Al Masalla-News- Official Tourism Travel Portal News At Middle East

جانبى طويل

الخرطوم حرة أبية… بقلم د. السر علي سعد محمد

الخرطوم حرة أبية... بقلم د. السر علي سعد محمد

 

 

 

 

 

 

 

 

بوابة السياحة العربية

بقلم : الدكتور السر علي سعد محمد

اكاديمي سوداني

 

 

 

عادت الخرطومُ بعد غيابٍ طويل، عادت كعاشقةٍ أنهكها التيهُ في دروبِ الغياب، كزهرةٍ اقتلعتْها ريحُ الفوضى ثم ألقتها، لكنها وجدت طريقَها إلى التربةِ التي أنبتتْها أولَ مرة. عامانِ وأكثر، والنيلانِ يشهدان على جرحِ المدينة، على شوارعها التي كانت تصرخ تحت وطأةِ الأقدامِ الغريبة، على جدرانها التي اختبأتْ خلفها دموعُ الأمهاتِ وحنينُ المغتربين.

 

 

 

 

 

 

عادت الخرطوم، وعاد معها القصرُ الجمهوري، ليس حجراً فوقَ حجرٍ، بل رمزيةُ وطنٍ نازفٍ تذكَّرَ فجأةً أنه كان عظيماً. عادت بحري، تلك التي تسكنُ ذاكرةَ العشاق، حيث الموجاتُ تُرسلُ رسائلَ سرّيةً للعابرين، حيثُ الطرقاتُ تحفظُ وجوهَ البسطاءِ الذين لم يخونوا حُلمَ المدينةِ حتى وهي تحتضر. وعادت أم درمان، المدينةُ التي لم تُطفأ أنوارُها يوماً، لأنها لم تكن يوماً مجرّدَ جغرافيا، بل تاريخٌ حيّ، ودرويشٌ في حضرةِ الحُبِّ والوطن.

 

 

 

يا خرطوم، كم كنتِ صبورةً! كم ابتلعتِ الخوفَ كي لا تخيفي أبناءَك، كم تجلَّدتِ وأنتِ تُغتصبين، تُنهبين، تُهدمين! لكنكِ اليوم تعودين، كما تعودُ القرى بعد فيضانِ الحنين، كما يعودُ الطائرُ المُنهكُ إلى عشِّه بعد أن ظلَّ طريقَه في السماء. عودي يا خرطومُ، واغسلي بمطرِ النيلِ أثرَ الحريق، ازرعي في قلبِكِ المكسورِ شيئًا من الفرحِ ليكبر، وانفضي عن كتفيكِ غبارَ الغدرِ، فقد آنَ لكِ أن تُشرقِي من جديد.

 

 

 

*الخرطوم تُلملم جراحها*

في أم درمان، المدينة التي لم يفلح الغزاة ولا النيرانُ في كسرِها، خرجت الحناجرُ التي صمتت طويلًا تردد الأغنياتِ القديمة، كأنها تُثبت أن الذاكرةَ أقوى من الخراب. هناك، في شوارعها الضيقة، كانت رائحةُ القهوة تعبق من جديد، وتحت المآذن العالية، عاد الصالحون إلى أذكارهم، كأن المدينة تستعدُّ لغسلِ أوجاعِها بدموعِ الصباح.

 

 

 

أما سوقُ أمدرمان، فقد وقف التجارُ على أبواب محالِّهم، يُحدِّقون في الرفوفِ الفارغة، كأنهم يسألونها: هل ستعود الأيامُ التي كان فيها السوقُ يعجُّ بالحياة؟ لكنّ الحياة، كالنيلِ تمامًا، لا تتوقف، بل تجدُ دائمًا طريقًا لتواصلَ جريانها.

 

 

 

وعند مقرن النيلين، حيث يحتضنُ الأزرقُ الأبيضَ في عناقٍ أزلي، كان المشهدُ يشبهُ لوحةً حزينةً تتهيأُ لتُبعث من جديد. هنا كانت الخرطومُ دومًا، مدينةً لا تشيخ، لكنها هذه المرةُ بدت متعبةً، كأنها تُفتّشُ في ماءِ النيل عن وجهِها الذي فقدتهُ في زحامِ الدمار.

 

 

 

لكن الخرطومَ لا تعرفُ الانكسار. قد تنحني تحت العاصفة، لكنها تعودُ لتنهضَ كما كانت. في زواياها المدمرة، في شوارعها التي سرقت الحربُ منها الأمان، في بيوتها التي صارت أطلالًا، ينبضُ شيءٌ خفيٌّ كإرثٍ قديم، يُذكِّر أبناءَها بأن هذه الأرضَ ليست للبيع، ولا للمساومة، ولا للاحتراب.

 

 

 

عادت الخرطوم، لكنها لم تعُد كما كانت. عادت بجراحِها، بألمها، بأطلالِها التي تنتظرُ يدًا تُعيدُ بناءَها. لكنها عادت، وهذا وحدهُ كافٍ ليبدأ الوطنُ صفحةً جديدة.

 

 

 

*الخرطوم.. صوت المدينة الذي لا يموت*

عادت الخرطوم، لكن صوتها لم يعد كما كان. كانت المدينةُ تتحدثُ بلغةٍ جديدة، لغةٍ تعلمتها من الخراب، من أصواتِ القذائف التي مزقت سماءها، من صدى الخطى الثقيلة التي عبرتْ طرقاتها دون استئذان. لكنها كانت تُهمسُ أيضًا بلغةِ الصمود، بلغةِ الذين بقوا رغم الخوف، الذين خبّأوا المدينةَ في قلوبهم يومَ حاولوا سرقتها من ذاكرةِ الوطن.

 

 

 

في أم درمان، كان الطميُ المتراكم على ضفاف النيلِ يشهدُ على صبرِ المدينة. هناك، حيث وقف الدراويشُ ذات يومٍ يهتفون بحبِّ الله والوطن، كان الأطفالُ يركضون بين الخرائب، يبحثون عن بقايا ألعابِهم، عن كتبٍ لم تُحرق، عن ذكرياتٍ لم يمسّها الغبار. عند سوقِ أم درمان، كان التجارُ يعيدون ترتيبَ بضاعتهم القليلة، كأنهم يُعيدون ترتيبَ الأمل، كأنّ وضعَ حزمةٍ من التوابلِ على الرفِّ هو إعلانٌ خفيٌّ بأن الحياةَ مستمرة، رغم أنف الخراب.

 

 

 

وفي بحري، حيث كانت المصانع تُدخّنُ كل صباح، عاد بعضُ العمالِ يبحثون عن أبوابٍ ما زالت مفتوحة، عن ماكيناتٍ لم تصمت، عن فرصةٍ أخيرة ليقولوا للمدينة: نحن هنا. كانت المراكبُ على النيلِ تتحركُ بخجل، كأنها تخشى أن تُفسد هدوءَ الخرطومِ الجديد، ذلك الصمتُ الذي خلفتهُ العاصفةُ قبل أن ترحل.

 

 

 

أما وسط الخرطوم، حيث كان القصر الجمهوري يطلُّ على الميادينِ التي شهدت هتافاتِ الثوار، فقد وقف شابٌ ينظرُ إليه طويلًا. لم يكن يتأمل المبنى، بل كان يُفكّرُ في الوطن، في معنى أن تنجوَ الخرطومُ بعد كلِّ هذا، في معنى أن تبقى بعد أن حاولوا انتزاعها من روحها. كان يشعرُ بأن الخرطوم لم تعُد فقط مدينة، بل أصبحت درسًا في البقاء، معجزةً في التحمُّل، قصيدةً تُكتَبُ بحروفِ الصبرِ على جدرانِ الزمن.

 

 

 

الخرطومُ اليوم ليست تلك المدينةَ التي عرفناها، لكنها أيضًا ليست المدينةَ التي أرادوها أن تكون. الخرطومُ اليوم مدينةٌ خرجت من تحتِ الأنقاضِ تحملُ في عينيها إرثَ التاريخِ ووجعَ الفقد، لكنها أيضًا تحملُ وعدًا بأنها لن تموت، لأنها ببساطة، أكبرُ من أن تُمحى، وأقوى من أن تُنسى.

على جوجل نيوز

 

#الخرطوم #السودان #عودة_الحياة #إرادة_لا_تنكسر #أم_درمان #بحري #النيل #الوطن #إعادة_الإعمار #صوت_المدينة

 

 

 

 

نبذة عن الكاتب

مقالات ذات صله