إعادة اكتشاف المجهول من شعر أبو تمام
بقلم د/خالد عزب
في مفاجأة مذهلة صدر في ثماني مجلدات طبعة كاملة لديوان أبو تمام جمعت من 76 مخطوطة من كافة مكتبات العالم ، أفضت إلي أربعمائة قصيدة لم تنشر من قبل لأبي تمام الطائي ، حقق هذه الطبعة محمد مصطفي أبو شوارب الأستاذ في جامعة الإسكندرية ، و صدرت هذه الطبعة عن مؤسسة البابطين للشعر العربي في الكويت .
و فى هذا يري دكتور أبو شوارب أن قارئ شعر أبى تمام يمكن أن يلحظ ظهور ملامح شخصيته الإنسانية بوضوح في قصائده و مقطوعاته ؛ فيبدو ذا نفس طموحة متعجلة ، متأرجحة بين الاندفاع حيناً و التعمق حسناً آخر ، شغوفاً بالحياة و لذاتها ، و النساء منها فى الصدارة ، كريماً متلافاً أفاد مالاً وافراً من ممدوحيه فأفناه في إمتاع نفسه و رفد أصدقائه و محبيه ، جريئاً مقداماً أحب المعارك و الحروب و تعلق بها و أجاد تصوير حوادثها و تعمق مشاعر من يخوضونها ن ذا نزوع واضح إلي استخلاص تجارب الحياة و تكثيفها و الخروج بها من حيز الخاص الفردي إلي دائرة العام الإنساني ، يدمن النظر في الأشياء و يتعمق جواهرها ، و يعمد إلي التقاط متناقاقضاتها ، مجيداً العزف علي أوتارها المتعارضة في سبيل كشف هذه الجواهر الفريدة ، له ميل بارز إلي العصبية العربية . و هو في كل هذا صادق في شعوره راغب في أن يكون مختلفاً في تصوره و تصويره ، تعينه على ذلك شاعرية فذة ، و عقلية متوهجة ، و ثقافة فيها من الوافد الأجنبي ، بقدر ما فيها من الموروث العربي.
و قد هيا ذلك كله لأبي تمام أن يقود واحدة من حركات التجديد الكبري في تاريخ الشعر العربي على مر العصور ، و أن يسهم بالقدر الوافر في تأسيس شعرية جديدة كان لها حضور قوي في إبداعات الشعراء العرب على مدي عشرة قرون متصلة ، و كان لها النصيب الأوفر من جهد النقاد و الدارسين ، ربما إلي اليوم ؛ فأثار اندفاع شعر أبي تمام الجارف إلي التجديد تصوراً و تشكيلاً – حركة نقدية واسعة اجتذبت من الأنصار في حياة الرجل و بعد وفاته بقدر ما اجتذبت من الخصوم .
فلم يقتصر أمر الخصومة حول شعر أبي تمام على جملة الملاحظات التي تحملها روايات النقاد و رواة الشعر في كتب التراث الأدبي و النقدي شأنه شأن كثير من الشعراء القدامي المرموقين ، و إن كان أبو تمام يشارك أبا الطيب المتنبي في صدارة الشعراء الذين عني النقاد و البلاغيون في مؤلفاتهم العامة بدرس شعرهم و تحليله .
و لم يقتصر أمر هذه الخصومة كذلك على الانفراد بتخصيص مؤلف أو مؤلفين عن شعره ، كما هى الحال مع بعض الشعراء البارزين في أدبنا العربي القديم ؛ بل قامت حول شعر أبي تمام و تجربته الفنية حركة تأليف نقدي و إخباري واسعة المدي منذ القرن الثالث الهجري .
و لا يكاد كتاب من كتب الأدب و النقد و البلاغة منذ القرن الثالث الهجري يخلو من آثر من آثار تلك الخصومة التي اشتجرت حول شعر أبي تمام ، و لم تخمد شعلتها رغم استغال الحركة النقدية بشعر ابي الطيب المتنبي (301 – 353 هــ) الذي يعده كثير من القدماء و المحدثين امتداداً لشعر أبي تمام.
و الخصومة حول شعر أبي تمام في جل تلك المؤلفات صادرة لا ريب عن موقف فني يتعلق في أصله بقضية الخصومة بين القدماء و المحدثين . فالصراع حول شعر أبي تمام في حقيقته صراع بين أنصار التجديد و الخروج علىي النظام الشعري الموروث من جهة ، و أنصار المحافظة علي مواضعات هذا النظام و تقاليده من جهة أخري ؛ إذ مثلت تجربة أبي تمام الفنية خروجاً سافراً علي الموروث الشعري ، و تهديداً عنيفاً للشعرية العربية الموروثة بكل طاقاتها الجمالية و طرائقها اللغوية ، علي نحو لم يقدم عليه شاعر من قبل ، بمن فيهم الشعراء الذين انضووا تحت لواء التجديد و رفعوا رايته ؛ و من ثم فقد واجه شعر أبي تمام موجات متعاقبة من الانتقادات الحادة التي وجهها إليه النقاد المحافظون علي سمات البنية الشعرية العربية الموروثة بصورة قاسية لم يتعرض لها غيره من الشعراء المجددين من أمثال بشار و مسلم و أبي نواس الذي جاهر بالخروج على تقاليد القصيدة العربية و رفضها في كثير من السخرية و التهكم ، و مع ذلك لم يصبه مثل هذا الهجوم النقدي الشرس الذي أصاب أبا تمام على الرغم من أنه لم يتخذ موقفاً معادياً من هذه التقاليد مثلما فعل أبو نواس .
و لم يكم موقف النقد القديم في ذلك موقفاً عبثياً ، فالنقاد أدركوا بوعيهم الفني أن أبا نواس و إن هاجم الأطلال وهزأ بها و استبدل بها الخمر في مقدمات قصائده – فهو لم يزد على استبدال إطار حديث بإطار قديم دون أن ينال شيئاً ذا بال من جوهر لغة الشعر و تراكيبه و صوره . أما أبو تمام ، فهو و إن التزم بهذا الإطار الخارجي الموروث أحياناً ، فإنه سعي إلي تحويل بنية اللغة الشعرية ذاتها و تغيير مسارها نتيجة نزوعه الكثيف إلي الانحراف و التجاوز و كسر المواضعات المألوفة ، و سبك تراكيب جديدة تدخل المفردات اللغوية من خلالها في علاقات تتسم بالغير و انفتاح أفق الدلالة على مستويات مختلفة .
و قد عد كثير من النقاد و معظمهم من أصحاب المرجعيات اللغوية – أن اتجاه أبي تمام الفني قاصمة أصابت معاييرهم في رصد الظاهرة الشعرية و تقويمها بوجه عام ، و اللغة الشعرية منها على وجه الخصوص ، و لم يكن ذلك بالأمر اليسير خاصة و أن تلك المعايير شكلتها جهود متراكمة في دراسة التجارب الشعرية المؤسسة قبل الإسلام و النماذج التي سارت علي نهجهها بعد ذلك .
و أكثر الظن أن هواجس هؤلاء النقاد تعدت حدود الخوف على الشعر و لغته إلي الخوف على اللغة ذاتها ، بل علي عقيدتها الدينية كذلك ، فتعاظمت مخاوفهم من انزياحات شعر أبي تمام و خروقاته التي ربما تجر اللغة علي مستوي التراكيب و الدلالات إلي بقاع جديدة تفقد معها الصياغات اللغوية دلالاتها ، و تتحول التراكيب الموروثة في مرحلة اشكل اللغة الأدبية العربية إبان نزول القرآن إلي بني لغوية مهجورة غير مستعملة ، و من ثم غير مفهومة ، و تحل محلها صياغات جديدة بفعل المجازات و الانحرافات التي تبناها شعر أبي تمام و من ساروا على نهجه.
و ربما تسرب إلي نفوسهم الإحساس بالخوف على لغة القرآن نفسه ، إذ من الممكن أن تتحول في ضوء هذا التصور ، و تحت وطأة تأثير النزوع الكثيف نحو الانزياح إلي لغة مسجدية بعيدة عن حياة الناس و عن استعمالاتهم في كلامهم ؛ و لم لا ؟ أليست هذه سنة اللغات جميعاً إذا تغيرت التراكيب و ترسخت المجازات و ثبتت دلالاتها تحولت بفعل الزمن و كثرة الاستعمال إلي معان حقيقية ينسي الناس أصولها اللغوية ، و ينقلب المجاز حقيقة لا تلبث أن يعدل عنها بفعل شيوع انزياحات جديدة تستهدف معيارية اللغة و تنتهك انتظامها.
صدر شعر أبي تمام إذن عن تصور مغاير للغة ، قام عليه مشروعه الشعري التجديدي الذي أكسبه عداوة اللغويين و نقاد الأدب المحافظين الذين أشربت نفوسهم طاقات المشروع الشعري الموروث و تشكلت أذواقهم من جمالياته .
و يري محمد أبو شوارب أن هذا المشروع التجديدي الذي ما نسب لغير أبي تمام حتي ليقال : " مذه الطائي " ؛ هو المدرسة الفنية التي عرفت في العصر العباسي باسم " مذهب البديع" ؛ و ليس يخفي أن مصطلح البديع لا يعني ما يفهمه الناس اليوم من دراسة سبل تحسين الكلام لفظياً و معنوياً ، و إنما انصرف مفهوم المصطلح في ذلك العصر إلي توصيف مذهب شعري جديد بإزاء الشعرية المحافظة التي اصطلح علي تسميتها "مذهب الأوائل" الذي تجسدت ملامحه الفنية في جملة الخصائص الشعرية التي ينتظمها مفهوم " عمود الشعر" .
و قد اتخذت الشعرية الجديدة ، أو اتخذ النقاد لها مصطلحاً دالاً علي توجهها و هو مصطلح " البديع" و هو في أصل دلالته اللغوية يعني : " المخترع علي غير مثال" و كأن هذه المدرسة الجديدة تنكر بنوتها للتقاليد الموروثة ، أو كان النقاد ينكرون أبوة الشعر القديم لها . و رما نستطيع في ضوء هذا التصور أن نفهم قول ابن الأعرابي ( 150 – 231 هــ) ، العالم اللغوي المعروف حينما أنشد شعراً لأبي تمام : " إن كان هذا شعراً فما قالته العرب باطل " .