سوق مطرح.. عندما تحكي الأسواق تفاصيل التاريخ
مسقط "المسلة" …. إذا كانت الأسواق في كل الأماكن هي احدى المعالم الثقافية والحضارية في الدول فإن سوق مطرح من أهم المعالم الحضارية في العاصمة مسقط ومن بين أشهر الأسواق التقليدية والأثرية في منطقة الخليج العربية ولذلك يكون السوق ضمن روزنامة أي زائر وسائح لمسقط ليس في زيارته الأولى فقط بل حتى أولئك الذين يزورون السلطنة بشكل مستمر ولا تكون الزيارة في العادة من أجل التسوق وحده، بل لأمر بعد آخر، إنها زيارة للتاريخ وتنفس عبق الماضي ومحاولة استعادة تفاصيل المكان فعلى الرغم من التطور الهائل الذي شهدته مطرح إلا أن السوق ما زال يحتفظ بالكثير من معالمه القديمة وهناك يستطيع الزائر فعلاً أن يفتح صفحات الماضي ويقرأ تفاصيلها ففوق كل مصطبة من مصاطب السوق حكايات وحكايات.
ويتشابه سوق مطرح في تخطيطه مع الأسواق العربية الإسلامية القديمة، وترتبط نشأته بتكون التجمعات السكانية والتجارية حول ميناء مطرح القديم حيث يأتي ذكر سوق مطرح في الكتب التاريخية باسمه العام أو بأسماء أقسامه الفرعية، مثل: سوق الحلوى، وسوق الحدادين وسوق الثياب، وسوق الظلام.
وكان السوق في بداياته كما تورد الموسوعة العمانية ساحات مفتوحة تمتد من مدخل مطرح "الدروازة" إلى شاطئها وتباع فيه البضائع الواردة إلى الميناء والمنتجات المحلية ومع الوقت صار لكل بضاعة مكانها الخاص فظهر سوق المواشي وسوق الحلوى وسوق البز وسوق الحدادين وغيرها ثم بني حولها سور كبير كان مدخله الرئيس دروازة مطرح ولما بني سور اللواتيا بدأت معالم السوق تتشكل فظهر بداية الفرع الأصلي من السوق وهو يعرف بسوق الظلام.
كما كان أصل سوق مطرح حجرات متفرقة من البيوت السكنية التابعة لسور اللواتيا خصصت لبيع البضائع والمواد الغذائية وتخزينها، وتدريجياً فتحت للحجرات أبواب منفصلة لتصبح دكاكين تظل على السكك الخارجية وسقفت السكك بعدها بالألواح الخشبية والسعف لتحمي الناس من الشمس وكانت هذه الممرات معتمة في أماكن منها ولذا جاءت تسمية المكان بسوق الظلام ثم رفعت أرض الدكاكين حتى لا تدخلها مياه الأمطار وصار لكل دكان مصطبة مكونة من اثنتين أو ثلاث درجات وعرضت البضائع على الدرجات حتى يتمكن المتسوقون من رؤيتها دون الاضطرار إلى الدخول إلى الدكاكين.
ولما ازدهر ميناء مطرح في بداية القرن العشرين الميلادي شهدت مطرح نمواً تجارياً واقتصادياً وأصبح سوقها أشهر سوق في عمان وكان السوق مصدر الدخل الرئيس للسكان واتخذ ملجأ في حالات الكوارث والحروب كما حصل إبان الغزو البرتغالي لعُمان وعندما تعرضت الحامية البريطانية إلى نار مدفعية البارجة اليابانية في الحرب العالمية الثانية وأثناء طوفان مطرح في نهاية أربعينات القرن الماضي.
ويشغل السوق مساحة إجمالية قدرها 131700متراً مربعاً وبه عدة مداخل تتوزع على جهاته الأربع ويقع مدخله الرئيس في جهته الشمالية المواجهة لساحل البحر والكورنيش وميناء السلطان قابوس ويقع مدخله الكبير الذي كان المدخل الرئيس للسوق فيما مضى في جهته الغربية مواجها لمطرح الكبرى ودروازة مطرح.
ويفضل البعض أن يطلق على السوق اسم /سوق الظلام / رغم أن هذه التسمية تطلق بالتحديد على الجزء الذي يمتد من مسجد اللواتيا إلى /خور بيمبة/ وفيه بالفعل دكاكـين مكتظة بحيث لا تترك المساحة الضيقة للأزقـة والسكك بداخله فرصة لدخول ضوء الشمس وهناك تسمية أخرى لهذا السوق بشقيه الغربي والشرقي التي تفصل بينهما فتحة /خور بيمبة /وهي /السوق الصغير/ و/السوق الكبير/ و/سوق الظلام /هو السوق الصغير أما السوق الكبير فهو سوق الجملة.
وهناك الكثير مما يجذب الزائر الى هذا المكان من بينها العمق التاريخي والحاضر الجمالي والتاريخ يحكي عن معبر قديم نحو مواطن الرزق في الأماكن البعيدة حيث شواطىء الهند وإيران وباكستان وغيرها تنتظر المبحرين من الزرقة المواجهة للسوق لتقلهم الى بلاد بعيدة، حاملين معهم ثمار التمر والليمون التي كان يشتهر بها الشمال العماني واللبان من الجنوب وهناك بعد جمالي في السوق إذ قامت بلدية مسقط بترميمها وتجميلها بعد أن تعرضت لهزات زمنية طبيعية وأخرى غير طبيعية منها الحرائق لأن السوق مغلقة وأي تماس كهربائي قادر على أن يشعل عشرات المحلات الصغيرة المكدسة ببضائع قابلة للاشتعال خلال ساعة واحدة يضاف الى ذلك أنه في مواسم الأمطار يفيض البحر بمياهه ليغرق مداخل السوق فتتجول المياه البحرية في كل الممرات بينما يطل البائعون من (الرفص) المرتفعة بنظرات تترقب موظفي البلدية ليزيحوا عن المشترين الطمي وما ألقاه البحر في طرقات البشر.
ويدرك الداخل الى سوق مطرح تلك الجماليات التي زينت أرضية السوق وسقفها خاصة الأحجار الصغيرة المصفوفة بعناية بينما السقف يبدو لوحة /موزاييك /طويلة أخذت من التراث العماني ملامحها وحمت السوق من الأمطار مضيفة بهجة جمالية ورؤية بصرية عميقة المدلول ويجد فيها الزائر الغربي فسحة تصوير طويلة لاقتناص تلك الزخارف والتشكيلات التقليدية الموحية بعمانيتها.
وللسوق مداخل عدة وسكك ضيقة لا تحسب حين يقال بوابتا السوق ويقصد بهما تلكما الواجهتان الواقفتان أول السوق وآخرها واحدة تفتح وجه السوق ناحية البحر والأخرى صوب المدينة وبالقرب منهما مكانان للجلوس حول فنجان قهوة يقدمه «المقهوي» المتجول بابريقه الملتهب حيث أسفله جمر يجعل القهوة زكية الرائحة على الدوام وأمام إحدى الجلستين باب صغير يؤدي الى سكة صغيرة تسمى سوق الظلام وهي جزء أساس من سوق مطرح الواسع وسكة الظلام لا تتسع لمرور أكثر من شخص كما هي الحال في سوق زنقة /الستات بالإسكندرية/ وعلى ضفتيها يجلس كبار السن في مشهد غاية في العفوية .
وبوسع الزائر أن يستوعب ذلك الخليط الغرائبي من روائح و العطور والبهارات فبين مسافة وأخرى تفوح رائحة اللبان الزكية من مادته الخام أو المحروق في المجامر وبحكم المساحات الضيقة فان الرائحة تبقى جلية وواضحة للسائرين فالسير وحده متعة حتى من دون شراء ومن يفلت من شراء الحلوى العمانية الشهيرة خصوصاً من عشاقها الخليجيين فإنه لن يجد مفراً من اللبان وبين هذا وذاك محلات تقدم شتى البضائع الرخيصة المـعروضة أمام أعين وأيدي المارة وتلك الغالية المخبوءة داخل المحلات كالفضيات والتراثيات التي يقبل عليها الأوروبيون كثيراً ويتيح لهم تنوع المشغولات الفضية العمانية خصوصاً الحلي التقليدية فرصة الاختيار والظفر بما يرونه أجمل تذكار من بلاد الشرق والأساطير.
وفي أي وقت تزور سوق مطرح تجده مكتظاً وبحركة مستمرة وهو يتميز بالتنوع ما بين المشغولات اليدوية كالفضيات والخناجر والاسلحة اليدوية القديمة والأقمشة التقليدية وبين الجديد من الملابس الجاهزة والأحذية وغيرها.
وكان بناء السوق في السابق من الطين وسعف النخيل وهي المواد التي كانت تلائم ارتفاع درجات الحرارة وظروف البيئة الصعبـة في ذلك الوقت وقد قامت بلدية مسقط أخيرا بتجميله وتجديده من خلال تزيينه بزخارف مستوحاة من الملامح العمانية مستخدمة في ذلك خامات من البيئة المحلية ليحافظ على طابعه الشعبي المميز بالإضافةإلى قيام البلدية برصف طرقاته وسككه وأزقته لتوفير الراحة للمرتادين والمتسوقين وزوار السوق.