جباع… بلدة المصايف تغيب عن خارطة السياحة اللبنانية
بقلم : ثريا حسن زعيتر
يميّزها عن سواها موقعها الجغرافي وحلاوة العيش فيها مع الهواء العليل صيفاً
الأهالي: للإستفادة من ينابيع المياه العذبة والإهتمام الكافي بها والترويج لها
ما زالت بلدة جباع ومياهها العذبة، بعيدة عن خارطة السياحة اللبنانية أسوة بكثير من المناطق اللبنانية، ومن بينها جارتها «عروس الشلال» جزين، غير أنّ عروس «إقليم التفاح» جباع تكابد السير على درب جلجلة السياحة الدينية، الثقافية، البيئية والترفيهية، يميّزها العبور إلى «معلم مليتا السياحي» على بُعد مئات الأمتار الذي تحوّل إلى متحف في الهواء الطلق لإنتصار المقاومة وغنائمها، بعدما أدّت قسطها من مقارعة الاحتلال، ونالت نصيبها من العدوان والدمار…
لعل ما يميّز جباع عن سواها، ليس موقعها الجغرافي على كتف إقليم التفاح، أو حلاوة العيش فيها مع الهواء العليل صيفاً، بل تربّعها في قلب الثقافتين العلمية والزراعية، ومعها ثقافة تراث يحضر في كل زاوية من بلدة كانت لتكون رقماً سياحياً صعباً لولا غياب المشاريع المساعِدة، بينما السياسة المتّبعة لم تنتهج نهج سياحة «البيئة الدينية»، الأقرب إلى واقع بلدة تعتمد حالياً في اقتصادها على الزراعة والأشجار المثمرة، وعلى السوق التجاري ومال الاغتراب…
«لـواء صيدا والجنوب» جال في بلدة «جباع» التي تطمح إلى أنْ تكون على الخارطة السياحية بعدما حافظت على بيوتها التراثية، تاريخها العلمي، ليتكامل دورها بأنّها بلدة الفقه والعلم والاصطياف معاً..
غياب السياحة
تغنّى ببلدة «جباع» الكثير من الشعراء، ونظموا فيها القصائد وأبيات الشعر، لكن اللافت أنّ مستشرقاً فرنسياً وصف جمالها بـ «الجنة»، وعنها قال الإمام المغيّب السيد موسى الصدر: «أكاد ألامس حدود الجنّة لكنها جباع»… تختصر هاتان المقولتان عصارة الحياة في جباع، حيث الهدوء والسكينة، ولا مجال للتفكير بالسياسة، فلكل شيء وقته، وهنا وقت الراحة والاستجمام.
مَنْ يدخلها يدرك جيداً أنّ شيئاً لا يلوح في الأفق، وحدها ذكريات العز ترافقك في بلدة ما زالت تحفظ طابعها القديم وبيوت متلاصقة وأدراج طويلة تحملك من حي إلى آخر وكأنّك في بلدة أوروبية، بينما ما زالت نساؤها يواظبن على العمل في الحقل، وعلى تراث لم يندثر، إذ ما زال جرن الكبة حاضراً، وما زال «الصاج» يحكي كفاحهن، فخبز «جباع» مشهور بأنّه مصنوع من القمح البلدي ولا ينافس أو يُضاهى.
يتبادل الأهالي وهم من عائلات: جزيني، كركي، غملوش، الحر، نعمة، دهيني، وهبي، مروة، رعد، حسين، عقيل، الجواد، خفاجة، ماضي، فواز، زين، شميساني، بركة، نور الدين، نجيب الدين، صفاوي، سكتى ومحمودي، أحاديث عز الاصطياف، لكنّهم بحسرة يقولون لا توجد خريطة طريق واضحة المعالم، يمكن أنْ تستفيد من مقوّمات البلدة الغنية بمقامات علماء العلم والفقه والطب، يمكن أنْ تجذب عشّاق السياحة الدينية، والغنية أيضاً ببيئة خلّابة يمكن عبرها إقامة منتجع بيئي ضخم يضم بيوتاً خشبية ورياضات برية والإستفادة من ينابيع المياه العذبة التي يفوق عددها أيام السنة.
{ ويؤكد «أبو حسين» نور الدين أنّ البلدة «لا تقل أهمية عن مصيف جزين، ولا حتى عن بكاسين الذي أدرجت على خارطة السياحة الطبيعية، ولا ينقصها شيئا لترتقي لمصاف عراقة قرى الاصطياف لتستعيد قوّتها الاقتصادية، لكن المطلوب أنْ يولي المسؤولون الاهتمام الكافي بها والترويج لها إذ تملك كل مقوّمات النجاح… لو كنّا بغير دولة كانت استفادت من خيراتنا، ولكن في لبنان لا تعلّق آمالاً على دولة لا تهتم بتنشيط السياحة الداخلية إلا في بعض المناطق فقط، وكأنّ هناك أولاد الجارية وأولاد الست حتى في السياحة، لا يشغل بالها إلا سياحة السياسة وكل يغنّي على مواله».
لا يخفي أبناء البلدة إستياءهم من الواقع الأليم، فـ «عروسة إقليم التفاح» التي تسعى لتكون رقماً ثقافياً صعباً، في زمن باتت فيه الثقافة كتاباً بلا هدف، تتعرّف في مكتبتها العامة على بيئة ثقافية تعمّم في البلدة، وتُعد من أهم مكتبات المنطقة، بيد أنّه بمفهوم أبنائها «الثقافة وحدها لا تبني مستقبلاً لبلدة يجب أنْ تجذب الأنظار إليها لا سيما أنّ الجميع يؤمنون بثقافة المقاومة والصمود بالأرض والعيش بحرية وكرامة».
سوق وكنيسة
في السوق العتيق الذي يُقام كل نهار جمعة، تتعرّف على بيئة جباع الاقتصادية، فهو يقع عند مفترق طرق الأحياء، يقول أستاذ التاريخ الدكتور حسن موسى: «كان شبيهاً بسوق عكاظ والمربد، داخله كانت تُقام الحوارات الشعرية والزجلية، وتسمع حكايا الناس والتجّار والمزارعين والحرفيين، وكان سوقاً للماشية والحرفيات الصناعية والملابس، بيد أنّه تحوّل ليكون فقط سوقاً تجارياً للبضائع الجاهزة، وإنْ كان لا يزال يحفظ مكانته وخَفتَ نجمه».
{ في محل قديم داخل السوق، تفوح منه رائحة أعشاب الطبيعة وتراثها، ينشغل إبراهيم وهبي في إعداد المّونة البلدية، رائحتها تغزو المكان الذي تنشر فيه آنية الفلاح القديمة، وهو أوّل رجل عمل في إعداد المونة الموسمية بكافة أنواعها، وبدأ يسوّقها في المعارض الزراعية التي كانت جباع رائدتها، ويؤكد أنّ «ما أقوم به هو جزء من تراث جباع، وتسويق لخيرات أرضها، وأنا أُعدُّ المقطّرات من الأعشاب العطرية الذي أزرعها في حديقة خاصة، وقد تحوّلت حقل أبحاث للطلاب».
{ إلى جانبه، يجلس الحاج «أبو علي» كركي الذي يتذكّر جزءاً من تاريخ جباع، فيروي عن «نمنم» الداية المسيحية التي رفضت أنْ تغادر البلدة، فبقيت وحيدة، وكانت محبوبة من كل أهالي البلدة، حين توفيت في العام 1997، حيث قام أهالي البلدة بفتح أبواب كنيسة السيدة المقفلة وأقاموا الجنّاز لها وتم تشييعها».
ويردف «نحن أبناء بلدة واحدة، لم نعرف يوماً التفرقة، لكن المسيحي هو الذي هجرها للعمل، وبقيت الكنيسة مقفلة إلى أنْ أُعيد ترميمها مؤخّراً»، حيث أنّ إعادتها للحياة، تشكّل رمزاً للوحدة والتعايش ورسالة يجب أنْ يقتدي بها كل لبنان».
سياحة مغايرة
{ في منزل يفوق عمره الـ 100 عام، ويُعدُّ من أبرز معالم البلدة، يعيش أستاذ الفن والزخرفة العربية وسيم صفاوي حيث القطع القديمة تنتشر، والخوابي والفوانيس وكراسي القش، يعمل داخله على انجاز موسوعة تاريخية وتراثية عن جباع الحلاوة، ويؤكد أنّ «جباع كانت من أهم القرى العلمية والفقهية، يوجد داخلها مقام النبي «صافي» الذي يقع في أعالي الجبل، والنبي عيسى وأمه مريم زارا صخرة «المرحمة» قرب المقام في طريقهما إلى الشام».
ويشير إلى أنّ «العلماء الجبعيين لا مقامات لهم في البلدة والتي كانت لتستقطب الزوار وتخلق حالة سياحية مغايرة» ما يُعيق الحراك السياحي الذي يبدو خجولاً بالنظر إلى مواقعها الأثرية والتراثية، والتي يأتي في مقدّمتها الحمّام التركي ذي القبّة الحجرية، الذي يقع قرب السوق التجاري ويتميّز بهندسته العثمانية والإسلامية ويفوق عمره الـ 130 عاماً شيّده نزار باشا لزوجته حفيظة رستم التي نظّمت الكثير من المقاطع الشعرية الغزلية بحق البلدة، إنّ الحمام كان للسيدات وبعد وفاة حفيظة خنقاً بالدخان تحوّل للرجال وإبان الاحتلال الفرنسي نُهِبَ ثم أقفل وبعدها تحوّل إلى سوق للماشية ومركز للكهرباء ليعود لمجده بعد ترميمه».
ويختم صفاوي: «إنّ غياب المشاريع السياحية كإقامة قرية بيئية في الإحراج، وإعادة تفعيل المنازل المؤثثة للإيجار وتنشيط الفنادق، مُضافاً إليها إقامة مقامات لعلماء جباع لتنشيط السياحة الدينية، عوامل أسهمت في سحب البساط عن البلدة، وإنْ ما زالت مقاهيها القبية وفوار جباع وفندق تاج الجنوب الذي شُيّد مكان فندق «أم سليم» يجذب بعض السياح، ولكن نحتاج إلى خطة منظّمة لإستعادة دور البلدة التي راج قبل الحرب الأهلية ويجب أن يعود».
نقلا عن اللواء