برلين ….. «السياحة العلاجية» نمط معروف في عالم السياحة. فكرته الأساسية ضرب عصفوريْن بحجر واحد: السفر والاستجمام، وفي الوقت نفسه العلاج والاستشفاء. غير أن بعض الدول، مثل ألمانيا، أخذ هذه السياحة الى أبعاد جديدة عندما حوّلها الى خدمة شاملة مفصّلة على مقاس المريض واحتياجاته النفسية والعائلية وخصوصيته الثقافية.
والعرب، خصوصاً في الخليج، ومعهم الروس، كانوا من السباقين الى الاستفادة من هذا النوع من السياحة. هؤلاء خبروا عن قرب العاصمة الألمانية، برلين، بوصفها وجهة رائدة عالمياً في السياحة العلاجية، والفضل في ذلك يعود الى شهرتها كمركز للخدمات والأبحاث الطبية المتطورة، في وقت تجتذب الأطباء المتخصصين من حول العالم. يكفي أن فيها العشرات من الحائزين جائزة «نوبل» للطب، وأنها تعتبر عاصمة المؤتمرات الكبرى، خصوصاً الطبية، وأنها تستضيف سنوياً مؤتمر «قمة الصحة العالمية» بحسب الحياة.
واليوم، تتضافر في برلين جهود قطاعيْ السياحة والطب في توفير الدعم الكامل للسائح، سواء كان يريد أن يستفيد من زيارته هذه المدينة فيجري فحصاً طبياً شاملاً، أو كان مريضاً طالباً للعلاج، فتطلع المستشفيات على بياناته الصحية قبل وصوله، وترسل له خطة للعلاج مجدولة زمنياً وفق وقت المريض، مع فاتورة مفصّلة بالتكاليف، وفي الوقت نفسه تساعده في الحصول على تأشيرة السفر، وتوفر له مترجمين وفنادق أو شققاً مفروشة لإقامة المرافقين.
ولأنها برلين، لا ينقصها لا التاريخ ولا الجغرافيا ولا الشغف بالفنون والثقافة، وكلها وجوه أخرى للمدينة بمتاحفها ومعالمها الفنية والتراثية، ما يجعلها وجهة سياحية بامتياز، خصوصاً للاستمتاع بخضرتها صيفاً، أو باحتفالات الميلاد شتاء.
واحدة من أفضل 5 وجهات طبية رائدة عالمياً
شاب عربي في مقتبل العمر يصاب بالشلل نتيجة حادث سير.
في صوره الأولى بعد الحادث، كانت عضلات جسمه في حال تشنّج كامل، ولم يكن يقوى على الحركة. فقد الأطباء في بلاده الأمل بتعافيه، لكن في بادرة أمل أخيرة، أرسلوا بياناته الطبية الى مستشفى «فيفانتس» في برلين حيث وافق الأطباء على علاجه بعد تردّد.
في صوره بعد ستة أشهر، كان الشاب قد تجاوز مرحلة التشنّج، وبدأ يتجاوب مع العلاج. وبعد عام، كان يمشي بمساعدة جهاز روبوتي متطور يستخدم في تمرين العضلات وتقوية الأعصاب. كان متفائلاً مبتسماً وهو يروي كيف تغيّرت حياته وتبدلت أيامه، وكيف بدأ يدرس في الجامعة.
حالات كثيرة أخرى يعج بها المستشفى، واحدة لمريض لا يقوى على الوقوف أو السيطرة على حركته بسبب إصابته بداء «باركنسون»، وآخر أصيب نخاعه الشوكي في حادث، ويحاول الأطباء من خلال التمارين، وبمساعدة الأجهزة الروبوتية، تقوية ما بقي في ساقيه من إشارات عصبية على أمل أن يكون جسمه مستعداً وجاهزاً إذا ما تم التوصل الى اختراعات جديدة تساعده في استعادة الحركة، خصوصاً في ضوء التجارب الناجحة التي أجريت على الحيوانات، وتم خلالها تجاوز الأضرار الحاصلة في الحبل الشوكي عبر وصل الأجزاء السليمة منه.
وتعد مؤسسة ومستشفيات «فيفانتس» الطبية والأكاديمية من أرقى مراكز الرعاية الطبية في برلين، والأكبر في ألمانيا، إذ تضم 9 مستشفيات في العاصمة وحدها تقدم العلاج لثلث المرضى بدخل سنوي يقارب 1,2 بليون يورو، ويعمل لديها نحو 15 ألف موظف، بينهم 1500 طبيب مختص.
وعلى رغم أنها مؤسسة حكومية، إلا أن مستشفياتها أشبه بفنادق خمس نجوم من ناحية الإمكانات والرعاية والخدمة والجودة. ففي هذه المستشفيات، تستخدم التكنولوجيا الطبية المتطورة، مثل الروبوتات، وتكنولوجيا «النانو»، ومنها تقنية «دا فنشي» التي تستخدم في العمليات الجراحية، خصوصاً في استهداف الأورام الخبيثة في علاج السرطان. وفي هذه المستشفيات أيضاً، يعمل أطباء ومختصون من ذوي الخبرة أو ذوي التخصصات الفريدة. وتضم «فيفانتس» مراكز لجراحة الأعصاب، والسرطانات، والسمنة، والعيون، والغدد، والبطن، وعمليات التجميل التصحيحية.
ولا تقتصر الرعاية الطبية في برلين على المستشفيات الحكومية، بل ثمة عيادات خاصة شديدة التطور، مثل «ميو كلينيك»، وهي عيادة لها باع طويلة في تأهيل ضحايا الحوادث، إضافة الى الجراحات الباطنية والعصبية.
تتعاون هذه العيادة مع مركز «المشي مجدداً»، وهو مركز يعالج الأطراف من خلال قراءة الإشارات العصبية عبر الروبوت. هذا المركز الخاص هو الأول على مستوى أوروبا الذي يستخدم أطرافاً صناعية هجينة من طراز «هال»، أو «لوكومات» في علاج المصابين بإعاقات المشي والشلل السفلي الناجم عن السكتة الدماغية، او إصابات الحبل الشوكي، أو تصلّب الأنسجة المتعدد، أو ضمور العضلات، أو الأمراض العصبية العضلية.
كما تتعاون «ميو كلينيك» مع الفندق والمركز الصحي «سنتروفايتل»، وهو مركز يطل على بحيرة سباندو غرب المدينة، ويضم فندقاً مع مرافق صحية ورياضية من أجل إعادة تأهيل المرضى وتقديم العلاج الطبيعي واستشارات التغذية والطب الوقائي.
وجهة سياحية أوروبيّة بامتياز
لبرلين جاذبية خاصة بها، ربما بسبب تاريخها، أو نوعية الحياة فيها أو طبيعة سكانها، أو لعله إقبال الشباب والفنانين والمثقفين عليها، أو ربما لكونها بلد التعايش بما فيها من جاليات أجنبية، من 182 بلداً، خصوصاً التركية والسورية.
مهماً يكن، فهي مدينة لا تنسى، خصوصاً في فترة احتفالات الميلاد عندما ترتدي العاصمة أبهى حليها، فتتزين بالأنوار وبأشجار الميلاد الضخمة، وتكثر فيها الأسواق الخاصة بـ»كريسماس» حتى ليتجاوز عددها الـ60، وأشهرها «جندارمن ماركت» حيث يعرض للبيع ما لذّ وطاب مما تشتهر به البلد من حلوى تقليدية ووجبات شعبية وحرف محلية. كما يقصدها عشرات الآلاف ليلة رأس السنة، فيسهرون عند «بوابة براندنبرغ» لمشاهدة الألعاب النارية وهم يودعون سنة ويستقبلون أخرى.
و»بوابة براندنبرغ» نقطة جذب، ليس فقط في رأس السنة، بل في كل أيامها باعتبارها من أبرز المعالم السياحية في برلين، بعدما أصبحت رمزاً لتوحيد ألمانيا بعد سقوط الجدار عام 1989.
وجدار برلين قصة في حد ذاتها، فهو رمز لتقسيم المدينة بين شرق وغرب خلال الحرب الباردة. يمكن تتبّع مساره من قلب العاصمة حيث ما زال بعض أجزائه قائماً، الى منطقة «غاليري إيست سايد» حيث الجزء الأطول المتبقي منه، وحيث يمكن مشاهدة رسوم لـ118 فناناً من 21 دولة على جدرانه التي باتت تشكل أكبر معرض مفتوح للرسوم في العالم.
ومن معالم برلين السياحية الأشهر، مبنى البرلمان (رايخشتاغ) بقبته الزجاجية وطلّته البانورامية على نهر شبري، وأيضاً قصر شارلوتنبرغ بحدائقه الرائعة، وجزيرة المتاحف حيث أكبر مجموعة من 5 متاحف في موقع تصنّفه «منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة» (يونيسكو) ضمن مواقع التراث العالمية.
رزنامة برلين أيضاً غنية وحافلة بالنشاطات، فلا يكاد يمر شهر من دون تظاهرة ثقافية من نوع ما أو احتفالية أو مهرجان، بعضها شهير مرتبط باسم المدينة، مثل «أسبوع الموضة» الذي تفتتح به العام، يتبعه في الشهر التالي «مهرجان برلين السينمائي» الشهير والأكبر في أوروبا، ثم الماراثون، والكرنفال، وعيد الموسيقى، و…
ولا يفوَّت في برلين حضور إحدى حفلاتها الموسيقية، الكلاسيكية أو غيرها، وعروضها الاستعراضية، وأحدثها «الواحد» (ذي وان) الذي يعرض في مسرح «بالاست برلين»، وهو أكبر خشبة مسرحية في العالم. في هذا العرض الذي تبلغ موازنته 11 مليون يورو، يشارك مئة راقص من 26 بلداً يرتدون 500 زي صممها مصمم الأزياء العالمي جون بول غوتييه، ليتحول المسرح الى عرض أزياء رائع لتصاميمه طوال ساعتين. أما العرض نفسه، فهو حالة وسطى بين «مولان روج» و»سيرك دي سولاي» بأغانيه وراقصيه وحركاتهم البهلوانية. ولا أجمل من زيارة كواليس المسرح للتعرف الى تاريخه، والوقوف على خشبته قبل العرض، وطبعاً مقابلة الراقصين ومتابعتهم أثناء الاستعدادات.
وبالتأكيد، لا يخلو برنامج أي سائح من فقرة التسوق، وبرلين مثل غيرها من عواصم العالم لا تخلو من الماركات العالمية الراقية والفاخرة. لكن للباحثين عن التميز، ثمة محال تجارية تبيع الماركات المحلية، والتي تضمن جودتها عبارة «صنع في ألمانيا». وهذا لا يقتصر على الملابس بل أيضاً العطور التي يمكن اختيار تركيبتها وفق الطلب والمزاج الشخصي، مثلما يحصل في محل عطور «فراو. تونيس» العريقة، والذي يرفع شعار «برلين في قارورة».
وللإقامة، تتمتع برلين بمجموعة من الفنادق الراقية، خصوصاً تلك الواقعة وسط العاصمة على مسافة دقائق من المرافق الأساسية والمعالم السياحية، ومن بينها «برلين غراند حياة»، وفندق «ويست إن غراند أوتيل».
كما تنافس في مطاعمها ذات نجوم «ميشلين»، وفيها من هذا النوع 13 مطعماً، تقدّم مختلف صنوف الطعام الأوروبي والآسيوي، كما فيها مطاعم فاخرة تقدم الطعام الشرق الأوسطي، مثل نادي «هسير للحم البقر والمشاوي» الواقع في فندق «تايتانيك»، ومطعم «كاسالوت» الذي يقدم الطعام الفلسطيني التقليدي. وفيها أيضاً مطاعم على شكل نواد، مثل مطعم «ذي غراند» الذي يضم ست قاعات للمناسبات.
مطعم «رويه» يحتاج وقفة، فهو مطعم يديره ابن برلين الشيف تيم رويه الذي افتتح أخيراً مطعماً مماثلاً في دبي تحت اسم «دراغون فلاي». الشيف حاصل على نجمتيْ ميشلين، وله فلسفة تختلف عن غيره من الطباخين من حائزي نجمة «ميشلين» في أنه يصر على أن يكون الطعام ذا مذاق قوي، ما انعكس في أطباقه الآسيوية ذات التأثيرات الأوروبية، وفي العصائر التي يعدها لتناسب الأطباق وتحمل بصمة مدينته.
هذه هي برلين بكل وجوهها، سياحة وطباً وثقافة. رحلة الى المستقبل… الى أوروبا الجديدة.
برلين الأولى في…
برج التلفزيون في برلين هو أطول مبنى في ألمانيا وفي أوروبا، ويصل ارتفاعه إلى 368 متراً.
مجموعة إشارات المرور الأولى أنشئت في شارع بوتسدام بلاتس عام 1924 ولا تزال تثير الإعجاب.
أصبحت برلين أول وأكبر مركز للسكك الحديد في التاريخ بعد إنشاء المحطة المركزية الجديدة.
تتغلب برلين على مدينة البندقية بجسورها التي يبلغ عددها نحو 1700 جسر.
تبلغ مساحة برلين 892 كيلومتراً مربعاً، وتعادل مساحة باريس تسع مرات، وهي ثاني أكبر مدن الاتحاد الأوروبي بعد لندن.
ستة من أبرز رؤساء الولايات المتحدة ألقوا خطابات تاريخية في برلين منذ الحرب، من أبرزها: «أنا برليني» لجون كينيدي عام 1963، ورونالد ريغان عام 1987 الذي خاطب الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف بقوله: «أهدم هذا الحائط سيد غورباتشوف».
تضم برلين أربع جامعات، وأربع مدارس فنون، وعشر كليات تقنية، وما يقارب 134 ألف طالب من جميع أنحاء العالم، ونحو 130 من المرافق البحثية، ما جعلها أكبر مدينة جامعية في ألمانيا.
فيها أكثر من 180 كيلومتراً من الأنفاق المائية، ما يجعل اكتشافها أجمل من طريق القوارب.