المسلة السياحية
ذكريات ثقافية
بقلم :جودت هوشيار
كان بوريس سوتشكوف في الثالثة والعشرين من عمره في عام 1940، ويتقن ثلاث لغات عالمية ( الالمانية ، الانجليزية ، الفرنسية ) ، ومن اكثر المثقفين الروس اطلاعا على الآداب الغربية ، حين شرع بكتابة أولى مقالاته النقدية : ” دراسة جديدة عن اونوريه دي بلزاك ” و ” الأدب الانجليزي في مفترق الطرق ” و ” روايات عن الحرب العالمية الأولى ” وهي مقالات أصيلة ، تنم عن نظرة نقدية ثاقبة ، ولكنه اختار طريقا خاطئا ، وظل طوال حياته معذبا ونهباً ، لمشاعر متناقضة ، ففي الوقت الذي كان مسحوراً بأعمال كبار الكتّاب الغربيين ، سخًّر كل قدراته الفكرية والتحليلية الرفيعة للدفاع عن الأدب الواقعي – حسب المفهوم السوفيتي الجامد للواقعية – ونقد وتفنيد كل ما لا يتفق مع هذا المفهوم الأدبي من اعمال ادبية طليعية غربية.
كتابات سوتشكوف لقيت ترحيبا لدي المسؤولين وسرعان ما برز بين اقرانه من النقّاد السوفيت ، بذكائه وقدرته التحليلية البارعة ، وأصبح رئيسا لتحرير مجلة ” الأدب العالمي ” ، وعمل في الوقت ذاته موظفا بارزاً بقسم الدعاية في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي ، ومديرا لدارالنشر باللغات الأجنبية.
كان الخلاف حينذاك على اشده بين رئيس قسم الدعاية في اللجنة المركزية وبين وزير الأمن لافرينتي بيريا . طلب الأخير من سوتشكوف أن يكتب تقريراً يدين رئيسه في القسم ، ولكنه رفض ذلك ، رغم الضغوط النفسية التي تعرض لها . فتم تلفيق تهمة ضده ، وهي التجسس لصالح الولايات المتحدة الأميركية ، وحكم عليه عام 1947 بالسجن خمس وعشرين عاما .
وبعد ثمان سنوات من الاعتقال والأشغال الشاقة ، شمله العفو العام عن سجناء الرأي الذي صدر عام 1955 ، فاطلق سراحة ، وعاد الى موسكو .
دخل سوتشكوف الى السجن شاباً شهماً أبياً ، وخرج منه تابعاً مطيعاً للحزب . حيث تعلم الدرس جيدا : لا حياة لمن لا يخدم السلطة والحزب القائد بكل مواهبه وطاقاته .
ولكنه مع ذلك ظل طوال حياته انساناً حذراً وطيباً ولطيفاً بعيداً عن روح المشاكسة والتخوين والتسقيط التي كانت سائدة في الوسط الثقافي السوفيتي في العهد الستاليني .
وشهدت السنوات التالية صعوده المهني السريع وشغل وظائف مهمة ( نائب رئيس تحرير مجلة ” زناميا ” الأدبية المرموقة ، استاذ جامعي ، مدير معهد الأدب العالمي . وحصل على شهادة الدكتوراه في الأدب ، وانتخب عضوا مراسلا في اكاديمية العلوم السوفيتية .
وأصدر العديد من الكتب في نظرية الأدب ، وعلم الجمال ، لعل أهمها كتاب : ” المصائر التاريخية للواقعية “( 1967) ، الذي ترجم الى العديد من اللغات الأجنبية ، وصدرت ترجمته العربية عن دار ” الحقيقة ” اللبنانية عام 1974 . وتناول سوتشكوف في هذا الكتاب تطور الواقعية في الادب العالمي .
ومن كتبه الأخرى ” وجوه العصر : مقالات عن الكتَّاب والعملية الإبداعية ” وقد صدر في مجلدين عام ( 1969) .وكتاب ” فعالية الفن ” الذي صدر عام 1978 بعد وفاته .
كما صدرت تحت اشرافه المؤلفات الكاملة – المترجمة الى الروسية – لتوماس مان ، وستيفان زفايج وكتاب غربيين آخرين . وقد كتب لكل منها مقدمة تحليلية مسهبة من منظور ايديولوجي ماركسي .
توفي سوتشكوف عام 1974 بسكتة قلبية ، وهو في أوج نشاطه الأدبي ، وذروة نضجه الفكري والابداعي ، عندما كان في بودابست للاشتراك في مؤتمر أدبي . وفي العام التالي لوفاته قررت السلطة منحه جائزة الدولة التقديرية في الأدب لعام 1975 عن كتابه ” المصائر التاريخية للواقعية ” .
كان سوتشكوف ، هو المنظر والباحث المتعمق الأكثراطلاعا على الآداب الغربية عموما ، والمشرف الفعلي على نشر ما يترجم منها الى الروسية في عموم الاتحاد السوفيتي ، بما لا يتعارض مع نظرة الحزب الحاكم الى الأدب والثقافة . وكانت كلمته مسموعة لدى المسؤولين في القسم الأيديولوجي في اللجنة المركزية للحزب .
لم يكن سوتشكوف يفصح عن آرائه الحقيقية ، حتى لأقرب المقربين اليه. فقد كان من المعجبين بأعمال فرانز كافكا ، وجيمس جويس ، وبروست ، ولكنه كان في كتاباته المنشورة يحلل ويحاول التقليل من شأنهم وشأن كتاباتهم ، وبأسلوب يبدو علمياً ومقنعاً ، متهما اياهم بالسوداوية وزرع اليأس والقنوط في النفوس .
سوتشكوف ينصب فخاً حميداً لعضو المكتب السياسي للحزب
في الفترة من الخامس الى الثامن من اغسطس عام 1963 عقدت جمعية الكتّاب الأوروبيين – التي كانت تضم كتّابا من معظم الدول الأوروبية ، وبضمنها دول أوروبا الشرقية – مؤتمراً مهماً في لينينغراد ( بطرسبورغ الآن ) ، عن مشاكل الرواية المعاصرة ومستقبلها تحت عنوان ” مصير الرواية ” ، حضره عدد كبير من اكبر والمع الروائيين في أوروبا ، بينهم بعض الحاصلين على جائزة نوبل في الأدب (هنريش بول ، غونتر غراس ، هانز فيرتر ريختر ، مارتن فالزر ، البرتو مورافيا ، ايتالو كالفينو ، فاسكو براتوليني ، الان روب غرييه ، جان بول سارتر ، ونتالي ساروت – التي ادهشت الكتّاب الروس المشاركين في المؤتمر . بلغتها الروسية الطليقة ، وتبين انها روسية الأصل واسمها الحقيقي نتالي تشيرناك ).
كان الوفد السوفيتي يتألف من (35) كاتبا وناقدا وباحثا بينهم ميخائيل شولوخوف ، وايليا اهرنبورغ ، والكاتب الروائي فاسيلي اكسيوف – الذي لمع اسمه في اوائل الستينات كأحد الكتّاب الشباب الموهوبين – والكسي سوركوف القيادي في اتحاد الكتّاب السوفيت . وكان ثمة فريق حزبي يشرف على اعمال المؤتمر برئاسة عضو المكتب السياسي ليونيد فيودوروفيتش ايليتشوف .
كان سوتشكوف – المنظر الأدبي ، والباحث اللامع في علم الجمال الماركسي – احد أعضاء الوفد السوفيتي ، ويفهم كل ما يدور في كواليس الحياة الثقافية في روسيا ، وفي أروقة المؤتمر .
قبيل انعقاد المؤتمر اجتمع ليونيد ايليتشوف برئيس واعضاء الوفد السوفيتي للاستماع الى آرائهم بصدد المؤتمر . ويقول فاسيلي أكسيونوف ، في محاضرة له القاها في جامعة جورج واشنطن عام 1982 :
” كان ايليتشوف جالسا على مفعد دوّار ويتحدث عن أشياء تافهة . وعلى حين غرة انبرى سوتشكوف قائلاً : ” ليونيد فيودوروفيتش : ” نحن نلاقي صعوبة شديدة في مناهضة أعداءنا الأيديولوجيين . الذين لديهم ثلاثة آلهة ، ثلاثة حيتان ( كافكا ، وجويس و بروست ). جويس وبروست نعرفهما فليلا ، فقد نشر بعض اعمالهما قبيل الحرب ( يقصد الحرب الالمانية – السوفيتية ( 1941 – 1945) – أما كافكا فلا نعرفه على الاطلاق ، وليس بوسعنا محاربته ، ونحن نجهل عنه كل شيء”.
ايليتشوف : ” ماذا تريد ان تقول بهذا ” ؟ فسأله
سوتشكوف :” لدينا ترجمة جاهزة لرواية كافكا ( المحكمة ) ، ويمكننا نشرها ، وبذلك نلجم افواه البورجوازيين ، الذين يزعمون باننا لا نسمح بنشر اعمال كافكا .هذا اولا ، وثانيا عندما نعرف كافكا من السهل علينا محارته , وقد قيل – لكي تهزم عدوك ، يجب ان تعرفه جيداً”.
من الواضح ان سوتشكوف اقدم على مجازفة كبيرة ، عندما أعدًّ فخا محكما لايليتشوف. تسمًّر الجميع في مقاعدهم ، وحبسوا انفاسهم في انتظار رد ايليتشوف ، الذي دار على مقعده دورة أخرى وقال :
– ماذا عن كاتبكم كرافكا ؟ – تعمد ايليتشوف تحريف اسم كافكا – هل هو كاتب متشائم ام ماذا ؟ وقال الكسي سوركوف :” اجل انه كاتب متشائم” .
ايليتشوف : ” حسناً . اطبعوا كمية محدودة من النسخ ، حوالي ثلاثين الفاً “. وكانت هذه كمية متواضعة فعلاً ، لان اعمال الكتاب الكبار كانت تطبع بمائة الف نسخة واكثر .
سوتشكوف باكياً
عشية القاء كلمته في المؤتمر، كان سوتشكوف وأكسيونوف مع عدد من ضيوف المؤتمر الغربيين يتسامرون في جو مفعم بالود والصراحة في غرفة واسعة مخصصة لكاتب اجنبي كبير بفندق ” أوروبا ” في لينينغراد، كان الجميع في مزاج رائق ، وقد تآلفوا بسرعة ، رغم اختلاف اللغات التي كانوا يتحدثون بها .
يقول اكسيونوف : ” سالت سوتشكوف : عن ماذا ستتحدث غدا في كلمتك امام المؤتمر؟ “.
حدث ما لم يكن في الحسبان . التمعت عينا سوتشكوف وهو يحدق في وجهي ، ثم اجهش بالبكاء ، وتساقطت دمعات على وجهه . كان يبكي بكاءً حقيقيا وصادقا ، ثم كفكف دموعه بيده . ربما كان للسكر دور في صراحته غير المعهودة ، وفي البوح بمكنون صدره. قال بصوت مخنوق :” غدا ساهاجم من احبه ، واشيد بمن امقته “.
في اليوم التالي وقف سوتشكوف على المنبر و حمَل على بروست وجويس وكافكا واثنى على شولوخوف
حكاية الكتاب الأسود
في عام 1965 –وكنت حينها طالباً في موسكو – انتشرت شائعة بين المثقفين الروس عن صدور كتاب يضم مختارات من مؤلفات فرانز كافكا المحظورة في الإتحاد السوفيتي حتى ذلك الحين .
وفي اليوم المحدد لعرض الكتاب للبيع في متاجر الكتب ، اصطف منذ الصباح الباكر ، طابور طويل امام كل متجر، ، على امل الحصول على نسخة من الكتاب ، الذي طال انتظاره .
وقفت في اليوم الموعود في طابور امام اكبر واشهر متجر للكتب في شارع غوركي ، ولكن النسخ المحدودة ، التي وزعت على كل متجر نفدت بسرعة ، وانفض الطابور ، ولم احصل على نسختي من الكتاب بالسعر الرسمي وكان أقل من روبلين .
ومن حسن الحظ ، ولكثرة ترددي على المتجر ، نشأ نوع من الصداقة الغريبة بيني وبين البائعة في قسم الكتب الأدبية ، حيث كنت احصل على كل ماهو صادر حديثا من الروايات والمجاميع القصصية ودواوين الشعر لأشهر الأدباء الروس والأجانب ، ولكن باسعار مضاعفة .
قلت للبائعة الشقراء الجميلة :” أريد نسخة من كتاب كافكا .
قالت : ” لم تبق لديُّ أي نسخة . تعال غداً . ربما سأحصل لك على نسخة من الكتاب عن طريق صديقاتي
وهكذا دفعت عشرين روبلا لقاء كتاب ” فرانز كافكا ” ، الذي أشتهر في الاتحاد السوفيتي باسم ” الكتاب الأسود ” لكون غلافه من الورق المقوى الأسود ( هارد كوفر) .
يحتوي (الكتاب الأسود ) على رواية المحكمة و46 اقصوصة لكافكا ، تسبقها مقدمة تحليلية ضافية بعنوان ” عالم كافكا ” بقلم سوتشكوف .
أحدث الكتاب ضجة في الأوساط الثقافية وبين القرّاء الروس على حد سواء ، فقد سمعوا كثيراً عن كافكا ، ولكنهم لم يقرأوا له شيئاً ، ولم يكن يعرفه الا قلة من الكتّاب والنقّاد ، عن طريق ” سام ايزدات أو النشر السري ” أو الحصول على مؤلفاته بأحدى اللغات الأجنبية ،عند السفر الى خارج البلاد للمشاركة في بعض الفعاليات الثقافية .
ولولا سوتشكوف لما ظهر ” الكتاب الأسود ” الى حيزالوجود .