كتب د. عبد الرحييم ريحان
القاهرة “المسلة” ….. تنفرد تل العمارنة المدينة المصرية القديمة بالعديد من الصفات التى تجعلها تختلف عن غيرها من المدن فهى المدينة التى لم يسكنها أحد قبل إختيار إخناتون لها كعاصمة للبلاد ولم يستمر عمر المدينة أكثر من سبعة عشر عاما حيث عاش فيها ملكان بعد إخناتون وهما سمنخ كارع وتوت عنخ آتون قبل رجوعه إلى طيبة وهجرته هو وكل من معه فى المدينة ثم أصبحت المدينة مهجورة حيث لم يجرؤ أحد على سكن المدينة فيما بعد فى كل العصور التاريخية التى تليها وذلك بسبب إرتباط المدينة بالآله آتون والذى قام كهنة آمون بمسح أى لقب مرتبط بذلك المعبود بل وإعتبروا المدينة ملعونة.
تقع على بعد 10كم من مدينة ملوى بمحافظة المنيا على الجانب الشرقى من النيل وتمتد على مساحة 25كم من الشيخ سعيد شمالا حتى الحوطا جنوبا وهى منطقة محاطة بسلاسل الجبال من ثلاث جهات شرقا وشمالا وجنوبا ويحدها من الغرب نهر النيل وتشمل حاليا الحاج قنديل وتل العمارنة والحوطا وقد عرفت قديما بإسم (آخت آتون ) أى أفق آتون وحديثا عرفت بتل العمارنة نسبة إلى قبائل بنى عمران التى عاشت فى المكان.
وعن أسرار وجماليات هذه المدينة المصرية العتيقة كانت رحلة محيط مع الباحث الآثارى أحمد مصطفى مفتش آثار تل العمارنة الذى يشير إلى أن الملك أمنحتب الرابع حدد حدود مدينته بحوالى 14 لوحة عرفت فيما بعد بلوحات الحدود والتى سجل عليها الملك النص التأسيسى للعمارنة وحدودها وذكر فيها أنه لن يغادر تلك المدينة حتى وفاته تلك التى انتقل إليها فى العام الرابع من حكمه حيث قرر نقل دعوته الدينية إلي مكان جديد لم يعبد فيه أى معبود من قبل وأيضا محاولة الإبتعاد عن سطوة وقوة كهنة آمون المتواجدين فى طيبة التى نقل منها العاصمة إلى مدينته الجديدة أخت آتون ولم تتغير العاصمة فقط بل قام الملك بتغيير أسمائه المرتبطة بالمعبود القديم والعاصمة القديمة فغير إسمه النبتى من عظيم الملك فى الكرنك إلى عظيم الملك فى آفق آتون وإسم التتويج من أمنحتب الرابع والذى يعنى أمون مسرور إلى إخناتون أى النافع أو المحب لآتون أيضا زوجته نفرتيتى التى غيرت إسمها من نفرت إيتى أى الجميلة المقبلة إلى نفر نفرو آتون أى الجميلة بجمال آتون حيث تزوجها وهو فى عمر إثنا عشر عاما وكان عمرها يبلغ ثلاثة عشر عاما وأنجب منها ست بنات وهي لم تكن أخته حيث كانت العادة المتبعة فى ذلك الوقت زواج الملك من أكبر أخواته البنات ولكن إخناتون خالف تلك العادة وتزوج من إبنة أحد كبار النبلاء.
دعوة إخناتون
يشير الآثارى أحمد مصطفى إلى أنه فى بداية حكم الملك إخناتون فى العمارنة إعترف بالمعبودات الآخرى ولكنه كان يريد فى قرارة نفسه التخلص من باقى الديانات والمعتقدات التى كان يراها تحمل الكثير من الخرافات وكان آتون بالنسبة له معنى روحى حيث أنه لايمكن لمسه ولكنه أب وأم لهذه البشرية وموجود فى كل مكان فهو أيضا ممكن أن يظهر عن طريق ضوء الشمس حيث كان الملك دائما ما يظهر داخل مقابر النبلاء فى تل العمارنة وهو يتعبد للآله آتون والذى صوره بأشعة الشمس التى تهبط على الملك وأسرته وتنتهى بالأيدى رمز العطايا من المعبود للملك ولكن ليست تلك الشمس بالمعبود بل هو القوة التي جعلت الشمس تظهر والتى هى بالنسبة لهذا الكون تبعث الحياة وتقوى كل شىء وتنميه ولم يكن لآتون أى هيئة أدمية ولايمكن أن تنحت له التماثيل أو يصور.
ويضيف أحمد مصطفى أن إخناتون أخلص إخلاصا شديدا فى دعوته الدينية والميل إلى التوحيد ويتضح ذلك فى المجهودات التى قام بها الملك من أجل نشر الديانة الجديدة فى كل أقاليم مصر وكان بذلك يهدف إلى القضاء على تعدد الآلهة أيضا ولم يبد الملك أى إهتمام بالسياسة الخارجية بل على العكس أهملها تماما حيث كان إهتمامه منصب على نشر الدين الجديد والذى كان يعتقد أنه من خلاله يمكنه ربط الشعوب بعضها بالبعض عن طريق السلام بدلا من الحرب وإشتهر إخناتون فى التاريخ العالمي بأنه “الملك الذى غير الديانة” أو “الملك الذى فضل الديانة عن كل أمور الحكم”.
رسائل العمارنة
يشير الآثارى أحمد مصطفى إلى أن إهتمام إخناتون الشديد بالدعوة الدينية وعدم إهتمامه بالسياسة الخارجية أدى إلى ضياع أغلب ممتلكات مصر فى الخارج حيث كانت مصر فى عهده تشمل سوريا فى الشمال وتشمل الحبشة في الجنوب فإستغل الحيثيين (المملكة المعادية لمصر فى سوريا) إنشغاله بالدعوة الدينية وقادوا ضده التحالفات التى نتج عنها إستعادة ملك قادش لسهل سوريا الشمالية وإستولى ملك عامور على السواحل الفينيقية وقد عرفنا ذلك من خلال خطابات العمارنة وهى عبارة عن لوحات صغيرة من الطين المحروق ومغطاة بالكتابة المسمارية وهى الكتابة المستخدمة فى ذلك الحين فى سوريا وكانت تلك الخطابات عبارة عن المراسلات المتبادلة بين إخناتون وملوك وأمراء سوريا وفلسطين الموالين لمصر.
انهيار دعوة إخناتون
يؤكد الآثارى أحمد مصطفى أن دعوة إخناتون الدينية لم تستمر كثيرا حيث إستمرت حوالى 12عام ثم إنهارت تلك الدعوة وربما يرجع ذلك لعدة أسباب منها وفاة الملك إخناتون عن عمر يناهز 29عام حيث كان يعتبر الرابط الوحيد أو حلقة الوصل بين البشر وبين المعبود وأيضا الكاهن الأكبر والأعظم لآتون الذى ينزل عليه العطايا ويقوم الملك بتوزيعها على العامة لذلك بعد وفاته لم تسمتر الحياة فى تل العمارنة سوى ثلاث سنوات حكم فيها الملك سمنخ كارع والملك توت عنخ آتون الذى غير إسمه لتوت عنخ آمون بعد نقله للعاصمة إلي طيبة والعودة مرة أخرى إلى عبادة آمون وقوة وسطوة كهنة آمون حيث يعتقد الكثيرين أنه فى بداية الأمر كان المقصود من الثورة الدينية القضاء على تلك السطوة والسيطرة عن طريق غلق معابدهم وتفريق كهنتهم وأيضا العمل على محو إسم آمون من كل الخانات الملكية التى تحمل أسماء الملوك السابقين وكل ماسبق أثار حفيظة هؤلاء الكهنة الذين حاولوا جاهدين القضاء على تلك الدعوة ونجحوا فى ذلك بالفعل فى عهد الملك توت عنخ آمون.
جماليات مدينة إخناتون
يوضح الآثارى أحمد مصطفى أن أهم ما كانت تحويه مدينة إخناتون قديماً مجموعة من المقابر وصل عددها 26 مقبرة نحتت فى الصخر وأحد تلك المقابر كان مخصص لدفن العائلة الملكية وأخذت نفس تصميم المقابر فى وادى الملوك مكونة من ممر منحدر به ثلاث ممرات متفرعة منه ولم يدفن فيها سوى الأميرة ماكت آتون إبنة الملك إخناتون والتى توفت أثناء فترة حكمه أما باقى المقابر الخمس وعشرين فخصصت لأفراد الطبقة الحاكمة والنبلاء فى عهد الملك إخناتون وإنقسمت إلى ست مقابر فى الجانب الشمالى من المدينة وتسعة عشر مقبرة فى الجانب الجنوبى وأغلب تلك المقابر تتكون من فناء ثم بهو كبير نحتت أعمدته فى الصخر ثم مقصورة فى نهايتها مشكاة بها تمثال لصاحب المقبرة وتشابهات بشكل كبير الموضوعات التى صورت علي جدران تلك المقابر حيث كان أهمها زيارة الملك والملكة للمعبد الآتونى وأيضا منظر الملك والملكة وبناتهم وهم فى وضع التعبد للإله آتون داخل معبده ودائما ما صور صاحب المقبرة وهو محمول على الأعناق من العامة ويكرم من الملك والملكة اللذان كانا يجلسا فى الشرفة الملكية داخل القصر.
وتتميز النقوش والرسوم التى تزينت بها جدران تلك المقابر بالإسراف فى الواقعية حتى قاربت أشكال الكاريكاتير وإتخذت من بروز ملامح الوجه وهبوط البشرة وبدانة الفخذين مظهرا عاما لجميع الشخصيات التى صورت داخل المقابر أيضا تحرر الفنان من القيود فى تصوير بعض الموضوعات التى تخص الملك وأسرته حيث صور إخناتون فى أحد المقابر وهو يقبل زوجته نفرتيتى أيضا صورت نفرتيتى فى أحد المقابر وهى ترضع أحد بناتها وهى موضوعات كانت نادرة التصوير على جدارن المقابر خاصة الملكية.
ويتابع الآثارى أحمد مصطفى أن أهم ما يميز تلك المقابر أنها غير مكتملة الإنشاء حيث البعض منها نحت فيه الفناء والصالة الأمامية فقط والبعض الآخر نحت فيه الفناء والصالة الأمامية وحجرة الدفن والمشكاة التى بها تمثال صاحب المقبرة ولكن دون إكتمال للنقوش الخاصة بتلك المقبرة ويرجع ذلك لسبب غاية في الأهمية قد يجهله الكثيرون من غير الدراسين أن تلك المقابر لم يدفن أصحابها فيها وذلك بسبب مغادرتهم المدينة بعد إنتهاء حقبة العمارنة والعودة للأقصر فكان من الطبيعى أن لايستكمل العمل فيها وأن تترك مهملة بما وصل العمل بها أثناء فترة الحكم فى المدينة ولأن أصحابها أصبحت لهم مقابر أخرى فى الأقصر.
رسومات المقابر
ونستكمل رحلة محيط مع الآثارى أحمد مصطفى مشيراً إلى أصحاب مقابر تل العمارنة من طبقة النبلاء ومنهم (آى) أحد كبار النبلاء فى المدينة وأيضا والد الملكة نفرتيتى زوجة الملك إخناتون ومقبرته كمثيلاتها من مقابر المدينة غير مكتملة ولم يدفن فيها صاحبها والذى دفن فى مقبرة آخرى فى وادى الملوك ولكن دفن بها كملك للبلاد حيث أنه إستطاع الوصول للحكم فيما بعد وترجع أهمية تلك المقبرة إلى وجود النشيد الآتونى على جدارن أحد مقابرها (ظهورك فى أفق السماء جميل — ياآتون الحي ومصدر الحياة — عندما تستيقظ فى الآفق الشرقي لللسماء — فإنك تملأ أرجاء البلاد بجمالك ورغم تعاليك فإن أشعتك تشرق على الأرض) والذى قارنه الكثيرون بالمزمور 104 للنبى داود فى الكتاب المقدس طبقا للعقيدة اليهودية .
ومقبرة (ماحو) رئيس الشرطة فى عهد الملك إخناتون ومقبرته تحتوى على نقشين غاية فى الأهمية أحدهما للملك والملكة تجلس على قدمه وهو يقبلها والآخر لشىء يدعي البشعة وهى عبارة عن وعاء ضخم تتصاعد من ألسنة اللهب ويظهر العديد من الأفراد يعتقد أنهم لصوص يصطفون ويمر كل واحد منهم تلو الآخر ليضع لسانه على طرف ألسنة اللهب المتصاعده منها وذلك بعد القسم حيث أنه فى حالة كذبه سيحرق لسانه بتلك النيران أما إن كان صادقا فلن يحدث له شيئا ويربط أحد المؤرخين بين ذلك المنظر وبين القول بحدوث مؤامرة على حياة الملك فى آخر فترات حكمه وأن ماحو قبض على المتأمرين وأنهم عوقبوا نتيجة تلك المحاولة وذلك بعد أخذ الإعترافات منهم بتلك الطريقة التى ما يزال بعض أهل يستخدمونها حتى الآن.
ومقبرة (حويا) المشرف على الحريم الملكى وعلى بيت المال وتعتبر مقبرته من أهم المقابر فى تل العمارنة حيث صور فيها وهو يكرم من الملك والملكة تقديرا لوفائه وإخلاصه فى خدمتهم ومقبرة (مرى رع) الكاهن الأكبر وكبير الرائيين للمعبود آتون وهو منصب دينى رفيع، ومقبرته أحد أجمل المقابر فى المدينة لوجود أغلب النقوش والرسوم الخاصة بالملكة والملكة بحالتها تقريبا.
قصور المدينة
ونستكمل رحلتنا مع الآثارى أحمد مصطفى فى قصور المدينة وقد إحتوت المدينة على قصرين بقيت أطلالهما وهما القصر الجنوبى ويخص الملك إخناتون ويقع بالقرب من معبد آتون الكبير وهو مشيد بالطوب اللبن بإستثناء المدخل والأعمده والحمامات حيث تم بنائهم من الحجر وكذلك جدران وأرضيات هذا القصر مغطاة بالجص المزين بمناظر جميلة تمثل الطبيعية من طيور وأشجار وأنهار ويحتفظ المتحف المصرى بجزء من أرضية القصر والقصر الشمالى ويعتقد أنه بنى من أجل أحد بنات إخناتون وهى الأميرة (مريت آمون) والقصر مشيد أيضا بالطوب اللبن ويضم قاعة للإستقبال وحمام للسباحة وإسبطلاً للخيول وبعض الحجرات للخدم .
مساكن المدينة
ويطوف بنا الآثارى أحمد مصطفى فى الأحياء السكنية بالمدينة التى كانت تضم أكثر من حى سكنى إختلطت فيها أحيانا منازل العمال بالنبلاء إلا أنه كانت هناك مدينة خاصة بالعمال بقياها موجوده حتى الآن وكان المنزل يتكون فيها من صالة أمامية أو حجرة جلوس وحجرة نوم أما عن منازل النبلاء فكانت كبيرة الحجم تتضمن صالات وغرفا وحمامات وصوامع لتخزين الغلال وأماكن لتربية الطيور والحيوان وكانت المنازل تبنى من الطوب اللبن وتغطى أحيانا بالجص ومن أهم النماذج بيت النبيل “بانحسي” وبيت الوزير “نخت”.
وكان هناك أكثر من معبد لآتون فى المدينة ولكن أهمها ما يعرف بالمعبد الآتونى الكبير والذى شيده الملك إخناتون للإله آتون وهو المعبد الرئيسى بالمدينة وكان أكبرها حيث وصل طوله إلى 1كم تقريبا من الشرق الى الغرب و 250م تقريبا من الشمال إلى الجنوب والذى تميز تصميمه المختلف عن معابد الدولة الحديثة فهو أقرب إلى معابد الشمس فى الأسرة الخامسة حيث تميز بعدم وجود سقف وذلك ليسمح بدخول ضوء الشمس ومعظم أجزاء المعبد شيدت بالطوب اللبن عدا الأعمدة والبوابات وبعض الأجزاء التى استخدم الحجر فى بناءها وكان يحيط بالمعبد سور كبير طوله حوالى 800م وعرضه 300م ويتوسط جداره الغربى مدخل على هيئة صرح بين برجين عاليين من الطوب اللبن.
وتنفرد تل العمارنة بالعديد من الصفات التى تجعلها تختلف عن غيرها من المدن فهى المدينة لم يسكنها أحد قبل إختيار إخناتون لها كعاصمة للبلاد ولم يستمر عمر المدينة أكثر من سبعة عشر عاما حيث عاش فيها ملكان بعد إخناتون وهما سمنخ كارع وتوت عنخ آتون قبل رجوعه إلى طيبة وهجرته هو وكل من معه فى المدينة ثم أصبحت المدينة مجهورة حيث لم يجرؤ أحد على سكن المدينة فيما بعد فى كل العصور التاريخية التى تليها وذلك بسبب إرتباط المدينة بالآله آتون والذى قام كهنة آمون بمسح أى لقب مرتبط بذلك الآلة بل وإعتبروا المدينة ملعونة.