ومجلس النواب، ورؤساء الشرطة) ومواقع مكاتب الاقتراع، ومن ناحية أخرى دُعينا للوقوف عن كثب على الالية الإلكترونية التي تبدأ من الصباح وحتى التاسعة ليلا موعد الرصد النهائي للأصوات وعلى من يرسوالاختيار أوالانتخاب، خصصت غرفة بالفندق للمشاهدة، وكذا تمت الدعوة لحضور الاحتفال بفوز منتخب المقاطعة.
كان انحيازي الى الحضور الميداني لتلك الممارسة الديمقراطية وكانت عيني (كما الكاميرا التي وثقت بها) ترقب كل الاليات المُتبعة، وعمليا شاركت فيها خطوة خطوة، وطرحت أسئلتي حول مُراقبتها ومصداقيتها (وفي ذهني ما حصل من تزوير أثناء انتخاب بوش الأبن) والى مدى ثقة الجمهور في نجاح مُنتخبه وفوزه دون تدخلات من تحت الطاولة ( أموال رجال الاعمال والأثرياء)، وعن مدى استجابة الجمهور الامريكي لللاوائح والقوانين التي تركز على ألية الانتخاب، وقد سرد لي ولزملائي المفوض (دين) في ولاية سيراكيوس عن تراجع بعض جمهور ولاية ما عن انتخاب مرشح لم يشارك في التصويت سابقا لأي مُنتخب لسنوات خلت، ولم يحمل بطاقة أيضا وهذه السنة قدم نفسه كمرشح!
وأخبرنا أيضا أنهم يذللون كل الصعاب التي قد تصادف أي منتخب فالمعاقين والعجزة يتم التطوع بالذهاب الى عناوينهم ومليء الاستمارة بمعيتهم، وإذا صادف أحدهم ظرف وغادر ولايته بإمكانه أن يبعث ببطاقته الانتخابية عبر البريد التقليدي، وليس البريد الإلكتروني (الايميل غير معترف به).
لا أخفيكم سرا وأنا أخط بعض يوميات رحلتي لأمريكا، عنت ببالي السيدة الرائدة الليبية خديجة عبد القادر: صاحبة السلسلة الصحفية بجريدة طرابلس الغرب: ليبية في بلاد الانجليز 1962- 1963)،وهي من أسهبت في وصف زيارتها للندن وماجاورها من مدن (لم تكتب شيئا عن تفاصيل الدورة التدريبية التي تلقتها لسنة واحدة في مجال المكتبات) أحسنت الوصف واهتمت بتفاصيل المكان، ربما في عام 1962 كانت لندن مجهولة للكثيرين فاهتمت بتقديم مشاهدات أوصورة سياحية لأهل بلدها وكأنهم معها، ولعلي أرى رأيها في زمنها،
أما ما يتعلق برحلتي فهكذا استمتاع أتيح لي معرفته عبر وسائل الاعلام والتقنية، بمجرد إعلامي بأني مُرشحة للمشاركة كصحفية ليبية في هذه الدورة 2010، بحثت عن ولايات أمريكا، مشاهد وصور وأشرطة مصورة (يوتيوب)، ومعلومات من أصدقاء مسافرين وعائدين، قرأت عن سياساتها وهيكلها التنظيمي، ولأمريكا في ذهني أيضا صُور مُسبقة أكثرها تدخلات تعسفية ظالمة في شؤون الدول، وحروب لم تتوقف، ونهب لثراوت الشعوب، وسعي لا حدود له لتكون قطب العالم الاقوى بلا منازع وبأي ثمن، كم من ضحايا بشرا وطبيعة لأمريكا المُتحضرة وسياساتها العنيفة في كل يوم بل في كل ساعة، أمريكا التي يصورونها لنا أمنة مستقرة بداخلها هي أمريكا التي تصدر وتعلن العنف والارهاب خارجها!
أتذكر هنا إشارة لنا كصحفيين من مسؤل متطوع حين اجتمعنا في الدورة يدعونا لأن نشرب المياه الصحية من الحنفيات مُباشرة ولا داعي للتكلف بشرائها، فهناك مشاريع في الولايات (في سان فرانسسيكومثلا) من أجل الاستفادة من الثلوج بمعالجتها وضخها بالتالي، وكذلك توظيف تدفق المياه في الطاقة الكهربائية… عَنّ في بالي خاطر… هذا جميل ونعمة إلهية ممنوحة لهم… ولكن لماذا يا إلهي يلوثون العالم من حولهم؟