فى الذكرى 208 لحملة فريزر هل كانت مصر جزءاً من حرب عالمية؟
القاهرة "المسلة" د. عبد الرحيم ريحان …. يحل فى التاسع عشر من شهر سبتمبر الجارى ذكرى انتصار المصريين من أهالى رشيد وضواحيها على قوات الحملة الانجليزية على مصر المعروفة تاريخيا بحملة فريزر والتى استمرت أعمالها العسكرية فى مصر ما يقارب سبعة أشهر بدأ من منتصف فبراير من عام 1807وانتهت بهزيمتها وجلائها فى 19 سبتمبر من العام نفسه.
ويستعيد الباحث الآثارى أحمد سعيد أبو عياش مفتش آثار بمنطقة فوة محافظة كفر الشيخ هذه الذكرى موضحاً بأن الحملة لم تكن مجرد دعماً عسكرياً إنجليزياً لبقايا المماليك فى مصر كما أنها لم تكن مجرد طمعاً فى ثروات مصرالوفيرة وموقعها الجغرافى المتميز بالإضافة إلى أن الحملة لم تكن مجرد مباردة إستعمارية من قبل بريطانيا لحماية طرق مواصلات مستعمراتها فى الهند.
ويتابع الآثارى أحمد سعيد أبو عياش بأن الدراسة المتأنية لمسار التاريخ العسكرى العالمى فى تلك الحقبة من التاريخ تخبرنا أن أسباب وأهداف الحملة كانت جزءاً لا يتجزأ من حرب عالمية بين الأقطاب الأوروبية المتصارعة على السيطرة على صناعة وتوجيه القرار فى القارة العجوز كما شهدت تلك الفترة حرباً ضروساً تنافسية بين تلك القوى للسيطرة على أراض جديدة فى بقاع شتى من العالم بهدف بناء إمبراطوريات متجددة واسعة تدعم دول أوروبا الاستعمارية فى ثوراتها الصناعية والاجتماعية والسياسية.
أوروبا قبل الحملة
و يشير الآثارى أحمد سعيد أبو عياش إلى الموقف العام على الساحة الأوروبية قبيل بدء الحملة الإنجليزية على مصر ففى العام 1789إشتعلت الثورة الفرنسية والتى بدورها فجرت ما يٌعرف تاريخياً بحروب الثورة الفرنسية والتى إتفق المؤرخون على تاريخ اندلاعها (20 أبريل 1792) لكنهم إختلفوا فى تاريخ توقفها (25مارس 1802أوحسب قول آخر 1799) وعلى أية حال كان مسرح عمليات تلك الحرب الدموية أوروبا بأكملها وامتدت إلى الشرق الأوسط فى نزاع استعمارى كما تصادمت الأرمادا البحرية للدول المتحاربة فى المحيط الأطلسى والبحر الكاريبى والمحيط الهندى وكانت الحملة الفرنسية على مصر (1798-1801) جزء من هذه الحملة حيث أرسلت فرنسا جنرالها الشاب نابليون بونابرت على رأس نخبة من علمائها وقوادها وجندها العسكريين إلى مصر فى رحلة كانت الحجر الذى حرك المياه الراكدة حيث أنها كانت السبب الأول فى توجيه أنظار بريطانيا الاستعمارية إلى مصر وانتباهها إلى خطورة أن تكون مصر فى يد قوة إستعمارية غير بريطانيا كما أعادت الحملة الفرنسية الاهتمام العثمانى بمصر التى أحجم العثمانيون عن الاهتمام بها اللهم إلا فى جباية خراجها لصالح الخزينة العثمانية.
صراع فرنسا وبريطانيا
يوضح الآثارى أحمد سعيد أبو عياش أن الطموح الإمبراطورى لنابليون بونابرت لا حدود له مما عجل فى إدخال أوروبا كلها فيما يُعرف تاريخياً بالحروب النابليونية ( 1803- 20 نوفمبر 1815) وكجزء من تلك الحروب جاءت الحملة الإنجليزية أو ما تعرف بحملة فريز على مصر وأرادت إنجلترا طعن خصومها الفرنسيين فى مقتل وكسر ظهرها فى البحر المتوسط عن طريق تأمين قاعدة عمليات ساحلية استراتيجية لها فى جبهة المتوسط ضد الفرنسيين كما كان سوء العلاقات بين بريطانيا وتركيا العثمانية يسمح للأولى بتوجيه ضربة إنتقامية ضد الثانية فى مصرفقد تحالف العثمانيون مع فرنسا كما تحالف الإنجليز مع الروس فى تكتلات وتحالفات الحروب النابليونية.
حملة فريزر
و يتابع الآثارى أحمد سعيد أبو عياش بأن حملة فريزر بدأت فى الإبحار من شواطئ إنجلترا بقيادة الجنرال ألكسندر مكنزى المعروف بفريزر على رأس قوة عسكرية قدرها المؤرخ الجبرتى بستة آلاف مقاتل والحقيقة أن خط سير الحملة لم يكن خافيا على الباب العالى العثمانى ففى منتصف فبراير من العام 1807 وردت رسائل من عاصمة العثمانيين الأستانة إلى المصريين مفادها قرب وصول حملة عسكرية إنجليزية إلى الشواطئ المصرية وكانت مصر وقتها تحت حكم الوالى الجديد آنذاك محمد على باشا والذى كان مشغولاً بقتال بقايا المماليك فى الوجه القبلى ويذكر المؤرخون أن الحملة كانت فى وفاق واتفاق مع المماليك وزعيمهم محمد بك الألفى والذى كانت مهمته تسهيل دخول الإنجليز لمصر مقابل أن تؤول السلطة للماليك بعد ذلك وهو الأمر الذى دفع مؤرخاً كبيراً مثل الجبرتى بالقول أن حملة فريزر ما هى إلا دعماً عسكرياً بريطانياً للماليك وليس لها هدف عسكرى استعمارى آخر وهو ما يختلف معه الباحث اختلافاً تاماً أستنادا لحجم قوات الحملة ونوعية التسليح وتوقيتها تزامنا مع ذروة الحروب النابليونية.
مقاومة أهالى رشيد
ونستكمل مع الآثارى أحمد سعيد أبو عياش أنه فى 16 مارس 1807 وصلت طلائع الأسطول الإنجليزى إلى شواطئ الإسكندرية وكان يحكمها ضابطاً عثمانياً يدعى أمين أغا وليس له من الأمانة حظ سوى أسمه فقد سلم المدينة للمعتدين دون قتال متظاهرا بأنه أسير حرب تغطية لخيانته وكيف له أن يقاتل دفاعا عن بلاد ليس ببلاده وشعب ليس بشعبه وأرض ليست بأرضه؟
وكان الإنجليز متبعين لخطة عسكرية تتلخص فى الاستيلاء على الثغور الساحلية ثم التوغل إلى العاصمة بعدما يمهد لهم أنصارهم من بقايا المماليك الطريق إليها وعليه فقد أرسل الجنرال فريزر أحد قادته ويسمى ويكوب بفرقة عسكرية قوامها 2000 جندى إلى مدينة رشيدة بقصد احتلالها وجعلها مركزاً عسكرياً إدارياً للحملة وتحرك ويكوب فى 29 مارس ووصل قرب رشيد فى اليو م التالى وكان محافظ رشيد هو على بك السلانكى عازماً على المقاومة والقتال دفاعاً عن بلاده حتى آخر قطره فى دمه وهنا يظهر لنا الفارق بين الحاكم الأجنبى الذى لا شاغل له سوى سلطته وجنى الأموال وبين الحاكم الوطنى المناضل صاحب القضية والمخلص لوطنه.
إتبع السلانكى مع أهالى رشيد خطة خداع بأن أوهم المعتدين أن المدينة خاليه وأنها ستسلم مثل الإسكندرية فدخلها الإنجليز يوم 31 مارس وما لبث الأهالى أن أوصلوهم نارا حامية أتت على معظمهم ومنهم ويكوب نفسه كما أسر أهالى رشيد عدداً كبيراً منهم وأرسلت رؤوس قتلى الإنجليز إلى القاهرة تحفيزاً لباقى المدن المصرية على القتال ضد العدو.
مقاومة الحملة
و ونستكمل رحلتنا فى أحضان رشيد مع الآثارى أحمد سعيد أبو عياش بأن السيد عمر مكرم تزعم الحركة الوطنية فى القاهرة ونادى فى الناس للجهاد والقتال ضد العدو فتوافد الرجال والشباب للتطوع والقتال دفاعاً عن بلادهم ووطنهم الغالى مصر.
على أن الأمر فى رشيد لم ينتهى عند هذا الحد فقد أرسل لها فريزر تجريدة عسكرية أخرى بقيادة جنرال آخر هو ستيوارت أوصل المدينة ناراً حامية بنيران مدفعيته من فوق تلال أبو مندور إبتداءاً من 3 أبريل 1807 وأرسل على بك السلانكى يطلب المدد من القاهرة لكنه تأخر حتى وصول محمد على باشا نفسه من الصعيد لقيادة جهود الدفاع عن المحروسة وتم إرسال المدد بقيادو طبوز أوغلى وحسن باشا على رأس 4000 من المشاة و 1500 فارس عسكروا فى فريقين أحدهما بقرية الحماد قرب رشيد بقيادة حسن باشا والآخر بقرية برنبال المقابلة لها على الضفة الأخرى من نهر النيل بقيادة طبوز أوغلى كما أخذ الأهالى فى قطع السدود وفتح القنوات لإغراق معسكرت الإنجليز مما دفع ستيوارت للانسحاب من رشيد إلى الإسكندرية ودمر فى طريقه سد أبو قير لتأمين نفسه من هجمات المصريين.
وهنا أرسل فريزر لمحمد على يطلب التسليم والصلح مقابل الجلاء وإعادة الأسرى فوافق محمد على وتم عقد الصلح فى دمنهور ورحلت الحملة عن مصر تحمل جرحاها وقتلاها بعد هزيمة عسكرية طاحنة على يد شعب مصر فى 19 سبتمبر 1807 فحق للمصريين أن يحتفلوا بنصرهم ويستوعبوا دروس التاريخ ويعوا أهمية بلادهم ويذوبوا حبا فيها وانتماءاً لها.