المسلة السياحية
بقلم : د.جودت هوشيار
منذ تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991 أصبحنا نفتقد الأعمال الأدبية لشعوب الجمهوريات السوفيتية السابقة. ففي العهد السوفيتي كانت دور النشر والمجلات الأدبية السوفيتية تنشر أهم الأعمال الأدبية الصادرة في تلك الجمهوريات مترجمة الى اللغة الروسية ، وتقوم دور النشر السوقيتية المتخصصة في الترجمة ( رادوغا ، مير ، بروغريس ) بترجمتها الى اللغات الأجنبية ومنها العربية.
ومن هذه الأعمال قصائد الشاعر الداغستاني رسول حمزاتوف ، وكتابه الموسوم ” بلدي ” ، وروايات الكاتب القيرغيزي جنكيز آيتماتوف ” جميلة ” و” وداعاً يا غولساري ” , ” ويطول اليوم أكثر من قرن ” . ” السفينة البيضاء ” و ” الكلب الراكض على حافة البحر ” وروايات رائعة اخرى لهذا المبدع المدهش ، أما الكاتب الأبخازي الكبير فاضل اسكندر ، صاحب الأسلوب الوصفي المفعم بالفكاهة للحياة اليومية في مسقط رأسه ابخازيا ، ونظرته النقدية للمجتمع السوفياتي ، فقد أصبح معروفا الى حد ما لقرّاء العربية بعد ترجمة روايتيه ” زمن اللقى السعيدة ” و ” الأرانب والثعابين “.
آداب دول بحر البلطيق
وهذه الترجمات ، رغم أهميتها لا تقدم صورة كاملة ، أو فكرة صادقة عن آداب أقرب الشعوب الينا ، من حيث الدين ، وانماط الحياة ، واساليب التفكير ( شعوب القفقاز ، وآسيا الوسطى ) ، كما اننا نكاد لا نعرف شيئا يذكرعن آداب شعوب دول بحر البلطيق ( لاتفيا ، ليتفيا ، استونيا ) التي كانت ايضا جزءاً من الاتحاد السوفيتي .وكل شعب من شعوب هذه المناطق لديه أدب حديث متطور ، جدير بالقراءة ، حري بأن تنقل منه طرائقه الفنية .
نحاول في هذا المقال التعريف بأهم وأبرز كاتب اذري معاصر وهو ” انار رضايف ” ، وأعماله الأدبية ، الأصيلة والشائقة، والقاء بعض الضوء على روايته القصيرة ” أنا وأنت ، وهو ، والتلفون ” ، التي أوحت للشاعر الراحل يوسف الصائغ بكتابة روايته المعروفة ” اللعبة ” .
أهتمامات ” رضايف ” الأدبية متنوعه وأسهامه في الحياة الثقافية لبلاده جاد ومتواصل على مدى حوالي ستة عقود ، وهو الكاتب الأذري الوحيد ، الذي ترجمت اغلب أعماله الى الروسية من قبل مترجمين أكفاء أو الكاتب نفسه .
من هو رضايف ؟
ولد أنار رضايف في باكو عام 1938 لعائلة أسهمت بنصيب وافر في تطور الشعر الاذربيجاني المعاصر, فهو نجل الشاعر الكبير رسول رضا ، الذي زار العراق في أوائل الستينات ، وأصدر مجموعة قصائد رائعة تحت عنوان ” الدفتر العراقي ” مكرسة لانطباعته عن العراق ، وعن أفتتانه بحضارة وادي الرافدين العريقة .
أما والدة رضايف ، فهي الشاعرة المعروفة نكار رافيبيلي . وعلى هذا النحو ، نشأ الكاتب في محيط ثقافي مفعم بالشعر والجمال ، مما ساهم في صقل موهبته الادبية ونضوجها في وقت مبكر , فقد كان ما يزال طالبا في كلية الاداب بجامعة باكو عام 1960 حين بدأ بنشر أولى قصصه القصيرة في الصحف والمجلات المحلية والمركزية ( أي تلك التي تصدر باللغة الروسية في موسكو ) , وعندما تخرج في الجامعة عام 1963 كان قد أصبح كاتبا معروفا في الاوساط الثقافية السوفيتية .
رضايف كاتب جاد ودؤوب فبعد تخرجه في الجامعة توجه الى موسكو لأستكمال دراسته العليا في مجال كتابة السيناريو السينمائي ، وعندما عاد الى باكو عام 1973 درس الاخراج السينمائي وكتب العديد من سيناريوهات الافلام السينمائية الناجحة
الطابق السادس من مبنى من خمسة طوابق
من اوائل مجموعاته القصصية ” في أنتظار العيد ” ( 1963 )، و” كفًّ المطر عن الهطول ” ( 1968 ) ، ثم شرع الكاتب يجرب طاقته الفنية في جنس أدبي اّخر هو (القصة الطويلة ) أو (الرواية القصيرة ) ، فكتب عدة روايات قصيرة شائقة منها ” يوبيل دانتي ” ( 1969 ) ” البحيرة البيضاء ” ،و” الملا نصر الدين ” ، وقد صدرتا في عام 1970 ، و”الدائرة” ( 1973).
ولكن رواياته العديدة التي كتبها في السنوات اللاحقة ، هي التي اكسبته شهرة كبيرة في العالم الغربي، ولعل من اهم هذه الروايات ” الطابق السادس من مبنى من خمسة طوابق ” ( 1988 ) ، التي تحكي قصة علاقة حب بين إمرأة مطلقة ، وشاب يافع من عائلة ذات مكانة في المجتمع، وتلقى هذه العلاقة معارضة شديدة من الجميع ،عائلة الشاب اليافع ، والأصدقاء ، والمجتمع ، ولكنهما يصمدان رغم كل الضغوط التي يتعرضان لها.
ترجمت اعمال رضايف الى 32 لغة اجنبية ، وصدرت في الولايات المتحدة الامريكية وفرنسا واليابان وكندا، أضافة الى بلدان أوربا الشرقية.
أن قصص وروايات ” رضايف ” تبدو وكأنها مشاهد حية كتبت للسينما أو التلفزيون أو المسرح ، لذا فأن تحويلها الى أفلام أو مسرحيات أمر يغري المخرجين حيث يجدون في قصصه الحياة النابضة ، والعمق الفكري وجمال الشكل الفني .
أنا شرقي الشعور، غربي التفكير
رضايف يمتلك صوته الخاص ، واسلوبه التعبيري المتميز ، الذي يبدو للوهلة الاولى بسيطا وعفوياً، اقول للوهلة الاولى ﻷننا اذا دققنا النظر في عناصر البناء الفني في اعماله ، ودرسناها بعناية لتضح لنا ان الكاتب عبر تلقائية التعبير عن التجربة وعفويته ، يمسك بكافة خيوط الأحداث والمواقف ، ضمن حبكة قصصية متينة ومتماسكة ، بعيدا عن الالاعيب والحيل الشكلية ، شأنه في ذلك ، شأن اي فنان صادق وأصيل .
في آخر كتاب له صدر في موسكو عام 2016 تحت عنوان ” أفكار ليلية ” ويتضمن تأملات فلسفية ومقالات ادبية يقول رضايف ، ” أنا شرقي الشعور، غربي التفكير ” ، هذه المقولة تلخص الصورة الابداعية لهذا الكاتب البارز ، الذي يتولى رئاسة اتحاد الكتّاب في أذربيجان منذ عام 1991.
رضايف والجيل الستيني في الأدب السوفيتي
يقول رضايف في مقابلة صحفية جرت معه في موسكو مؤخراً ، أنه ينتمي الى الجيل الستيني في الأدب السوفيتي، وهو الجيل الذي ظهر في فترة ” ذوبان الجليد ” أي عهد نيكيتا خروشوف ، الذي تميز بقدر لا بأس به من الليبرالية ، مما اتاح للادباء الشباب الموهوبين ، كسر التابوهات السياسية والأيديولوجية ، التي سادت البلاد منذ ثورة اكتوبر 1917 .
كان الانسان المقهور هو محور كتابات هؤلاء الكتّاب الشبان ، الذين لم يكونوا معادين للنظام القائم أو منشقين عنه ، بل يتطلعون الى التغيير في كافة جوانب الحياة في البلاد ، ومعارضة املاءات السلطة الحاكمة.
النقّاد المؤدلجون ،الذين كانوا يقيسون الأعمال الأدبية من وجهة نظر حزبية ضيقة ، انحوا باللائمة على هؤلاء الأدباء الشباب ، لأنهم يتناولون في اعمالهم الانسان حيوات الناس البسطاء ومعاناتهم اليومية ، وهي موضوعات هامشية غير مهمة في عرف هؤلاء النقّاد .
رواية ” اللعبة ” ليوسف الصائغ : انتحال أم توارد خواطر
نشرت رواية رضايف القصيرة “ أنا ، وأنت ، وهو، والتلفون ” في عام 1967 ، وحوّلت الى فيلم سينمائي ناجح بعنوان ” كل يوم في الساعة الحادية عشرة مساء” في عام 1969، وتدور الرواية حول لعبة تلفونية ، حيث يقوم شاب يشعر بالوحدة والكآبة ، وفي ساعة متأخرة من الليل ، بالاتصال برقم عشوائي، بعد تغيير صوته بوضع منديل على سماعة الهاتف ، وكانت مفاجأة سارة له ، حين جاءه صوت نسائي عذب مفعم بالحيوية والشباب.
لم تحتج صاحبة الصوت العذب ولم تغلق الخط ، بل ردت عليه بكل لطف ولباقة دون ان تكشف عن اسمها أو وضعها العائلي أو عملها، ويكرر الشاب اتصاله التلفوني الليلي بها في الأيام التالية، ولكنه بدوره لا يكشف عن شخصيته الحقيقية ولا اسمه الحقيقي ، بل ينتحل اسم شخص آخر هو ( رستم ) .
بعد فترة ينتقل الشاب للعمل في صحيفة محلية . وعندما يلقى نظرة على لائحة منتسبي الصحيفة وأرقام هواتفهم ، يكتشف ، أن الرقم الذي يتصل به كل ليلة يعود الى كاتبة طابعة تعمل معه في نفس الصحيفة ، ويتعرّف عليها بحكم العمل ، ويعرف ان اسمها ( مدينة ) ، وبمرور الأيام تتوثق العلاقة بينهما ، وتتحول الى علاقة حب متبادل .
وفي الأيام اللاحقة عندما يتصل رستم ليلاً كالعادة ، بصديقته التلفونية ، تتحدث الأخيرة باعجاب عن صديقها الجديد (سيمور) رئيس القسم الذي تعمل فيه ، فينشأ صراع نفسي لدى الشاب ، ويعاني ازدواجا في مشاعره ، فهو حين يتصل بها تلفونيا في الليل يغار عليها من لقاءاتها المتكررة مع ( سيمور) خارج مقر الصحيفة، وكأن سيمور شخص آخر .
وتنتهي القصة عندما يزور( سيمور) حبيبته ، كاتبة الطابعة في منزلها ، ويظل معها حتى ساعة متأخرة من الليل .وفي لحظة انسجام حميمي، تنسل من بين يديه ، وتبتعد عنه ، وترهف السمع ، منتظرة بقلق وتوتر جرس التلفون، الذي سيرن بين لحظة واخرى ، فقد كان هذا هو الوقت المعتاد لأتصال رستم بها ، ولكن حبيبها الصحفي ( سيمور) يقول لها ” لا تنتظري أي مكالمة بعد الآن ، لأن رستم وسيمور شخص واحد هو أنا .
أمًّا رواية الشاعر الراحل يوسف الصائغ المعنونة ” اللعبة ” – التي حازت على جائزة افضل رواية عراقية عام 1970 – فإنها تدور حول لعبة تلفونية حيث يقوم طبيبب يالاتصال بزوجته ، ويخطر له أن يداعبها بتغيير صوته ، وتتكرر المكالمات التلفونية بينهما دون ان تعرف اسم الشخص الذي يتصل بها كل مساء تقريبا ، ومن جانبه يشعر الطبيب بالغيرة على زوجته من صديقها التلفوني .
ان تطور الأحداث في رواية ” اللعبة” شبيهة بقصة رضايف ” أنا ، وانت ، وهو ، والتلفون ” ، وقد اثيرت ضجة حول هذا التشابه المثير ، قال بعضهم أن الصائغ اقتبس الفكرة من كاتب أجنبي ، وقال البعض الآخر ، ان الصائغ ربما شاهد فيلم ” كل يوم في الساعة الحادية عشرة مساءً “، وعلى اية حال لا يمكن الجزم ان كان الصائغ قد تأثر فعلاً يرواية رضايف .
ولدى مقارنة الروايتين من الناحية الفنية ، نجد ان رواية رضايف شائقة ومحكمة البناء ، حيث تتطور الأحداث فيها بسلاسة ، وبتلقائية محببة ، ولا يمكنك التوقف عن قراءتها حتى تأتي على آخر كلمة فيها .
على العكس من رواية الصائغ المترهلة بسبب كثرة الحشو والاستطراد فيها ، وكان يمكن اخنصارها وتحويلها الى قصة قصيرة متماسكة البناء ، وأكثر تشويقاً .