بقلم – الكاتب جودت هوشيار
في أوائل التسعينات من القرن الفائت توصل عدد من الصحفيين الشباب في الولايات المتحدة الأميركية -خلال عملهم كمراسين ميدانيين لعدد من الصحف والمجلات الأميركية الشهيرة التي تخاطب النخب المثقفة – الى إكتشاف مهم مفاده أن المقال أو التحقيق الصحفي – الذي ينطلق من الواقع – ينبغي أن يصاغ على نحو يمكن قراءته مثل قصة مشوقة. وأنه يمكن في الصحافة وفي النثر غير الفني (نون فيكشن) استخدام كل التقنيات الروائية وبضمنها الوصف، والحوار، وتيار الوعي، وتطبيق هذه التقنيات في وقت واحد، أوالواحدة تلو الأخرى، مما يضفي على النص جاذبية تثير إهتمام القاريء وتدفعه الى التفكير.
لم تكن تجارب هؤلاء الصحفيين تقليدا لفن الرواية، بل محاولة للتعبير عن الظواهر الجديدة في المجتمع الأميركي على نحو صادق وجذاب يترك اثرا عميقا في نفس القاريء، وبذلك اتسعت الحدود التقليدية للصحافة والنثر الفني (الرواية، والقصة) في آن واحد. وعرف هذا الأتجاه الجديد ب (الصحافة الجديدة) وأعقب هذا الأكتشاف المثير ظهور جنس أدبي جديد اطلق عليه اسم (الرواية غير الخيالية – نون فيكشن نوفيل) وهي بصفة عامة، تصور شخصيات حقيقية وأحداث واقعية من الحياة، باستخدام تقنيات السرد القصصي. وهوجنس مرن، يقع على تخوم الصحافة والأدب أو بتعبير أدق يمزج بينهما. .ويطلق عليه أحيانا الأسم الدارج (فاكشن) من الكلمتين الأنجليزيتين (فاكت – حقيقة أو واقعة) و (فيكشن – رواية أوخيال).
لم يتعمد رواد الصحافة الجديدة استعارة التقنيات الروائية عن قصد، بل اكتشفوا هذه التقنيات بتلقائية عند محاولتهم تناول القضايا الساخنة وجعل المادة الصحفية صادقة الى أقصى حد ممكن ومثيرة، برسم صورة حية لما يحدث في الواقع ومنح القاريء شعورا بالأندماج فيه بكل أحاسيسه.
ازدهرت الصحافة الجديدة بين عامي (1962 (- 1973) أي في العقد الصاخب الذي حدثت فيه تغييرات عميقة في المجتمع الأميركي، تجلت في تطور نمط الحياة ومظاهره الجديدة كان ذلك زمن الأحتجاجات والتظاهرات الحاشدة ضد الحرب في فيتنام، وزمن الثورات (الطلابية، والجنسية، والعرقية)، وحركة اليساريين الجدد، وظاهرة الهيبز، أو بأختصار زمن الثقافة المضادة.
(الصحفيون الجدد) الذين تبنوا الأتجاه الجديد لم يكونوا يكتبون مقالاتهم وتحقيقاتهم الصحفية من وحي الخيال ولا يستقون المعلومات من هذا المصدر أو ذاك، بل كانوا يكتبون ما عايشوه في مواقع الأحداث، بعضهم سافر الى الفيتنام ليس مراسلا صحفيا عاديا، بل مشاركا بجبهات القتال والبعض الآخر عمل في في هذه المهنة أو تلك، أوانخرط في مجموعة معينة من اجل دراستها من الداخل مثل (الهيبز، أو تجار المخدرات .. الخ)، ومثل هذه الحالات كثيرة للغاية. أى أن الصحفي الجديد كان مشاركا فعالا في (القصة) التي يكتبها أو شاهدا عليها في الأقل، لم يكن الكاتب والصحفي الأميركي الشهير (توم وولف – ولد عام 1931). أول من أطلق مصطلح (الصحافة الجديدة) على هذا الأسلوب الصحفي المثير للجدل – كما يعتقد البعض -، فهو يقول أنه قرأ في عام 1962 في مجلة (اسكواير) مقالا للكاتب (هاي تاليس) تحت عنوان "جو لويس – ملك في عنفوان الشباب" يختلف تماما عن المقالات الأخرى في اسلوب صياغته وكان أشبه بسرد قصصي من حيث احتوائه على مشاهد عاطفية وحوارات حميمة بين رجل وزوجته في المطار.
ويضيف وولف: "اذا غيرنا هذا المقال قليلا ستكون لدينا قصة قصيرة متكاملة الأركان". كان انطباع (وولف) الأول ان المقال غريب، والحوار متصنع، وحتى المشاهد يمكن ان لا تكون لها اي علاقة بالواقع، وان الكاتب لا يعرف كيف يكتب مقالا جيدا! .وكان هذا رأي عدد من الكتاب والصحفيين أيضا. لأن الصحافة وفن السرد القصصي – في رأيهم – على طرفي نقيض.
ثم كتب (جيمي بريسلين) في عموده الصحفي انطباعاته عن حادثة كان شاهدا عليها- بأسلوب قصصي، ولم يكن حظه أفضل من حظ سلفه. ويعلق وولف على ذلك قائلا: "ان النظرة التقليدية الى الفن كالنظرة الى الدين أو إلى شيء مقدس والروائي الفنان، صاحب المعجزات المقدسة هو الذي يأتيه الألهام مثل ومضة خاطفة تنير ذهنه فيبدع عملا فنيا ..هكذا كان يعمل عمالقة الرواية في العالم .اما الصحافة فلا شأن لها بالألهام ولا بالعبقرية ".
ولكن رغم هذه النظرة التفليدية ومحاولات النيل من الأسلوب الصحفي الجديد، فأنه حقق نجاحا باهرا بين القراء وحرك المياه الراكدة في الصحافة الأميركية ". وتتابعت المقالات والتحقيقات الصحفية وفق الأسلوب الجديد الممتع وأخذ هذا الأتجاه الصحفي يترسخ وينتزع الأعتراف حتى من المعارضين له في بداية ظهوره. وفي الفترة ذاتها ظهرت روايات وثائقية ذات قيمة فنية عاليه، لعدد من الروائيين الأميركيين المشهورين، منها رائعة ترومان كابوتي "بدم بارد" الصادرة في عام 1965 ورواية نورمان ميلر "جيوش الظلام" في عام 1967.
أنطولوجيا الصحافة الجديدة: في عام 1973 نشر (توم وولف ) كتابا تحت عنوان (أنطولوجيا الصحافة الجديدة)، يتضمن دراسة تؤرخ لهذه الأتجاه الطليعي في الصحافة الأميركية، ومقتطفات من روايات (نون فيكشن) – أختارها بالتعاون مع زميله (أ جونسون) لعدد من الروائيين الأميركيين المعروفين (كابوتي، هانتر تومبسون، نورمان ميلر ، هاي تاليزي، جون ديديون) وغيرهم.
يقول وولف في دراسته: "ان الرواية الأميركية في الستينات وصلت الى طريق مسدود لأن الكتاب أداروا ظهورهم للواقعية الأجتماعية، وانغمسوا في الفرويدية، والسوريالية، والكافكاوية، وفي عالم الأساطير .بدلا من أن يكتبوا على غرار زولا وديكينس وثاكري، وبلزاك".
ويضيف قائلا: "تخلى الروائيون عن الحياة الاميركية الجديدة، ولم يبق امام الصحفيين الا أن يملأوا الفراغ باستخدام تقنيات الرواية الواقعية الأجتماعية، واصبح واضحا ان الصحفين امتلكوا ناصية تقنيات الكتابة بمستوى الروائيين القديرين والصحافة الجديدة كانت تلبي متطلبات العصر واكثر امتاعا للقاريء"
. ويشرح وولف في دراسته التقنيات الأربع الفعالة التي اكتشفها هو وزملاؤه الرواد، وهي حسب أهميتها:
1 – تسلسل المشاهد: تنظيم النص الصحفي بشكل متسلسل والأنتقال من مشهد الى آخر من دون فواصل استطرادية.
2 – الحوار: تمكن رواد الصحافة الجديدة أن يكونوا مشاركين أو في الأقل شهودا مباشرين على هذا الحدث أو ذاك في حياة شخوصهم وكتابة حواراتهم كاملة. الصحفيون، كما الروائيون في بداية حياتهم الأدبية اكتشفوا عن طريق التجربة والخطأ، أن الحوارات الواقعية غير المنقحة التي لا تخلو من كلمات عامية وأصوات مثل (آه، أوه) تجتذب القاريء بشكل أقوى بكثير من اي مونولوجات وهي تصور الشخوص على نحو اكمل واسرع من اي وصف .
كان بوسع ديكينس أن يصور البطل على نحو يخيل للقاريء أنه يراه شاخصا امامه، رغم أن هذا الوصف لم يكن يتعدى، جملتين أو ثلاث، والجزء الأكبر من تشكيل صورة البطل كان عن طريق الحوار). اما عند الصحفيين الجدد فأن الحوار كان طبيعيا للغاية وصريحة، في حين أن الروائيين كانوا يحاولون جعلها غامضة ومبطنة. .
3 – وجهة النظر: عرض الحدث أو الأحداث من وجهة نظر الشخص الثالث (هو). وكل مشهد يقدم من وجهة نظر احدى الشخصيات التي بوسع القاريء بسهولة ان يضع نفسه مكانها. وبفضل هذا يشعر كأنه يرى بعينيه ما يحدث. ولكن الضمير (هو) لا يستطيع النفاذ الى دواخل الشخصيات. الصحفيون الجدد كتبوا أيضا بالضمير الأول (أنا) الذي يعد أكثر الضمائر قدرة على الكشف عن مكنونات الذات – كما في السير الذاتية والمذكرات وبعض الروايات .ولكن احيانا كانت تظهر مواقف حرجة نتيجة لأستخدام الضمير الأول. كان على القاريء أن ينظر الى ما يجري بعيون الراوي أي الصحفي نفسه – ولكن مثل زاوية النظر هذه كانت تبدو غير مناسبة وغير مقبولة. كيف استطاع الصحفي كاتب النص غير الخيالي ان يتغلغل بكل هذا العمق في افكار شخص آخر؟ . الجواب بسيط، حسب رأي وولف: ينبغي معرفة الدوافع التي تحركهم، وبماذا يفكرون عن طريق توجيه الأسئلة الى الشخص بحيث يتسنى معرفة أفكاره وشعوره واشياء اخرى.
4 –تفاصيل الحالة: ويتلخص في وصف ما يميز الشخص من إيماءات وحركات وعادات وطبائع، واسلوبه في الحياة، وعلاقاته في العائلة وفي محل العمل، وآرائه ومعتقداته وغير ذلك مما يميزه عن الآخرين. النص الزاخر بهذه التفصيلات ليس من اجل غاية جمالية، بل لأنها تعطي للواقعية قوة مثل التقنيات الأخرى. وهذا يفسر قدرة بلزاك على خلق الشعور بمشاركة القاريء في ما يجري. قاريء روايات بلزاك يشعر بالقرب الشديد من الشخوص. لماذا؟ لأن بلزاك كان يستخدم هذا الأسلوب مرارا وتكرارا. ففي روايات بلزاك الناضجة كل تفصيل يدل على الشخصية، مما يجعل القاريء يفكر بوضعه ومكانته في المجتمع وتطلعاته وطموحاته ومخاوفه وانجازاته واخفاقاته. هكذا يستولى بلزاك على اهتمام القاريء.
والميزة الأساسية للشكل الصحفي الجديد – حسب وولف – أن القاريء يعلم ان ما يتحدث عنه الصحفي قد حدث فعلا في الواقع، وان هذا ليس ثمرة خيال الكاتب.
الصحافة الجديدة في الميزان:
ان معظم النصوص التي اشتملت عليها "أنطولوجيا الصحافة الجديدة" ممتعة حقا (نتاجات ترومان كابوتي ونورمان ميلر وهانتر تومبسون). ولكن لا يمكن القول أنها مكتوبة وفق التقنيات أوالقواعد الأربع التي تحدث عنها (وولف) في دراسته، وبضمنها نصوص (وولف) نفسه. صحيح أن وولف يؤكد أنه لا توجد أية قواعد مقدسة للصحافة الجديدة، ولكن ثمة بون واضح بين النتاجات المنشورة في الأنطولوجيا وبين القواعدالمذكورة. والغريب أن وولف سمح لنفسه في الملاحظات التي كتبها في (الأنطولوجيا) حول نصوص كل من كابوتي وميلر، أن يوجه لهما نصائح حول كيفية كتابة قصة ناجحة!
رغم أن هذين الكاتبين العملاقين كانا، يتصدران الصف الأول من الروائيين الأميركيين في النصف الثاني من القرن العشرين. ويقال بأن وولف كان متأثرا برواية كابوتي الوثائقية "بدم بارد" سواء خلال عمله في الصحافة أو بعد اتجاهه لكتابة روايات من هذا النوع. ثم أن الكثير من الكتاب الذين ساهموا في الأنطولوجيا لم يعتبروا أنفسهم من الصحفيين الجدد، ولم يكن العمل الصحفي بالنسبة الى كابوتي أوميلر عملا اساسيا بل نشاطا جانبيا، فهما روائيان قبل أن يكونا صحفيين. يقال أحيانا ان اسلوب الصحافة الجديدة لا يصلح للموضوعات السياسية والأقتصادية، والعكس هو الصحيح، لأن العديد من الصحفيين الجدد كتبوا نصوصا واقعية بأسلوب أدبي حول الحرب في الفيتنام وعما يحدث في عالم البزنس.
خلال العقود اللاحقة تخطت الصحافة الجديدة حدود الولايات المتحدة الميركية وأخذت تنتشر في الصحافة الأوروبية وفي صحافة العديد من بلدان العالم. ويطلق على (الصحافة الجديدة) أحيانا في ايامنا هذه اسم (الصحافة السردية) أي صحافة التحقيقات والنصوص الوثائقية الطويلة نسبيا، المصاغة باسلوب أدبي ذي وضوح وجمال والتي تنشر في العادة في المجلات التي تخاطب المثقفين. وثمة مجلة روسية اسمها (ستوري – القصة) متخصصة في هذا المجال.
ورغم ظهور الأنترنيت والصحافة الرقمية – التي تنشر النصوص القصيرة الواضحة بعيدا عن التقنيات الأدبية – الا أن الصحافة الجديدة أو السردية تشهد في أيامنا هذه ازدهارا، مما يدل على ان هذا الأسلوب أو النمط الصحفي، لم تكن ظاهرة عابرة أو نزوة لعدد من الصحفيين، بل اثراء للصحافة الجادة والأدب الواقعي في آن واحد.