ضوء على تل العمارنة بعد مائة عام على اكتشاف نفرتيتي
برلين " المسلة " … تخصيص ألمانيا طابقا كاملا في المتحف الجديد الذي افتتح أواخر عام 2009 في برلين، من أجل عرض التحف المصرية الفرعونية، دليل على اهتمام الألمان الكبير جدا بالآثار المصرية وتاريخ مصر الفرعوني. فعندما وضعت فكرة ترميم هذا المتحف الواقع بالقرب من متحف برغامون ببرلين ولحقت به أضرار فادحة خلال الحرب العالمية الثانية، تم إقرار فكرة عرض الآثار المصرية فيه، لذا خصص لهذه الآثار طابق بكامله، ومن يدخله يشعر حقيقة بأنه عاد آلاف السنين إلى الوراء، ويعيش ثقافة لن نشهدها بعد الآن، فالفراعنة تركوا آثارا لا يمكن لأي حضارة في العالم منافستها؛ فعلى مساحة 3600 متر مربع تُعرض 2500 قطعة أثرية مهمة للحضارات الفرعونية، من بينها قطع لم تُعرض من قبل ظلت أسيرة أقبية المتحف، منها مجموعة من ورق البردي وقطع أثرية عُثر عليها في منطقة تل العمارنة، لكن التحف الأكثر شهرة وتجلب حتى الآن آلاف المعجبين بها هي بالطبع التمثال النصفي للملكة الفرعونية نفرتيتي. وتعمد المهندسون تنظيم هذا القسم على 3 مرتفعات بشكل يسهل على الزائر التجول والانتقال من قسم إلى آخر، في الوقت نفسه ربط التطورات التاريخية في المملكات الفرعونية دون أي أشكال أو تجاوز لمرحلة تاريخية تصل إلى 4000 سنة، مع التعريج على الحضارة السودانية.
ونتيجة ترميم العديد من الأضرحة الفرعونية، تمكن القائمون على المتحف من عرض تحف رائعة لحضارة الموت وحضارة الآلهة والحياة اليومية لعامة الشعب يومها، أيضا عرض تاريخ علم المصريات وتوضيحه.
كما يضم القسم أوراق البردي المعروضة في واجهات زجاجية مع إضاءة متقنة، وتم اختيار مجموعة كبيرة من النصوص المهمة والأعمال الأدبية التي تعكس الحركة الأدبية من فترات حكم الفراعنة بشكل يسهل فهم التتابع الحضاري والتاريخي، ويكتمل بعرض تماثيل لأدباء وعظماء هذه الفترات في القاعات المجاورة.
وعند ولوج قسم المصريات، يطل على الزائر مجموعة كبيرة من التماثيل، إلا أن الفراعنة المعروفين خُصص لهم زوايا خاصة، منها تمثال للكاهن تانيت وآخر زوجته ممسكين بالأيدي، وهي تلبس فستانا أبيض مكشوف الذراعين، وكأنه تصميم أحد مصممي الأزياء الفرنسيين. ويعود التمثال إلى العائلة الخامسة، أي قبل 2400 سنة، ومن الفترة الزمنية نفسها لوحة منحوتة على حجر كلسي لصيادين يحاولون اصطياد فرس نهر النيل، وما زالت الألوان محافظة على جودتها، كذلك الطيور المحلقة.
والتحفة الأخرى التي تجلب الأنظار ويقف أمامها الزائر محدقا تمثال الملكة تييه المسماة بالزوجة العظمى، وكانت المفضلة لدى أمنحوتب الثالث فرعون الأسرة الـ18 ووالدة إخناتون وجدة توت غنخ أمون، ويظهر على التمثال الملامح النوبية، رغم الاعتقاد القديم بأنها قد تكون آسيوية الأصل، وكانت كاهنة في معبد الإله مين، وذات مقام كبير.
وفي المتحف الجديد، لم يوضع توت عنخ أمون إلى جانب زوجته الملكة نفرتيتي، بل فارقها للمرة الثانية؛ بعد وفاته وفي المتحف البرليني؛ إذ وُضع تمثاله وهو من الحجر الجيري في زاوية ينكسر الضوء فيها على ملامح وجه متناسقة مع جبين منحسر قليلا، وتقريب طرف الأنف وانفراج في الشفة السفلى. وعثر منقبون ألمان على هذا التمثال في تل العمارنة عام 1920 واشتراه تاجر القماش البرليني جيمس سيمون يومها، وأهداه إلى متحف المصريات في العاصمة الهتلرية برلين. وكان هتلر من المعجبين بالتمثال؛ فهو (حسب قوله) يدخل السرور إلى قلبه، لذا قرر إنشاء متحف يخصص جناحا للملكة.
وهذه التحفة ما زالت تسحر الألباب وخصص لها في المتحف غرفة شبه مظلمة ووضعت في صندوق زجاجي كبير سلطت عليه أضواء خافتة فزاد من سحرها وجمالها. ويقف الكبار، كما الصغار، أمام هذا التمثال مسحورين، وكل واحد يحاول عبور الزمن من أجل الجلوس إلى جانبها أو سرقة نظرة إليها.
ولقد اكتُشفت هذه التحفة في الـ12 من شهر ديسمبر (كانون الأول) من عام 1912 في منطقة تل العمارنة، على يد منقب الآثار الألماني لودفيغ بورشارد. وتشير دراسة وضعها عالم المصريات الألماني هيرمان شلوغل إلى أن نفرتيتي لم تكن شخصية عادية، بل محرك ثورة ثقافية سياسية، وثبت ذلك في مخطوطات عُثر عليها في معبد الكرنك، مما ساعد في نشر الديانة التوحيدية في مصر، في القرن الـ14 قبل الميلاد.
* نشأتها ووفاتها أحجية
ورغم مرور آلاف السنين على وفاة الملكة نفرتيتي، فإن جهود المنقبين الألمان وغيرهم متواصلة للعثور على أي أثر يدل على أصلها ومكان نشأتها، وهناك اختلاف في رأي العلماء؛ فالمعلومات الألمانية تقول إنها لم تعش في مدينة اشتان أتون، بل وُلدت في عام 1370 قبل الميلاد في منطقة ميتاني، وهي اليوم سوريا، وكانت ابنة ملك، وكان اسمها يومها تادوشبا، وفي صغرها أُحضرت إلى مصر، وكان عليها الزواج من الفرعون أمينوفيس الثالث، إلا أن الفرعون توفي بعد العرس بأيام، لذا تزوجت من ابنه وخلفه أمينوفيس الرابع، عندها حملت اسم نفرتيتي، أي «الجميلة الآتية».
بحسب بحوث فريدريكه زايفردي مديرة المتحف المصري ومجمع الورق البردي للمتاحف الوطنية في برلين، فإن اسم نفرتيتي ورد كثيرا في الرسوم التي اكتُشفت وزينت جدران المعابد وبعض الأعمدة، كما ساد الاعتقاد بأنها تنحدر من عائلة مصرية عادية، كانت لها مرضعة اسمها تي، ولا توجد معلومات عن والدها، وكل ما هو معروف أنها كانت فائقة الجمال وشاركت في الحكم زوجها إخناتون الذي أسس عاصمة جديدة اسمها أخيتاتون، وهي اليوم تل العمارنة التي اكتشف فيها عالم الآثار الألماني بورشارد التمثال النصفي لنفرتيتي، ومئات القطعة الأثرية القيمة. وقد تمكنت الملكة من مد سلطتها عبر إقامتها الطقوس الدينية في المعابد.
وردا على الأقوال بأن هناك وثائق تشير إلى أن نفرتيتي حكمت مصر بعد وفاة زوجها في الخفاء، أي في فترة حكم فيها الفرعون سمنخ كارع، الذي ورث العرش وكان الغموض يحيط به أيضا، أجابت زايفريد: «كل ذلك ليس سوى نظريات، مع ذلك فإن كل معلومة عنها تثير فضول الناس، خاصة محبي التشوق والمغامرات».
* استرجاعها مستحيل
أما بشأن استرجاع مصر لملكتها، فالسجال ما زال دائرا؛ فعند افتتاح المتحف الجديد أكد كثير من المسؤولين الألمان أن التمثال الذي يدور حوله نقاش ساخن، وطالبت مصر باسترجاعه، هو ارث إنساني وثقافي عالمي وملك الجميع، وتساءل أحدهم: ماذا كان سيحصل للتمثال لو أعيد إلى مصر، في ظل الاضطرابات والفوضى التي حصلت وسُرقت خلالها المئات من القطع الأثرية من المتحف الوطني في القاهرة؟! بالطبع كان سوف يختفي كما اختفت قطع أخرى مهمة، أو دُمّر لأسباب تعصبية دينية، كما حصل لتماثيل بوذا في باميان بأفغانستان، أو بيع لأحد الأغنياء ليضيفه إلى تحفه في القبو.
وتمسك ألمانيا بالتمثال عكسه حديث صحافي لهارمن بارزنيغر مدير المؤسسة التراث الثقافي البروسي، ويتبع متحف المصريات إليه، فقد رفض كل مناقشات تحريضية تتعلق باسترجاعه بالقول: «إننا نمد يدنا إلى كل من يريد التعاون معنا، وندعو الطرف المصري للمشاركة في البحوث العلمية المتعلقة بالآثار التي اكتُشفت من تل العمارنة». وردا على ما يقوله الطرف المصري وغيره من أن الباحث وعالم الآثار الألماني لودفيع بورشارد الذي أشرف على الحفريات قبل مائة عام حاول إخفاء التمثال عندما عثر عليه، أكد أن «كل طرف شارك في التنقيب يومها حصل على قطع أثرية محددة، وهذا ما كان متفقا عليه، وهذه معلومات لم تأتِ من الهواء».
وبهذا ينفي هارمن بارزنيغر بشكل قاطع أيضا أقوال التاجر البرليني برونو غوتربوك الذي كان على خلاف مع العالم الألماني بورشارد، واتهمه في رسائل كتبها يومها بأنه أخفى القطع المهمة، وأظهر الأقل أهمية، كي يستولي على تمثال نفرتيتي. فحسب تصريح بارزنيغر، قورنت الرسائل بمصادر موثقة أخرى، وأظهرت أنه قد كتبها بعد أكثر من 10 سنوات، وأكدت عكس ما ادعى تماما، وكانت علاقته ببورشارد غير جيدة.
مع ذلك، فإن مصير الملكة الفرعونية غير معروف حتى الآن، والسبب في ذلك الضغوط التي بدأت تمارسها بعض الأطراف المصرية في الأروقة البرلينية لإعادة النظر بعودتها إلى القاهرة، فهل سيُعاد فتح هذا الملف من جديد أم أن الملكة ستبقى إلى الأبد في برلين، كما يرغب المتحف الجديد، الذي يجني من حضورها أموالا طائلة؟ فعند زيارة المتحف يقصد معظم الزوار، وعددهم يتجاوز الـ500 ألف سنويا، في الدرجة الأولى، القاعة التي وضع فيها التمثال النصفي من أجل الغور في التاريخ وقضاء بضعة ثوانٍ أو دقائق في حضور أعظم ملكة في تاريخ الشرق الأوسط، ولو عادت، فسوف تفقد ألمانيا كنزا عالميا تم التأمين عليه بمبلغ 390 مليون دولار.
الشرق الاوسط