استقبال رمضان
بقلم : د محمد فتحى راشد الحريرى
الإستعداد لشهر الصوم عادة توارثتها الأجيال في المجتمعات الإسلامية منذ أقدم العصور.
وهذه العادة المتجذرة سببها تمجيد الشهر العظيم وتقديسه، فهو شهر القرآن الشريف، شهر التوبة والمغفرة وتصفيد الشياطين، والعودة الصادقة إلى الله.
الأسرة تكون في انشغال وحركة دائبة، وتشغلها أمور عدة:
الصائمون الجدد في الأسرة.
شراء بعض المواد الغذائية.
تجهيز بعض الوسائل المساعدة على الاستيقاظ المبكر للسحور.
الاتفاق مع (المسحراتي) ليوقظهم في الموعد الذي يحددونه له.
الاتفاق مع الأرحام لتناوب تناول طعام الإفطار بين العائلات.
تحديد المسجد الذي ستؤدى فيه الصلوات، وبالأخص صلاتي التراويح والفجر.
فالصائمون الجدد لهم التشجيع والتحفيز، وتنتظرهم الهدايا القيمة.
أما المواد الغذائية المطلوبة، فهي بحسب المستوى الإقتصادي لكل عائلة، فطموح الأسرة الفقيرة لا يتعدى بضع (لفات) من قمر الدين، والتمر هندي والبطاطا وقديد بعض الخضراوات (البندورة والكوسا والباذنجان ….)، وبعض الحبوب المعتادة.
أما الأسر الثرية فحدث ولا حرج.
ومن الوسائل المعينة على الاستيقاظ المبكر، ساعة المنبه المعروفة ذات الجرس الكبير من أعلاها،
، والمسحراتي يتم اختياره والاتفاق معه أيضا، يعطى كل يوم شيئا من الطعام، وهو يجوب الطرقات والحارات ليلا بصوت شجي:
يا نايم وحد الدايم ….
وتناوب الولائم عادة يقصد بها التواصل الأخلاقي وصلة الأرحام، ويجب أن تحتوي مائدة الوليمة شيئا من اللحم، وهو عادة ديك أو دجاجة، أو شيء من لحم العجل أو الخروف، والأسرة الثرية تذبح خروفا كل يوم، وتهدي منه الأرحام.
أما المسجد، فغالبا ما يكون واحدا في القرية ولا مجال للإختيار، وإنما يتم الاتفاق مع أحد العلماء الأجلاء لإعطاء درس (محاضرة) كل يوم عصرا، يتحلق المصلون حوله بخشوع ويقوم باختيار موضوع للدرس كل يوم يتناسب مع قداسة الشهر وجلالته …
وقبل صلاة العشاء يتحلق المصلون المبكرون في المسجد حول أحد العارفين، الذي ينشد قصيدة البوصيري (نهج البردة) وهم يرددون وراءه:
مولاي صل وسلم دائما أبدا *** على حبيبك خير الخلق كلهم
وفي المساء، ترسل غالب العائلات وجبات طعام إلى المساجد، وهذه الوجبات يتناول منها الفقير والغني على حد سواء، وهناك وجبات ترسل إلى الجيران والأرحام والأصدقاء، حتى أن الصائم يستطيع أن يعرف طعام جميع العائلات من خلال مائدته، فعلى مائدته عينات من طعام جميع الجيران الأرحام والأصدقاء.
وفي رمضانات الشتاء حيث الليل يكون طويلا تتم الزيارات العائلية وصلة الأرحام والتواصل مع المجتمع، ومن كان لديه فضل مال فيقوم بأداء العمرة، استدلالا بالحديث الشريف وهو أن عمرة في رمضان تعدل حجة!
وجرت العادة في حياة سلفنا الكريم على أن يجمعوا مبلغا من المال في كل يوم جمعة من المصلين في المسجد، ينفذ هذه المهمة أحد الثقات الصالحين، وتوزع المبالغ على العائلات المستورة قبيل صباح عيد الفطر المبارك، ويسمون عملهم (جبر خاطر العائلات الفقيرة)، وهم عادة ممن لا يسألون الناس إلحافا، وممن يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف.
وفي حياة أسلافنا كانت أيام رمضان أيام جد وعمل ونشاط، لا يعكرها النوم المكثف _ كما اليوم _ ولا تدنسها الوجبات الدسمة والإسراف في الموائد، بل شعارها البساطة في كل شيء.
لذلك كنا نخرج من رمضان ونحن في حال أحسن مما كنا عليه قبل حلوله،
رمضان كان شهر الطاعة بامتياز، ولم يكن شهر التبذير والإسراف والعصبية والغضب، كان أحدنا يستقبل عصبية الطرف الآخر بابتسامة عريضة قائلا : (اللهم إني صائم)) !!!
اللهم بلغنا رمضان وأعنا فيه على الصيام والقيام وحفظ الفرج واللسان، وتقبله منا سالما من الأخطاء والذنوب والمعاصي ..
اللهم احفظنا وأعد علينا ليالي رمضان بالبركة وأيامه بالسلام والأمن والإيمان، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.