بقلم : فاطمة غندور
استاذة بكلية الفنون والأعلام – كاتبة صحفية – ليبيا
أعادت الانتفاضات العربية 2011 أحياء مفاهيم عدة منها تجديد الخطاب الديني أو تصحيحه أو اصلاحه ، و رغم ضبابية وميوعة المصطلح إلا أنه يُلقي بمرجعية كلها تصب في جهود فكرية فلسفية جدالية سابقة تنوعت أشكالها منذ عصر النهضة وبزوغ عهود الاستقلال والى يومنا هذا ، لا مندوحة إن أشرنا إليها عبر مُستنيري الفكر العربي الاسلامي الأصلاحيين من محمد عبده وقبله أساتذته ، الى عبد الله العروي، الى حسن حنفي ، الى نصر حامد أبو زيد … وغيرهم ، ولنا أن نذكر في الاشتغال الفكري الليبي الصادق النيهوم ، ومصطفى كمال المهدوي ، وإن تقاربت أو تباينت ( بأجمعهم ) طروحاتهم أو فلنقل مقارباتها في المسكوت عنه ، إلا أنه يُحسب لهم أنهم ظلوا يراجعون أسباب انتكاساتنا الحضارية ، وأسباب تصاعد خطاب التطرف العنف قولا وفعلا، ودُعاته : قادةً أفراد وجماعات ، من خلال حفريات نقدية تطال مفاهيم ترسخت وتقدست تم تحريم المساس بها والحجر على العقل ليتدبرها ويتأملها مُفككا ثواباتها ، وسابرا أغوارها وطارحا أسئلة الوعي المُشرع نحو التنوير بما يتلائم وروح العصر فيما شاع أثبات أنه ملائم لكل زمان ومكان !.
منظمة ليبية نسوية تُصدر كتابا …
المُستهل السابق هو ظلال، وعلائق بندوة عربية بتنظيم ليبي، خرجت في أصدار حديث وصلني مؤخرا بعنوان ” دور النساء في بناء السلم الأجتماعي من منظور أسلامي ” وقد أصدرته منظمة منبر المرأة الليبية التي ترأسها السيدة النشطة شهرزاد المغربي ،ومتن الكتاب يجمع وقائع ندوة جرت بتونس عام 2016 ، شارك فيها وقدم أوراقا مرفقة بتوصيات باحثون وباحثات من مصر وتونس والمغرب فيما أقتصرت المشاركة الليبية على التعليق على تلك الأوراق ،وحسب ما يوثقه الكتاب فإن محاور الندوة الثلاث دارت حول : 1) حقوق النساء ودورهن في المجال العام ، 2) دور النساء في نشر السلم المجتمعي ،3) المرأة والأمن والسلام : الواقع والأطار الدولي ، والمحوران الاول والثاني هما المختصان بالبحوث ، أما المحور الثالث فكان ورشة عمل رفقة مشاركات ليبيات من أكثر من منظمة على مستوى البلاد .
في الكلمة الافتتاحية للندوة التي تمثل مدخل البحوث الاخرى للكتاب يؤكد د.منير الرويس عميد المعهد العالي لأصول الدين ( جامعة الزيتونة )أن ما نمر به من هزات متطرفة ، وإن كانت قليلات من النساء طرفا فيه كداعمات للمتطرفين ، سيكون مصيرها الى زوال ، و أن الأفكار الدينية الأصلاحية بشأن دور المرأة جاءت عقب دخول القوة الغربية مُستعمرة الى بلاد العرب ويليها انتهجوا هم حداثتهم بشأنها أيضا ، فبعد حركات الاستقلال كان المسلمون الاصلاحيون سابقون في تناول مسألة تعليم المرأة ودخولها المبكر ميدان العمل معتبرا نموذج “مجلة الاحوال الشخصية ” في تونس ما أعطت اشارة ضوء لأصلاحات في بلدان عربية أخرى .
يرتكز الكتاب في موضوعاته حول الدور الذي أعطته الشريعة الاسلامية للمرأة بناء على مراجعات أعتنت بنصوص من القرآن الكريم ، والسنة ، واقوال الصحابة ومواقفهم وحوادث حصلت مثلت المرأة المسلمة فيها مرتكزا لرأي وصانعة لتغيير ساعة تطلب الامر أن تُبدي موقفا أو مقترح حل لأزمة ، ما يُعبر عن مساحة منحها الخطاب الاسلامي المستنير الموجه للمرأة وعنها، ففي بحث أستاذ مقارنة الأديان د.يوسف الكلام : “أهمية تجديد الخطاب الديني في دعم حقوق النساء في المجال العام والتصدي للعنف” يستند في دعوته للمراجعة الفكرية والنقد والوقوف على التراث الاسلامي والحفر فيه الى ما أشار إليه الامام الجويني في كتابه البرهان : “السابق وإن كان له حق الوضع والتأسيس والتأصيل فاللمتأخر الناقد حق التتميم والتكميل… ” ،ويزيد على ذلك أن القرآن نص نقدي بامتياز، نقد يقوم على العلم والدليل ، وقد انتقد صحة التوراة والانجيل الموجودين بين يدي اليهود والمسيحين ، كما دعا الى تدبر النص القرآني ومدح المتفكرين المتدبرين فيما حولهم من الخلق والكون.
أما د. كوثر الخولي من مصر فقد طالبت في ورقتها البحثية الى صياغة خطاب ثقافي للمرأة يستلهم الخطابات الثقافية / الدينية الدافعة للتقدم والتنمية، وستراجع الخولي مشهد اول برلمان مصري عقب ثورة يناير وقد انعقد 2012 إذ تصاعدت خطابات قوى اجتماعية واحزاب سياسية ذات مرجعية اسلامية سلفية مطالبة بتغيير قوانين تخص المرأة والطفل مثلت مكسبا لهما لكن عدد من الفاعلين من المجتمع المدني تصدوا للمسألة بخلق سلسلة فضاءات للحوار حول قضايا المرأة والأسرة ما تمخض عنه ما عرف أعلاميا بوثيقة الأزهر الشريف لحقوق المرأة ، وكان للحوار الدائر سببا في تقديم رؤية تصحيحية داعمة ،كما القدرة على التشبيك مع المستويات المختلفة العاملة في مجال المرأة .
لعل ما مثل أضافة وسعت دائرة الرأي والاسانيد والأدلة بحثا وتمحيصا ما أقترحته منظمة منبر المرأة من خارطة للندوة ومحاورها تمثلت في قراءة تعقيبية مُناظرة لما قدمه الباحثون والباحثات (الرئيسيون) ، فجاءت مثلا د.منية العلمي مُعقبة على ورقة د. يوسف كلاّم وقد انتبهت الى أنه من المهم ولبعث طمأنة لدى المجتمع أن تقع الاشارة للفارق بين أن الخطاب الديني ( الذي شابه مؤخرا طابع تردي ورجعية وترهيب) ، غير النص الديني ( النص المحدد في مساحته)،مضيفة أن ما مثل عائقا و أجهاضا لحركة العقل أنه لا يقع التمييز بين الشريعة في روحها ومقاصدها ، وبين التشريع باعتباره قرارا مرحليا وظرفيا قابلا للمراجعة والتغيير ، ودعت الخولي الى مساهمة المرأة في الشأن الديني وفي عملية التفسير فما نعيشه من تدنى في قراءات نصوص المرأة تمخض عنه تدني في حقوقها ومن هنا تصبح مسألة التجديد في الخطاب الديني مسألة يستدعيها الحاضر العنيف.
ومن المغرب ستعتمد د.ناديا الشرقاوي عرض وتحليل تجربة دولتها في توسعة دور النساء العالمات عقب أعادة هيكلة الحقل الديني المؤسسي بعد أحداث عامي (2001، 2003)اذ جرى اتخاذ قرار التصدي للمؤثرات الخارجية والافكار المستوردة التي شكلت خطرا على الهوية الدينية ،فكانت مؤسسة دار الحديث الحسينية ، والمجلس الأعلى التابع للأوقاف ، والرابطة المحمدية للعلماء ،وهي مؤسسات مرجعية رائدة في أعطاء دور وأشراك للنساء كواعظات ومرشدات وأستاذات يدرسن مواد علوم القرآن والفقه ،ويُشاركن في لجان الفتوى ،بعد تأطيرهن وفتح الباب لمشاركتهن كعضوات في المجلس الأعلى والمجالس العلمية المحلية ، واعتبرت الشرقاوي أن من محصلة تلك النقلة الاصلاحية الدينية خلخلة النظرة النمطية الضيقة للأحتكار المعرفي الديني .
الحقوق الدينية للمراة
الكتاب متن الندوة يعمر بالمراجع العامة والمتخصصة المُعينة لقراءة متبصرة للحقوق الدينية المستنيرة للمرأة ما لن تسمح بعرضه موسعا هذه المقالة المختصرة ، وإن أفتقدت المُشاركة الليبية الوحيدة ضمن طاولة البحوث و التعقيب ( التي بدت مهمتها فقط الأشادة أو عرض خلاصة ) لأحاطة تراجع المشهد في خصوصيته تاريخا ومجتمعا كما جرى عند عرض التجارب المصرية والتونسية والمغربية بما له من علاقة بالخطاب والأشتغال الديني ، ففي تاريخ ليبيا حركة اصلاحية دينية هي الحركة السنوسية التي لم يُعرف عنها تطرفا في نظرتها لدور المرأة ،كما أدوار مفكرين وباحثين في خلخلة وتحريك راكد بطرح الاسئلة وإثارة الجدل والنقاش أمثال : الصادق النيهوم،مصطفى كمال المهدوي، علي فهمي خشيم ،ولعل فتح نقابٍ عن شخصية مستنيرة رائدة في العمل النسوي كزعيمة الباروني والتي أنجزت كتابين عن والدها كزعيم سياسي ومجاهد وكونه كدارس مُنتجُ تلاقحِ المدرسة الازهرية (مصر ) والجامع الأعظم بالزيتونة ( تونس ) وهو أيضا صاحب جريدة “الأسد الأسلامي” ، ما يُقارب مسألة أن رسوخ الارث المؤسسي الديني في العائلة البارونية لم يمنع من انفتاحها المبكر وتنورها إزاء بروز دور للمرأة متقدمة في الفضاء العام .
وكون الكتاب المُتاح اليوم مُنتج منظمة مدنية ليبية تُعنى بالقضايا النسوية في هذه المرحلة مرحلة البناء سندعو الى هكذا نشر وتوثيق وإفادة موسعة ، تبدو غائبة مؤخرا عن مشاركة وتفاعل منظماتنا المدنية بالشأن المعرفي الثقافي ، وحتى لا تظل أدوار المنظمات جلسات وكلام متبادل ” ثقافة مشافهة” تذروها الرياح بمجرد مغادرة المشاركين لقاعة اللقاء !.