قَها ، القهوة
بقلم – د . محمد فتحى راشد الحريرى
القهوة ، في لغة الجذور من الجذر ( ق ه ا \ ق ه و ) يطلقها العرب على الخمرة .
أما سبب التسمية فلأنها تُقْهي ، أي تذهب بشهوة الطعام ، تُشبع شاربها أو تمنحه إحساس الشبع . والقهوة شجيرة موطنها الأصلي في اليمن والحبشة ومنطقة القرن الثيوبي ، وللأسف استبدلها أشقاؤنا في اليمن بنبتة القات ، وقد ذكرت الموسوعة العربية العالمية ما يشير إلى أن القهوة لم تعرف عند العرب في الجاهلية ولا في صدر الإسلام ولا في العصر الأموي لأنها لم تدخل جزيرة العرب إلا في القرن السابع الهجري الموافق للقرن الثالث عشر الميلادي. عرفها أهل اليمن، فمكة ومنها إلى القاهرة وإسطنبول فالعالم. ومع أن قهوة البن لم تكن معروفة عند العرب قبل القرن السابع الهجري إلا أن كلمة (قهوة) كانت موجودة في اللسان العربي كاسم من أسماء الخمرة ، وعند بدء استعمال شراب البن شغلت حيّزا من تفكير الفقهاء ، فمنهم منْ حَـرَّمها ، وقال في ذلك أحدهم متندِّراً :
قهوة البنِّ حُـرِّمتْ *** فاشربوا قهوة العنب
وأكثر استعمالات لفظ ( القهوة) هو للخمرة ، وحديثا بعد أن عُرِفت خواص البن ، وبدأ العالم باستعمال شراب البن ، أُطلق على هذا الشراب اسم " القهـوة " ، أو أطلق الاسم على حبيبات البن نفسها ، بل أطلِق الاسم على المكان الذي تُقَدَّم فيه القهوة ، فقالوا شربنا البنَّ في القهوة ، أو المقهى والمقاهي !!!
تقول العرب : أقهـى المرءُ من الطعام ، إذا اجتواه وقلَّ طُعمه ، إقهاءً ، فهو مُقْهيّ ،
وقهي من الطعام يقْهي قِـهـى ( كذلك) .
وهو في عيشٍ قاهٍ أي رفيه .
و"قَـهْ " : حكاية ضرب من الضحك ، ويُضَعَّـف فيصير " قهقه" ونطلقها على المستغرق في الضحك مع صوت واضح عالٍ معروف !
والقاهـي : المُخْصِبُ في رَحْلِـه ، وتطلق على الحديد ( الحادّ) الفؤاد المستطار ، أي فؤاده قوي جريء .
والقهْوان : التيس ضخم القرنين (1) .
والفيروزابادي خالف ما قدمناه فقال :
أقهى : دام على شرب القهوة (أي الخمرة )وأطاع السلطان والجمهور قالوا : أقهى اذا اجتواه .
بينما يقسِّ ابن فارس في مقاييس اللغة هذا الاجتواء فيقول :
اجتواه من كثرته عنده حتى يتملأ عنده فيجتويه ( يعافه) ، إذ ( القهوُ ) أصلاً يدل على الخصب والكثرة الوفيرة ، فالمخْصِبُ قاهٍ ، وفلان في عيش قاه رفيه مترف ..
وأقهى من طعام عافه لكثرته فاجتواه (2)…
والخمرة تقهي عن الطعام فسميت قهوة ، ولاحظ شاربو البن أن شراب البن يحمل الصفات نفسها أي يُقْهـي ويصد عن الطعام ، بل يتولد لدى شارب القهوة إحساس بالشبع . والبن يساعد علي إستهلاك السكر بالجسم مما يقلل من إحتمال الإصابة بمرض السكر ولاسيما النوع الثاني الذي يصيب البالغين. لأن القهوة فيها مادة تحول السكر لطاقة وليس لها صلة بالإنسولين. ويمكن معها تقليل جرعات دواء السكر.والقهوة بها أملاح معدنية كالماغنسيوم والبوتاسيوم وغيرها والتي لها قيمة غذائية . وتناولها بكميات كببرة ترفع الكولسترول وتزيد نخر العظام . والقهوة لها آثار حيوية متعددة في تقليل خطر تشكل الحصى ولا ترفع ضغط الدم في المرارة. ولوحظ وجود انخفاض في خطر أمراض المرارة بنسبة 40% بين الرجال الذين شربوا ثلاثة فناجين من القهوة العادية يوميا, مقارنة بالذين لم يشربوها, وارتفعت نسبة الانخفاض هذه إلى 45% عند الرجال الذين شربوا أربع فناجين أو أكثر من القهوة يوميا .وجميع طرق تحضير القهوة أظهرت هذا الانخفاض.والأثر الوقائي يرجع إلى مادة الكافيين لا سيما بعد أن لوحظ عدم وجود ارتباط بين استهلاك القهوة الخالية من الكافيين أو الشاي بأمراض المرارة. شرب القهوة بكافة أنواعها تفيد مرضي السكر والمرارة . وبالعودة إلى حديثنا الجذوري ،
يقول ابن منظور صاحب لسان العرب ، مستعملاً الجذرين ( ق ه و) و ( ق ه ي ) معاً :
قْهى عن الطعام واقْتَهى ارتدَّت شهوتُه عنه من غير مرض مثل أَقْهَمَ يقال للرجل القليل الطُّعم قد أَقْهَى وقد أَقْهَم وقيل هو أَن يقدر على الطعام فلا يأَكله وإِن كان مشتهياً له وأَقْهَى عن الطعام إِذا قَذِره فتركه وهو يَشْتَهيه وأَقْهَى الرجلُ إِذا قلَّ طُعْمُه وأَقْهاه الشيءُ عن الطعام كفّه عنه أَو زَهَّدَه فيه وقَهِيَ الرجل قَهْياً لم يشته الطعام وقَهِيَ عن الشراب وأَقْهَى عنه تركه ، وقال أَبو السمح : المُقْهِي والآجِم الذي لا يشتهي الطعام من مرض أَو غيره وأَنشد شمر :
لَكالمِسْكِ لا يُقْهِي عن المِسْكِ ذائقُه ***ورجل قاهٍ مُخْصِب في رحله
وعيشٌ قاهٍ رَفِيهٌ والقَهةُ من أَسماء النرجس( زهر الوديان المعروف)، والقَهْوة الخمر سميت بذلك لأنها تُقْهِي شاربها عن الطعام أَي تذهب بشهوته
،وفي التهذيب أَي تُشبِعه . قال ابو الطَّمَحان يذكر نساء : فأَصبَحْنَ قد أَقْهَين عني كما أَبَتْ ***حِياضَ الإِمدَّانِ الهِجانُ القَوامِحُ
وعيش قاهٍ بيِّن القَهْوِ والقَهْوةِ خَصِيبٌ ،قال الراجز :
راحَتْ كما راحَ أَبو رِئــالِ *** قاهِي الفُؤادِ دائبُ الإِجْفــالِ
واليوم يعتبر العرب القهوة رمزاً من رموز الكرم والتفاخر والضيافة. فتقديمها للزائر إشارة تكريم. ومتى قدم وأهل الدار بصدد ارتشافها رحبوا به ودعوه إليها بقولهم : تفضل أهلا وسهلا. . وقد حظيت بالاحترام عند معدّيها وشاربيها على حدٍّ سواء. وقد نتج عنها منظومة سلوكيات لغوية ترافق عملية وطرق تقديمها للآخر على امتداد ساعات النهار وفي مختلف المناسبات الاجتماعية من استقبال وأفراح وأتراح.
وبالطبع داخلت القهوة بعض المعتقدات الشعبية خاصة في منطقة لواء حوران والبادية ؛ ومنها اعتبارهم كبّ القهوة فأل خير وتفويرها خير أيضا
. لكن البعض يسارع الى انتقاد هذه المقولة: "كبوا القهوة من عماهم وقالوا الخير إجاهم". ومن التقاليد العربية المتبعة في طلب يد فتاةٍ ما من أبيها للزواج أن يمتنع أهل الخاطب عن شرب القهوة قائلين: "قهوتكم مش مشروبة إلا إذا لبيتوا طلبنا الغالي"، وعندما يتوافقون، تُدار فناجين القهوة. ويبدو أن مراسم الزواج عند الحورانيين (جنوب سورية وشمال الأردن) تقضي أن يمتنع الخاطبون عن شرب القهوة الى أن يقول لهم والد العريس: " اشربوا قهوتكم… إلي جيتوا فيه ابشرو بيه" .
وفي البيئات المدنية ، يطلبون الى العروس تقديم القهوة الى أهل العريس، ويفترض بها أن تكون متماسكة ولا ترتجف أو تضطرب أو تدلق القهوة على الصينية لأنه يعني اضطرابها. فإذا كان ثمّة قبول شربوها وأردفوا قائلين: بفرحتِك يا عروس أو نفرح منّك يا عروس أو مبروك أو مشروبة بالفرح وما إلى ذلك من عبارات مألوفة ، ومتى استشعروا رفضاً؛ اعتذروا عن شربها قائلين شكراً ممنوعين عن القهوة أو قهوتكم مشروبة. وفي المقابل ينبغي القول في مناسبات الحزن، ولدى الانتهاء من ارتشافها: الله يرحمه أو خاتمة الأحزان.
وعلى فنجان القهوة تتم مراسم الصلح في البادية ، ونزع فتيل الخصومات ، وتدار القهوة عادة في المضافات ( الديوانيات) حيث يعدها صاحب المجلس مستخدما أدوات خاصة تسمى ( المعاميل) وهي مجموعة من الدلّات ، دِلال نحاسية أو من القيشاني ومحماسة وجراب لحبَّات البن ، وجرن القهوة ( النَجْـر – المهباج – المهباش – العزام ) وعملية سحق حبات القهوة بعد التحميس( التحميص) لها طقوس ونقرات باستخدام مطرقة الجرن ( يده) وهذه النقرات الإيقاعية تشكل معزوفة جميلة مطربة مرقصــة !
ولايؤذن عادة لأي شخص بصنع القهوة ، بل يجب أن يمر باختبارات آخـرها أذن كبير القبيلــة ، ولفناجين القهوة مسميات ( فنجان الضيف وفنجان المعزب وفنجان السيف و … )
ولتقديم القهوة طقوس فهم يبدؤون من اليمين ، أو يخصون كبير القوم ثم يتابعون على يمينه تأسيا بالسنة المشرّفة ، ولا يجوز تناول الفنجان من المضيف باليسرى أبدا ، بل إذا رفع الرجل يسراه لتناول الفنجال يمتنع المُضيف عن إعطائه إياه ، ويقول له مغضبا : يمناك !!
وحيث تدار القهوة العربية البدوية او الحورانية المعتقة يتم إنشاد الشعر وخاصة شعر النبط وقد يترافق مع معزوفات على آلة وترية تسمى الربابة ، ومما يقال :
يا قهــوة نشف بها البن والهيل *** سمّارهـــــا من خدام القبيلة
سوادها مصنوع من جناح الليل *** للنشامى معها عِشرة طويلة
ومما يُسْتملح أيضا من أشعارهم النبطية :
يا ما حَـلا الفنجال مع سيحـة البال *** في مجلسٍ ما فيه نفسٍ ثقيلـــة
هذا ولـد عَـم وهـذا ولـد خــــــال *** وهذا صديق ما لقينــا مثيلــــــه
ولنا في القهوة العربية الحورانية المرّة بكل تواضع (3):
القهــوة المــــرّةُ يهنيكِ الهـــــوى *** إني عشِـقْتُ مذاقهــا في ألْـقِـهـــــا
فنجانُ قهـــوةَ في الصبـاح يعيدنـي***فأظلُّ أذكرها وإن لمْ ألْـقَـهـــــــــــــا
وأظلُّ مشـتاقـاً لِـلَـثْـمِ بَهـارِهــــــــا *** ما أروع الهال المُعَـطّـر بالْقَـهــــــا
——————————- حاشيــــة :
(1)- محيط المحيط للبستاني والصحاح للجوهري والعين للفراهيدي .
(2)- الفيروزابادي في القاموس المحيط ومقاييس ابن فارس .
(3)- الضمير (ها) في كلمة أذكرها يعود على صانعة القهوة وهي زوجتي المصون حفظها الله تعالى .