المسلة السياحية
كتب : د. عبدالرحيم ريحان
إعتاد الكثيرون على استخدام عبارات وصيغ للقسم والحَلف؛ وذلك لإضفاء قدر من المصداقية على أقوالهم وأفعالهم رغم إجماع الفقهاء على عدم جواز الحَلف بغير الله ـ جل وعلا ـ ) ، ومن أشهر صيغ القسم والحَلِف التي كثيرا ً ما تتردد على لسان البسطاء ، مقولة : } ومقام سيدي الطشطوشي { فما هي حكايتها كما رصدتها الباحثة بوزارة السياحة والآثار الدكتورة إيمان محمد العابد دكتوراه في الأثار والفنون الإسلامية والقبطية .
من هو الطشطوشي
وتشير الدكتورة إيمان محمد العابد إلى أن تلك العبارة تتكرر على مسامعنا من خلال ورودها في الأعمال الدرامية المختلفة ، و” الطشطوشي” كما يعرفه البسطاء هو الشيخ محى الدين عبد القادر بن العارف بالله بدر الدين شرف الدين موسى الدشطوطي ، وليس الطشطوشي ـ كما هو متداول بين البسطاء من الناس.. وينتمي لقرية دشطوط التي ولد بها بمركز ببا الكبرى بمحافظة بنى سويف .
الناسك والزاهد
ويلقى خبير الآثار الدكتور عبد الرحيم ريحان مدير عام البحوث والدراسات الأثرية والنشر العلمي بجنوب سيناء بوزارة السياحة والآثار الضوء على هذه الدراسة ، موضحًا أن ” عبد القادر الدشطوطي ” كان شافعي المذهب واشتهر بكونه ناسكًا زاهدًا لا يأكل من الطعام إلا القليل ولم يكن له زوجة ولا ولد .
أكابر الأولياء
كما عاش طوال حياته دون أن يهتم بمظهره ؛ فدائمًا ما كان يسير مكشوف الرأس لا يحلق شعره مرتديًا جبة خشنة، هذا ويعد الشيخ ” عبد الوهاب الشعراني” ، من أشهر تلاميذ الشيخ عبد القادر الدشطوشي، ووصف الشعراني شيخه بأنه كان من أكابر الأولياء، صاحبه طيلة عشرين عامًا وكانت هيئته تشبه المجاذيب ولمّا فقد البصر صار يتعمم بجبة حمراء عليها جبة أخرى، فإذا اتسخت تعمم بالأخرى، وكان يسمى بين الأولياء بـ “صاحب مصر”.
تلميذه الشعراني
ويضيف الدكتور ريحان بأن المراجع تتفق على أن الشعراني كان قد اجتمع بشيخه “الدشطوطي”، وكان دون البلوغ، في أول أيام رمضان سنة 912 هـ ، وأخذ منه “البركة”، ويقول “الشعراني”: أن الدشطوطي قال له: اسمع هذه الكلمات واحفظها، تجد بركتها إذا كبرت.. فقلت له: نعم.. فقال: “يقول الله عز وجل: يا عبدي لو سقت إليك ذخائر الكونين فملت بقلبك إليها طرفة عين فأنت مشغول عنا لا بنا، فحفظتها فهذه بركتها”.
صاحب أحوال
ويشير الدكتور ريحان من خلال الدراسة إلى كرامات الشيخ الدشطوطي حيث يذكر “الشعراني” أن شيخه “الدشطوطي” كان «صاحب أحوال».
فيقول الشعراني في «الطبقات الكبرى» } قالوا إنه ما رؤى قط في معدية، إنما كانوا يرونه في مصر، والجيزة، وحج رضى الله عنه ماشيًا حافيًا، و أخبرنني الشيخ أمين الدين إمام جامع الغمري رحمه الله، أنه لما وصل إلى المدينة المشرفة، وضع خده على عتبة باب السلام، ونام مدة الإقامة حتى رجع الحج، ولم يدخل الحرم.
وعمر عدة جوامع في مصر، وقراها، وكان رضى الله عنه له القبول التام عند الخاص والعام، وكان السلطان قايتباي يمرغ وجهه على أقدامه”{.
كرامات الدشطوطي
كما يذكر الشعراني بعضا ً من كرامات شيخه “الدشطوطي” ، ومنها كرامات كثيرة يتفق فيها أولياء الله الصالحون، وما يتردد عنهم ؛ منها ما يرويه الشعراني: } حلف اثنان أن الشيخ نام عند كل منهما إلى الصباح في ليلة واحدة في مكانين، فأفتى شيخ الإسلام جلال الدين السيوطي بعدم وقوع الطلاق { .
واقعة أخرى يرويها الأمير يوسف ابن أبى أصبغ ؛ حيث يقول : } أنه لما أراد السلطان قايتباي أن يسافر إلى بحر الفرات، استأذن الشيخ عبدالقادر الدشطوطي في السفر، فأذن له، فكنا طول الطريق ننظره يمشى أمامنا، فإذا أراد السلطان أن ينزل إليه يختفى، فلما دخلنا حلب وجدنا الشيخ رضى الله عنه ضعيفاً بالبطن في زاوية بحلب مدة خمسة شهور، فتحيرنا في أمره رضى الله عنه { .
هذا وقد توفى الشيخ الدشطوطي فى اليوم التاسع من شعبان سنة 924 هجرياً عن عمر يناهز ثمانية ثمانون عاماً ودفن بمسجده الكائن بالقاهرة.
مسجد ومقام
ويوضح الدكتور ريحان أن مسجد ومقام الدشطوطي يرجع للفترة ما بين عامي 912 ـ 914 هـ /1506م ؛ خلال عهد السلطان قنصوى الغوري ـ أحد سلاطين دولة المماليك الجراكسة ؛ ويقع ضريحه في الركن الشمالي الشرقي لمسجده الشهير المطل على شارع بورسعيد بالقرب من ميدان باب الشعرية .
والضريح عبارة عن غرفة مربعة تتوسطها تركيبة ضريحية مدفون بها الشيخ الدشطوطي؛ يُدخل إليها من الإيوان الشمالي، وفي أركان المربع من أعلى توجد حنية واحدة كبيرة حولت المربع إلى مُثْمَن أقيمت فوقه قبة مرتفعة ، وفتحت في حوائط الضريح الأربعة نوافذ قنديلية مغشاه بالزجاج المعشق المتعدد الألوان مماثلة للموجودة في الغرفتين المطلتين على إيوان القبلة .
أما عن المسجد فهو من المساجد المعلقة ؛ حيث بُنيّ على أعلى دورات المياه الموجودة أسفله أو مجموعة من الحواصل ؛ التي تم الكشف عنها أثناء عملية ترميمه عقب زلزال 1992والتي تم الانتهاء منها عام 2001.
وينوه الدكتور ريحان من خلال الدراسة إلى أن المسجد مشابه في تخطيطه المعماري لمسجد قايتباي بقرافة المماليك حيث يتكون من درقاعة، يحيط بها أربعة إيوانات أعمقها إيوان القبلة الذي يتقدمه ثلاثة عقود نصف دائرية محمولة على عمودين، ويقابله إيوان مماثل هو الشمال الغربي الذي يضم دكة المبلغ .
المجلس الكبير
حيث يتخذ المسجد في تخطيطه شكل المدارس المتعامدة ؛ فالصحن مربع الشكل يتوسط المسجد، مغطى بسقف خشبي، وبه شُخشيخة ، ويحيط بالصحن أربعة إيوانات ؛ المكان المتسع من الدار تحيط به حوائط ثلاثة ، أو المجلس الكبير على هيئة صُفّة واسعة لها سقف محمول من الأمام ، كان مخصص لجلوس كبار القوم .
نوافذ قنديلية
وإلى جانب إيوان القبلة من الجهة الجنوبية، غرفتان معقودتان ومفتوحتان على الإيوان، بهما نوافذ قنديلية مغشاة بزجاج معشق متعدد الألوان.
ويضم الإيوان الشمالي ست نوافذ، تطل على شارع جانبي، بينما الإيوان الجنوبي له باب يؤدي إلى طرقة.
تنتهي إلى مدخل المسجد الرئيسي الذي يطل على شارع بورسعيد ؛ الذي يعد من أكثر شوارع القاهرة التي تتسم بالعشوائية .
إلا أن الآثار الإسلامية المرصعة على جوانبه ، تظل كالدرر المتلألئة الوضاءة التي تزيد تاريخ مصر جمالا ً وتجسد بعمارتها الإسلامية الفريدة .
ورقي تصميمها العتيد ، حقبة تاريخية مهمة من تاريخ المحروسة، وتكشف لنا عن أسماء أعلام عاشوا هذا العصر، غابت أرواحهم، إلا أن أثارهم ظلت صامدة .
تصميم معماري
هذا ويمتاز مسجد “الدشطوطي” بتصميم معماري فريد، حيث تم بناء دورة مياهه الأصلية أسفله، ولعل المعماري أراد بذلك أن يتفادى النشع .
الذي قد يصيب المسجد وقت الفيضان ؛ نظرا ً لوقوعه على الضفة الغربية للخليج المصري الذي كان يخرج من فُم الخليج في منطقة مصر القديمة .
وينتهي عند خليج السويس، الذي ردم في أوائل القرن العشرين، وقد أبطل استعمال هذه الدورة القديمة.
وبُنيت بدلًا منها دورة أخرى تقع في الضلع الجنوبي للمسجد.
ظل مسجد الدشطوطي محتفظًا برونقه طوال ستة قرون ميلادية ، مواجهًا للتغيرات التاريخية التي تعاقبت أحداثها على مصر المحروسة .