الوطن (و ط ن) في الجذور
بقلم – د محمد فتحى راشد الحريرى
جاء في اللسان لابن منظور – مادة (و ط ن): الوطن المنزل تقيم به وهو موطن الإنسان ومحله وقد خففه رؤبة في قوله المعروف:
أوطنت وطنا لم يكن من وطني، لو لم تكن عاملها لم أسكن بها ولم أرجن بها في الرجن.
قال ابن بري: الذي في شعر رؤبة كيما ترى أهل العراق أنني أوطنت أرضا لم تكن من وطني، والجمع أوطان وأوطان الغنم والبقر مرابضها وأماكنها التي تأوي إليها قال الأخطل:
كروا إلى حرتيكم تعمرونهما *** كما تكر إلى أوطانها البقر
ويقال: أوطن فلان أرض كذا وكذا أي اتخذها محلا ومسكنا يقيم فيها والميطان الموضع الذي يوطن لترسل منه الخيل في السباق، وهو ما يسميه الناس اليوم بالمضمار. والجمع مياطين.وهكذا فالوطن: مكان إقامة الإنسان ومقره، وإليه انتماؤه ولد به أو لم يولد. ويطلق أيضا على مربض البقر والغنم الذي تأوي إليه. والجمع أوطان.
وكلمة (أوطاني) تذكرني بالنشيد الذي كنا نهتف به صغارا أثنا الاجتماع الصباحي:
بلاد العرب أوطاني *** من الشام لبغدان
ومن نجد إلى يمن *** إلى مصر فتطوان
وهذا بالطبع قبل أن تصير الأوطان سجونا ومعاقل يمارس فيها القهر والتعذيب على أجزاء منها مثل (أبي غريب) و (سجون غرز وصيدنايا وعدرا والفروع المرقمة في دمشق وأكنافها).
وحب الاوطان وبلاد النشأة الأولى جبلة راسخة في نفوس العقلاء، ويقول العلماء: الحر بفطرته يحن إلى وطنه كما تحن الإبل إلى أوطانها، والصقور إلى أوكارها، والوحوش إلى غاباتها .. ومحبة الوطن دليل الوفاء والشهامة والنبل، بل هي دليل إنسانية الإنسان،
وقد قال احد الشعراء:
سقى الله أرضا لو ظفرت بتربها *** لكحلت بها من شدة الشوق أجفاني
جاء في صحيح البخاري ومسلم في قصة بداية نزول القرآن المعظم على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وذهابه إلى ورقة بن نوفل (قريب السيدة خديجة عليها السلام)، وقول ورقة للنبي – صلى الله عليه وسلم -: ليتني أكون معك إذ يخرجك قومك، فقال – صلى الله عليه وسلم -: (أو مخرجي هم؟)؟!. يقول السهيلي في الروض الأنف: يؤخذ منه شدة الألم عند مفارقة الوطن، فإنه – صلى الله عليه وسلم – سمع قول ورقة أنهم يؤذونه ويكذبونه فلم يظهر منه انزعاج لذلك، فلما ذكر له الإخراج تحركت نفسه لذلك، لحب الوطن وإلفه !!!
وتروي كتب السيرة أنه لما هاجر الصحابة – رضي الله عنهم – إلى المدينة أصابتهم الحمى حتى بلغت ببعضهم إلى الهذيان من شدتها، فقال – صلى الله عليه وسلم -: (اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد) وسأل الله أن ينقل حماها إلى مكان آخر ، قال السهيلي: وفي هذا الخبر وما ذكر من حنينهم إلى مكة ما جبلت عليه النفوس من حب الوطن، وهو ما يعبر عنه العامة في بلاد الشام عامة وحوران خاصة بقولهم: ((مسقط الرأس غالي))، والواقع أنه ليس حنينا إلى مسقط الرأس بقدر ما هو الحنين إلى مكان النشأة ومرابع الطفولة!
وجاء في صحيح البخاري وغيره، أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان إذا أراد أن يرقي مريضا بل أصبعه بريقه، ثم وضعه على التراب، ثم مسح به المريض، ثم قال: (بسم الله، تربة أرضنا، بريقة بعضنا، يشفى سقيمنا، بإذن ربنا)، وهذا الحديث دليل على أن الإنسان متعلق بوطنه تعلقا شديدا حتى أنه يمرض إذا فارقه، كما مرض الصحابة لما فارقوا بلدهم مكة المكرمة وسكنوا دار الهجرة، المدينة المنورة. ويؤثر عن العربي القديم أنه إذا أراد السفر كان يصطحب معه شيئا من تراب وطنه، فإذا ما أصيب بصداع أو غثيان أو بشيء مما يصيب بدن المسافر سارع إلى حفنة التراب وشمها، فذهب عنه ماكان يعانيه!
ومن الأدلة على مشروعية حب الأوطان أيضا أن البلد المسلم إذا داهمه عدو كافر وجب على كل أهل البلد الدفاع عنه وصار الجهاد فرض عين عليهم، لا يجوز لأحد ترك الدفاع عن وطنه المسلم، كما هو نص الفقهاء في جميع المذاهب، وقد قال الله عن بني إسرائيل : {وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنآئنا} سورة البقرة (264). وترى في الفقه الإسلامي أن الإخراج من الوطن من العقوبات التي قررها الإسلام بالنظر لقسوة فراق الأوطان:
فالتغريب عن الوطن من العقوبات الهامة شرعا، وإذا أكره الإنسان على أمر أو طرد من بلده جوز له العلماء التماس المعاذير، وأنه يدخل في قول الله سبحانه: {إلا من أكره وقلبه مطمئن) سورة النحل 106،
ومن الأدلة قوله سبحانه: عن المحاربين وقطاع الطريق: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض} سورة المائدة (33). قال الشافعي: يكفيه مفارقة الوطن والعشيرة خذلانا وذلا …
ومن الأدلة أن الشارع جعل عقوبة الزاني البكر أن يبعد عن وطنه، فيغرب عاما، كي يتجرع مرارة الذنب الذي وقع فيه ..
وحين تحتفل دولة من الدول بيومها الوطني فإنها تستلهم جميع معاني الانتماء للوطن، وتجدد له الولاء، وتبرأ من كل من يعاديه ويكيد له، وهو أو ما جال في خاطري وأنا أشارك مواطني دولة الأمارات في عيدهم الوطني، والواقع يعز علي أن أقول (عيدهم) لأنه عيدنا جميعا، من خلال ما أستشعره وأنا أقيم على هذه الأرض الطيبة من ربع قرن من الزمان !!!
تذكرت اليوم ما قالته د.نورة السعد (صحيفة الرياض) عن الوطن والانتماء:
ما الذي يعنيه الانتماء وحب الوطن؟ وكيف يمكن للمواطن أن يرتقي بمستوى انتمائه وحبه للوطن؟ فالشعور بالانتماء كما هو متعارف عليه ينشأ من مجموع المشاعر الفردية التي تشكل رأيا عاما وتماسكا وتكافلا في السراء والضراء لمجموع الأفراد وما يربطهم بكيانهم.
هذا الشعور بالانتماء يوجد لدى الحيوان في صورة غريزة تجعله يشعر من غير تفكير بالانتماء إلى القطيع الذي هو منه، وهذا الانتماء في مستوى الحيوان فيه الكثير من الغريزة وقليل من الإدراك والمعرفة، أما عند الإنسان فينقلب هذا الشعور إلى (وعي) تغذيه المعرفة والثقافة حتى ينتقل من حيز الغريزة إلى حيز التفكير المختار.
هذا الوعي الذاتي هو الذي يتحول في مراحل حياة هذا الفرد، إلى قوة، ويتميز به كل فرد عربي على وجه الخصوص، ذلك ان الانتماء هنا هو انتماء إلى (عقيدة) بالدرجة الأولى .. ثم يتحول إلى (واقع) أي ينتقل من مستوى الشعور إلى مستوى السلوك .. ولكن ليس أي نوع من السلوك، إنه السلوك المضاء بنور العقيدة التي تشع في مختلف حنايا جسد المجتمع ومؤسساته .. وهذا ما يميزنا عن غيرنا من أمم الأرض) … لقد كان الانتماء بلغة الجذور والأجداد عندنا يعني الانتماء للقبيلة والولاء لها ولشيخها وأفكارها وآمالها وآلامها و …… وهو ما عبر عنه شاعر:
وما أنا إلا من غزية إن غوت *** غويت وإن ترشد غزية أرشد
ولما أكرمهم الله بالعقيدة وصار لهم دولة وحضارة وكيان وطني انقلب الولاء، فصار الولاء للوطن بقيمه وعقيدته ومنظوره الجديد !!!
فتحية إلى الأوطان في كل آن وحين،،، تحية إلى الوطن حين ولدت وحين أموت وأجد فيه مكانا يؤوي جثماني، وحين أرد إليه _ _ على الراجح في .صندوق جميل لماع، وأحصل على مكرمة سلطانية تبيح لي أن أدفن في أرضه !!!
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين