بقلم: علاء الدين أبو زينة
"الرحلة"، بمعناها الشعبي المحلي، هي أن يشتري رب العائلة شيئاً من اللحم والفحم (أكثر أو أقل)، ويضع عائلته في سيارة خاصة أو مستأجرة، ويقصد باب الكريم. فإذا كان من عمّان مثلاً، قصد وجهات قريبة وسار على جانب الطريق العام وحاول في الطرق الفرعية، علَّه يجد فسحة لعائلته. وفي الغالب، سيتعب وهو يسير ويجد الأماكن محجوزة بلا انتهاء. وقد يسعفه الحظ فتغادرَ عائلة ويسارع فيحتل مكانها.
لذلك، لا تعدم في أيام العطلات رؤية العائلات التي تتنزه على جانب الطرقات في العراء، تحتَ شجيرات وحيدة نحيلة من صف واحد أحياناً، لا تقي من شمس ولا تصنع جزء الخضرة في ثالوث "الماء والخضرة والوجه الحسن". وتكون الفكرة من الجلوس هناك على الأرض الوعرة العارية، "تغيير الجو" والهروب من حيطان المنزل وغابات الإسمنت الكالحة في الأحياء التي بلا حدائق، إلى أرض عارية بلا حدائق.
لكنّك تُغوى إلى شيء مختلف أحياناً. إنهم يرسلون لك على الهاتف ويحدثونك عن أماكن فيها أكواخ للمبيت، ببعض الخصوصية والترف القليل. أو أنك تفكر في إسعاد أولادك بمبلغ أرسله الله إليك، فتذهب بهم إلى "نُزُلٍ على بحر"، حتى يروا عياناً ذلك الشيء الأزرق الذي يرونه على الشاشة وفي الصور فقط.
وتجرب أن تتصل بأصحاب السياحة لتقيسَ إمكانياتك، فيصفعونك بالأسعار إذا كنت متوسط الحال، وتسقط الفكرة كلها من رأسك إذا كنت ضعيف الحال. أما الميسورون فلا يسوحون غالباً في البلد، ويفضلون الجِنانَ على الأرض في الشرق والغرب. وقد تساءل صديق زائر أفهموه "بجلافة" على الهاتف أن قضاء ليلة واحدة مع أطفاله في مكانٍ قريب يكلف خمسمائة إلى ستمائة دينار: "لماذا يفرضون استئجار مكان مبيت منفصل لطفل تحت العاشرة؟ ألا يشجعون السياحة عندكم؟!".
لعلهم يشجعون. لكن أصحاب السياحة إما مُكتفونَ بفيض الزوار من خارج البلد وليسوا في حاجة إلى تشريفك؛ أو مثقلون بالضرائب والرسوم التي لا بد أن يأخذوها من جيبك، علّ أعمالهم تنجو. أما التعامل "اللاسياحي" مع الناس، فحدث ولا حرج. وهكذا، قد يعيش البعضُ عمرَه من دون أن يرى الأماكن الجميلة في بلده لأن "اللي معوش ما يلزموش". وسيكتفي بسماع الوصف ويتخيل فقط في جملة ما يتخيل. وسوف يرى ضيوف البلد الميسورين وهم يزورون مكاناً في جواره محجوباً عنه، مع تساؤل الشاعر: "أحرام على بلابله الدَّوحُ/ حلال للطيرِ من كل جنس".
المفارقة أن زيارة منتجعات حقيقية رائعة في بلدان مجاورة بضع ليال سيكلف أقل من ليلة واحدة في المكان الذي على مرمى حجر. وستستطيع أيضاً أن تقول أنك سافرت وركب أولادك الطائرة أول مرة، وشاهدوا البحر الأزرق العميق العريض. وسوف تطعمهم في أماكن جميلة ما يكلفك مثيله هنا راتب شهر أو نحو ذلك تدفعه في نصف ساعة. وحتى "الطعام الشعبي" المحلي أصبح "سياحياً" أحياناً وأماكنه من الممنوعات على الفقراء!
يفترض -إذا كان الافتراض يغني عن الناس شيئاً- أن تكون للمواطن الذي يحب أن يرى بلده تخفيضات تتيح له بعض الترويح عن النفس ووسيلة لإسعاد أولاده. ويفترض أن تعمل السياحة الداخلية -إذا نشطت- على تحريك الأشياء في البلد، من تشغيل المطاعم والفنادق وأماكن التنزه، إلى تعريف أبناء البلد ببلدهم في كل زاوية منه، إلى الإنعاش الضروري للنفوس المثقلة بأعباء الحياة والشحن اليومي. وفي النهاية، ينبغي أن تفيد هذه الحركة الاقتصاد ككل، وتعوض عن الرسوم والضرائب التي تحرم المواطنين من السياحةِ، والسياحةَ من الناس، وتخرب الاقتصاد في النهاية.
ثمة كل الأسباب للاعتقاد بأن البلد يحتمِلُ توجيه جزء مهم من اقتصاده إلى قطاع السياحة والخدمات. لكن ذلك يتطلب التفكير الاستراتيجي والمؤسسي المثابر وبعيد النظر. وسوف يحتاج إلى الاستثمار في البنية التحتية للسياحة -بمعنى تطوير البنية التحتية للبلد وخدمة أكثر من غرض. ويحتاج قطاع السياحة إلى التشجيع الحكومي والأخذ بيد الأعمال. وينبغي إشراك كل المواطنين في المشروع، من حيث التعاطي معه كشيء تنعكسُ عوائده عليهم في النهاية، ومن حيث إدراج السياحة في ثقافة البلد. وأقل شيء، يجب أن يألف المواطن أماكنِ بلده، وأنْ لا يبقيه ضيقُ ذات اليد خارج الباب، تحت الشجيرة الهزيلة في السهل العاري على جانب الطريق.
نقلا عن الغد