المسلة السياحية
كتب د. عبد الرحيم ريحان
قام الرّحالة البريطانى رتشارد بيرتون برحلة بحرية شهيرة إلى مصر والحجاز الذى فى (23 رمضان 1269هـ / أول يوليو 1853م) ووصف سفينة الحجاج، وكيفية الإبحار فى خليج السويس والبحر الأحمر وميناء الطور والمعالم الحضارية بها .
وأن السفينة الذى ركبها بيرتون هى سفينة الحجاج من ميناء السويس وكان يطلق عليها سنبوك حمولتها 50 طن تقريبًا ، وعلى جانبى السفينة خطوط لقياس الجزء الغاطس فى الماء وهى فارغة أو محملة وليس لها سطح علوى إلا فوق المؤخرة والذى يرتفع بما فيه الكفاية ليقوم بدور الشراع فى مواجهة الريح العاتية ، ولهذه السفينة صاريان يكادان يميلان نحو مقدمة السفينة والصارى الأقرب للمؤخرة مزود بمثلث خشبى ضخم …
وليس فى هذه السفينة وسائل لثنى الشراع وليس بها بوصلة ولا جهاز لقياس سرعتها ولا حبال وأسلاك لسبر غور الأعماق ولا حبال احتياطية ولا حتى ما يشبه الخريطة، وهذه السفينة بقمرتها (كابينتها) الشبيهة بالصندوق ومخزنها المضلع تشبه السفن الهندية المعروفة باسم التونى أو الزورق الشجرى وهو زورق يصنع بتجويف جذع شجرة .
صاحب السفينة اسمه مراد وقد وعد بأن يصطحب معه ستين مسافرًا إلا أنه زاد العدد إلى سبع وتسعين ، وقد ازدحمت السفينة بأكوام الصناديق والأمتعة من مقدمتها إلى مؤخرتها وسفن البحر الأحمر تبحر نهاراً بالقرب من الساحل وترسو ليلاً عند أول خليج صغير تجده ولا يبحر البحارة فيه إذا كانت الريح عاصفة خاصة فى الشتاء ، وكانت المحطة الثانية فى الرحلة هى عيون موسى حيث وصلوا إليها عند غروب الشمس ويصفها لنا بأنها منطقة تحوى بساتين النخيل متجمعة حول عيون موسى .
وصف بيرتون الطور القديمة من خلال رحلته بأنها تتميز بوفرة مؤنها من الفاكهة والماء يجعلها من بين أهم موانئ البحر الأحمر وتتوفر بها الآبار ، وتقع بلدة الطور فوق السهل الذى يمتد بارتفاع تدريجى من البحر إلى عقدة جبال سيناء الشامخة ، وسكان الطور يتعيشون من بيع الماء والمؤن للسفنن وفى الطور أكلوا بلحاً وعنباً ورماناً حمله السكان إلى الساحل لإطعام الحجاج الجوعى و تجول بعض الحجاج المغاربة على الشاطئ وبعضهم ذهب لملئ قربهم (أوعية من الجلد) بالمياه.
ولم يتمكنوا من الإقلاع فى صباح يوم (2 شوال 1269هـ / 9 يوليو 1853م) لوجود ريح عاتية كما كان البحر هائجًا لذلك خرجوا لزيارة عيون موسى الكبريتية بمدينة طور سيناء (حمام موسى) راكبين حمير هزيلة متجهين شمالاً عبر السهل فى اتجاه شريط طويل ضيق به نخيل وتحيطه أسوار طينية مهدمة حتى دخولهم منطقة بساتين .
ووصف حمام موسى بأنه مبنى صغير من طابق واحد يشبه ما هو موجود فى الريف الإنجليزى أو الأحياء الفقيرة فى لندن بناه عباس باشا ليستخدمه استراحة، وكان مطلياً باللون الأبيض الساطع ومزين بستائر من قماش الكاليكو ذو الألوان المتدرجة الرائعة والحوض الخاص بالحمام يقع بالحجرة الداخلية للمبنى، ومياهه دافئة فى الشتاء وباردة فى الصيف طعمها مالح مائل للمرارة وتشتهر بخواصها المنشطة وفى منطقة الحمام أكلوا بلح الطور الأصفر الصغير الذى يذوب فى الفم كعسل النحل .
ثم توجهوا بالحمير إلى منطقة بئر موسى حيث وصلوا فى غضون نصف ساعة ويصف بيرتون بناءً قديمًا جميلًا حول هذا البئر مسقوف بقبة من أحجار مربعة، ويشبه كثيراً المبانى الريفية بجنوب انجلترا وفى قاع البئر ماءً عذبًا غزيرًا ، وجلسوا على مقهى مجاور للبئر لحمايتهم من الشمس الحارقة ، وكان المقهى عبارة عن ظلة من جريد النخيل وحصيرة مفروشة على الأرض وجلس معهم مجموعة من أهل الطور وتم مغادرة الطور فى 11 يوليو .
بدأ طريق الحج البحرى عبر خليج السويس منذ عام عام 1303هـ الموافق 1885م حين بطل استخدام الطريق البرى عبر وسط سيناء والطريق البحرى كان عبر خليج السويس إلى البحر الأحمر حتى ميناء الجار ، ويستغرق ذلك 20 يومًا ومنه إلى المدينة المنورة .. اشترك منذ ذلك الوقت الحاج المسلم مع المقدّس المسيحى فى جزء من الطريق، حيث كان يأتى المقدّس المسيحى من أوروبا عبر الإسكندرية مبحرًا فى نهر النيل، ومنه بريًا إلى ميناء القلزم (السويس) ليركب نفس السفينة مع الحاج المسلم للإبحار إلى ميناء الطور القديم منذ العصر المملوكى والذى استمر نشاطه حتى عهد أسرة محمد.
ومن ميناء الطور يتجه الإثنين لزيارة الأماكن المقدسة بمنطقة الجبل المقدس (سانت كاترين حاليا) حيث دير طور سيناء ، والذى تحول اسمه إلى دير سانت كاترين فى القرن التاسع الميلادى ، وفى الأودية حوله مثل وادى حجاج نقش المقدّسون المسيحيون أسماءهم ،وفى محراب الجامع الفاطمى داخل الدير الذى بنى فى عهد الخليفة الآمر بأحكام الله عام 500 هـ 1106م نقش الحجاج المسلمون أسماءهم، وبعدها يستكمل المقدّس المسيحى طريقه إلى القدس ويعود الحاج المسلم إلى ميناء الطور القديم ليبحر عبر خليج السويس والبحر الأحمر إلى جدة ومنها إلى مكة المكرمة .
وكان طريق الحج البحرى إلى جدة ومنها إلى مكة المكرمة، وفى عهد محمد توفيق باشا (1297- 1310هـ / 1879 – 1892م) تم توسعة محجر الطور ومد إليه خط تلغرافى من السويس عام (1318هـ / 1900م) ، وكان فى هذا الطريق راحة كبيرة للحجاج وفى (11محرم 1314هـ / 2 يونيو 1896م) أبحر عباس حلمى باشا الثانى إبن محمد توفيق باشا إلى مدينة الطور وزار محجر الطور وجامعها وحمام موسى .
وكان تحول الحجاج إلى طريق البحر فيه راحة كبرى لهم حيث كان الطريق البرى عبر وسط سيناء، رغم ما عمل فيه من إصلاحات طريقًا طويلًا وشاقًا فى أرض يصعب السير فيها ويقسو الجو ويقل المرعى والماء ، وقد قامت السويس كبديل ووريث للقلزم التى تقع إلى الشمال من السويس ولا تختلف مزايا الموقع الجغرافى للسويس عن القلزم .
وكان الطريق البحرى مستخدمّا أيضا أثناء مرور الحجاج بالطريق البرى ولكنه خصص لنقل بضائع الحجاج ومنذ عام (697هـ / 1297م) كان مقررًا كل عام ،كما جرت العادة أن تنقل الحمولة المقررة الخاصة بالحجاج على ظهور الإبل بمعرفة القبائل العربية بصحبة أمير الحاج إلى ميناء الطور ومنه فى الجلاب (السفن الصغيرة) إلى الحجاز وكانت أصناف المواد المشحونة هى الدقيق، البقسماط، الأرز، البرغل، الباسلا ، الجبن، العسل، السكر، الزيت السكندرى، الشعير، الفول المجروش، الشمع، الليف والقفف…
وحين تم تحويل نقل هذه المؤن بطريق ميناء الطور إلى طريق ميناء السويس عين لها مركبان كبيران من المراكب السلطانية وكانت هذه المراكب أكبر من الجلاب ، ومعنى هذا أنه قد حدث تحول فى بناء السفن من سفن صغيرة لسفن كبيرة مما أتاح الفرصة لميناء السويس لجذب الحمولات المقرر إرسالها زمن الحج ،وكانت هذه الحمولات ذات أهمية كبرى وكانت كثيراً من أراضى الوقف فى مصر موقوفة على الحرمين الشريفين .