الخوش والبوش وأخواتهما
بقلم: د محمد فتحي راشد الحريري
في لغة العرب كثير من الانماط اللفظية واللهجات التي يظنها كثيرون – اليوم – بعيدة عن العرب والعربية، وهي من الصميم العربي، ومر معنا أمثلة كثيرة على ذلك، فمن أساليبهم التي لا تزال متبعة حتى اليوم في حوران والحجاز والخليج "الكشكشة" وهي إبدال حرف الكاف للمؤنث جديد بحرف، ينطق بين الجيم وال (الفصل) اللاتينية، ومثاله:
(عينج وعيونج) تقال للمرأة بدل (عينك وعيونك)، وهي لغة بني تميم وبني أسد، وكانوا ينشدون تمثيلا للكشكشة:
فعيناش عيناها، وجيدش جيدها … ولونش إلا أنها غير عاطل
وأصل البيت لذي الرمة الشاعر المعروف:
فعيناك عيناها وجيدك جيدها … ولونك لولا أنها غير عاطل
قاله لما رأى غزالا شاردا، فخاطب الغزال قائلا: إن التشابه كبير بينك وبينها (أي محبوبته) في العيون والعنق واللون، ولكن هي تتزين بالحلي، وأنت أيتها الغزال عاطل أي: بلا زينة، وبالتالي هي فاقتك جمالا وزينة. (انظر: الأغاني للأصفهاني- (ج 18 / ص 29)، وفقه اللغة للصاحبي – (ج 1 / ص 8).
ومن أساليبهم غير الكشكشة التلتلة، وهي كسر حرف المضارعة (حروف أنيت في بداية الفعل المضارع) كقولهم: إشرب، نذهب، تركع، يسرع، وهي للأزد وقبائل أخرى. وقبائل ليس لديهم (ال) التعريف، انما يستخدمون (أم) التعريف، وشاهدنا المشهور حديث (ليس من أمبر أمصيام في أمسفر).
ومن المفردات الغريبة، والتي يظنها كثيرون غير عربية ما أسوقه في المقطع التالي:
(حصلت هوشة بين الحمولتين في الكفر القبلي، حيث تهاوشت خيلهم وفزعت الهوش والبوش وفاعت ريحة الموت). والمعنى السريع للمقطع:
"حصل شجار بين القبيلتين في القرية القبلية (الجنوبية ببلاد الشام حسب موقع الكعبة المشرفة، وكل ما كان بجهتها فهو قبلي) حيث هجمت الخيل وخرجت الاغنام والابل وانتشرت رائحة الموت (كناية عن اقتراب حصول قتل ودماء)".
والآن اليكموها جذورا معجمية:
الهوشة: هاش القوم: هاجوا واضطربوا. وهاش أهل الحرب بعضهم على بعض: خفوا ونهضوا، وتهاوشوا. وهاشت الخيل في الغارة: نفرت وترددت. ويقولون: وقعت هوشة في السوق، والهوشة: الفتنة والاضطراب، وفي حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه {إياكم و هوشات الليل الأسواق وهوشات}. انظر: كتاب مختار الصحاح لأبي بكر الرازي- (ج 1 / ص 705) واللسان لابن منظور والمحيط، وأساس البلاغة للزمخشري- (ج 2 / ص 6). وأكد هذا المنحى إمام اللغة والأدب القاسم بن علي الحريري، أبو محمد (446-516 ه) في كتابه الرائع (درة الغواص في أوهام الخواص) ص 180 وقانا الله وإياكم شر الهوشات.
(الهوش والبوش): ويطلق في الإمارات على المجموعة من (الإبل)، وهو عربي فصيح صحيح، جاء في لسان العرب: سمعت التميميات يقلن الهوش والبوش: كثرة الناس والدواب، ودخلنا السوق فما كدنا نخرج من هوشها وبوشها، قال الليث: البوش: الجماعة الكثيرة. تهذيب اللغة – (ج 4 / ص 127) وفي منطقة الخوانيج والعوير وحتا من إمارة دبي في الامارات يسمون الجمال (بوش) والأغنام (هوش) وهي تسمية فصيحة تماما. قال الزمخشري في أساس البلاغة: جاؤوا في هوش وبوش، وهو الجمع والكثرة، وقد بوشوا (مادة ب و ش) وفي الهوش ساق لنا ما قاله الشاعر الطرماح:
كأن الخيم هاش إلي منه =. =. = نعاج صرائم جم القرون
وهاشت الخيل في الغارة نفرت وترددت. اه. كلام الزمخشري.
والشيء بالشيء يذكر، نذكر هنا الخش والخشوش: ففي مصر يقال: خش أي ادخل وهي عربية فصيحة تماما، (الجذر خ ش ش) يقال انخش في القوم أي دخل فيهم، والأخشة جمع خشاش يوضع في أنف البعير ليسهل ادخاله الى مأواه، وخشاش الطير والدواب صغارها التي تدخل وتخرج بلا صعوبة! (لنتذكر حديث المرأة التي دخلت النار في هرة حبستها، فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض).
أما الخوش فمختلفة عن الخش، وهي أيضا عربية كما أظن وأكاد أجزم، واستعمل العرب (خاش) بمعنى دخل، لكن هل الالف فيها من الواو (خ و ش)؟! سؤال يحتاج الى بحث جديد، جاء في اللسان:
وخاش الرجل دخل في غمار الناس وخاش الشيء حشاه في الوعاء وخاش أيضا رجع وقوله أنشده ثعلب:
"بين الوخاءين وخاش القهقرى"
فسره بالوجهين جميعا، قال ابن سيده: ولا دليل فيه على أن ألفه منقلبة عن واو أو ياء و "خاش ماش" (1) مبنيان على فتح جزأيه، قماش الناس وقيل قماش البيت وسقط متاعه، قلت هو ما يعبر عنه الحورانيون اليوم بلغتهم الدارجة (مراقع الفقس). أما من قال أنها فارسية فقد أبعد النجعة، وهناك كثيرون من المستغربين وأنصاف الباحثين ينسبون كثيرا من المفردات العربية الى الفارسية وغيرها، ومن يطيعهم يجرد العرب من ثلث لغتهم، ويهبها إلى الفرس والشعوبيين ومن دار في أفلاكهم الوهمية!
قد تكون عبارة (خوش بوش) مستعملة في فارس، ولكنها ليست بالمعنى المتداول لدينا، فعندنا يقال للناس إذا كانوا على غاية الانسجام والتوافق وذهاب الكلفة بينهم في الخلطة (هم خوش بوش) اصلها عبارة تفيد دخول الجمال كقولنا: خش البعير وخشت البوش،
وعندهم لا تفيد هذا بل هي عبارة مدح فقط (2)، وليست للتوافق والانسجام، وليس من طبيعة الفارسية أن تتقبل هذا الاشتقاق والبيان، بل هي من عادة العرب، فكما أن دخول البوش الى الحظيرة (الحوش) هو أمر جميل تأنس اليه النفوس وتمتدحه، لأنه دخول منسجم ومنتظم، فكذلك هؤلاء الناس منسجمون في تعاملهم (دخول وخروج) فقالوا عنهم: (خوش بوش) وهو أمر يفهمه مربو الأبل، فليس أجمل في نظرهم من الأبل!
وفي اللسان حول (خ و ش): الخوش صفر البطن وكذلك التخويش والمتخوش والمتخاوش الضامر البطن المتخدد اللحم المهزول وتخوش بدن الرجل هزل بعد سمن وخوشه حقه نقصه، فالمشاكلة بين هذا وبين ما ذهبنا اليه أن الذي يضمر يذهب بطنه ويدخل في جسمه وهو أمر في غاية الوضوح والدلالة، ومن معاني الخوش: الخاصرة، رواه أبو العباس عن ابن الأعرابي وعن عمرو عن أبيه وللإنسان خوشان أي خاصرتان …
ومن أخوات البوش والهوش والخوش، الروش، قال في تاج العروس:
الروش أهمله الجوهري وقال ابن الأعرابي: هو الأكل الكثير. والروش أيضا: الأكل القليل، ضد. قلت (أي الزبيدي): هذا خطأ عظيم وقع فيه المصنف (صاحب القاموس) فإن الذي نقله ثعلب عن ابن الأعرابي أن الروش: الأكل الكثير والورش: الأكل القليل فهو ذكر الروش ومقلوبه، فيكون الروش للكثير والورش للقليل.
ومن الأخوات أيضا الحوش، وهو في البادية والحجاز واليمن ومصر والخليج يعني الزريبة التي تؤوي الحيوانات الاهلية، أما وجه الاشتقاق فنلاحظه في قراءة معجميه، لما جاء في مختار الصحاح مثلا:
ح و ش: حاش الصيد جاءه من حواليه ليصرفه إلى الحبالة وبابه قال وكذا أحاشه وأحوشه و احتوش القوم الصيد إذا أنفره بعضهم على بعض واحتوش القوم على فلان جعلوه وسطهم و حاش الإبل جمعها وساقها و انحاش عنه نفر ويقال حاش لله أي تنزيها له ولا يقال حاش لك قياسا عليه وإنما يقال حاشاك و حاشى لك و حوشي الكلام وحشيه وغريبه.
ومن الأخوات أيضا (الكوش) قال في اللسان: الكوش رأس الفيشلة وكاش جاريته أو المرأة يكوشها كوشا نكحها، وفي التهذيب كاش جاريته يكوشها كوشا إذا مسحها وكاش الفحل طروقته كوشا طرقها، وقال ابن الأعرابي: كاش يكوش كوشا إذا فزع فزعا شديدا.
قلت وأعرف جماعة تربطني بهم علائق وشيجة يتكنون باسم (كوشان)، وفي حوران كلمة (كوشان) تختلف عن (كوشان: سند تمليك الأرض كلمة تركية) وعن (الكوشان) وهو شدة الدخول والخروج، عدم المكث بالدار، يقولون: فلان كواش أي كثير الدوران والخروج من بيته! وعلى اعتبار الفزع من معاني الكوش، فالاشتقاق سليم والله أعلم.
ومن أخواتها أيضا الشوش: وهو معجميا الاختلاف واختلاط الامر مثل (هوش) تماما، وبينهم شواش أي اختلاف كما في القاموس. وقال الحريري في (درة الغواص): يقال شوشت الأمر وهو مشوش، والصواب أن نقول هوشته فهو مهوش، لأنه من الهوش وهو اختلاط الشيء، ثم قال رحمه الله: وما ذكره من التشويش وإن كان تبع فيه بعض أهل اللغة ووقع في كلام الزمخشري وأهل المعاني كقولهم (لف ونشر مشوش) وقد شاع من غير نكير: وفي شعر ابي اسماعيل الحسين بن علي الطغرائي (قتل في 315 ه):
بالله يا ريح إن مكنت ثانية =. =. = من صدغه فأقيمي فيه واستتري
وإن قدرت على تشويش طرته =. =. = فشوشيها، ولا تبقي ولا تذري
والعامة من قديم الزمن الى يومنا يقولون لذؤابة الرأس "شوشة" وفي مصر يقولون: غرق الى شوشته، وكذلك في الشام، وفي حوران يقولون بالإضافة للشوشة "كشة" و "كوشة"، والجوهري صاحب الصحاح – وهو إمام في اللغة – قال: التشويش هو الاختلاط وقد تشوش عليه الأمر، وأيد ذلك الليث، رغم أن الفيروزابادي صاحب القاموس قال أنه وهم. لكننا نقول إن الليث حجة آكد من صاحب القاموس، وما تقوله القنوات التلفازية عن تشويش البث أرى أنه صحيح، وتبقى (شوش) رغم كل ما سقناه من حجج لفظة مشوشة، سرى معناها إلى لفظها، والله أعلم.
ومنها أيضا (النوش) قال الجوهري في صحاحه: قال ابن السكيت: يقال للرجل إذا تناول رجلا ليأخذ برأسه ولحيته: ناشه ينوشه نوشا. قال: ومنه المناوشة في القتال، وذلك إذا تدانى الفريقان. ورجل نؤوش، أي ذو بطش. والتناوش: التناول. والانتياش مثله. وقوله تعالى: "وأنى لهم التناوش من مكان بعيد" يقال: أنى لهم تناول الإيمان في الآخرة وقد كفروا به في الدنيا. ويقال: نشته خيرا، أي أنلته (3).
ومنه قول الشاعر دريد بن الصمة عن أخيه عبد الله:
فجئت إليه والرماح تنوشه === كوقع الصياصي في النسيج الممدد
ومن أخوات (الخوش والبوش) أيضا العوش عند قبائل الأزد (ولا يزالون في عمان) والأزد يعلون الواو فيقولون (المعوشة) بدل المعيشة، ذكرها ابن منظور وأنشد لحاجر بن الجعد:
من الخفرات لا يتم غذاها === ولا كد المعوشة والعلاج (4)
وهكذا عالجنا في بحثنا هذا المفردات التالية:
خوش، بوش، هوش، نوش، شوش، روش، حوش، كوش، موش
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه والتابعين والحمد لله رب العالمين.
—————————————- حاشية:
(1) وجاء في تاج العروس للزبيدي في مادة (ماش موش) ومنه قولهم: الماش خير من لاش، أي ما كان في البيت من قماش لا قيمة له خير من خلوه أي من بيت فارغ لا خير فيه فخفف لاش لازدواج ماش. وفي المحكم: خاش ماش بفتحهما وكسرهما: قماش الناس وقد تقدم في خ و ش قال ابن سيده: وإنما قضينا بأن ألف ماش ياء لا واو لوجود م ي ش وعدم م و ش. ومما يستدرك عليه أي على صاحب القاموس، والكلام لا يزال للزبيدي: ذوات المواش كسحاب: درع من دروعه صلى الله عليه وسلم أخرجه أبو موسى في مسند ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال ابن الأثير ولا أعرف صحة لفظه. وموش بالضم: قرية من أعمال خلاط بإرمينية ومنها أحمد بن عمر ابن عفان الموشي العطار حدث عن أحمد بن عبد الدائم. وموش أيضا: جبل في بلاد طيئ في شعر أبي جبيلة:
صبحنا طيئا في سفح سلمى === بكأس بين موش فالدلال
هكذا يروى قال ياقوت الحموي في معجم البلدان: هكذا وجدته بضم الميم في القرية والجبل وليس له في العربية أصل على هذا فإن فتح كان مصدر ماش الرجل كرمه يموشه موشا إذا تتبع باقي قطوفه فأخذها. انتهى. وموش أيضا: لقب موسى بن عيسى البغدادي (هذا القول منقول عن أبي عاصم النبيل). وموش بالفتح لقب: عبد الرحمن بن عمر بن الغزال الواعظ سمع ابن ناصر وطبقته ومات سنة 615. وموشة بالضم: من قرى الفيوم. وبالضم أيضا: أخرى من قرى الصعيد. والموشية بالضم وتشديد الياء: قرية كبيرة في غربي النيل بالصعيد المصري.
(2) يؤكد مذهبنا، قول ابن منظور في لسان العرب 5/142 خسرو أي واسع الملك، وكذلك ورد في القاموس المحيط 2/127 وتاج العروس 7/1446، وقال أيضا: هكذا ترجموه وتبعهم المصنف ولا أدري كيف ذلك فإن خسرو أيضا معرب (خوش رو) كما صرحوا بذلك، ومعناه عندهم حسن الوجه والراء مضمومة، ف (خوش) بالفارسية للمدح فقط كما قلنا، حسن الوجه.
(3) ومما يستملح ذكره هنا محمد بن أحمد الحصيري النوشي بالفتح من أهل مرو عن أبي الخير محمد بن أبي عمران وعنه ابن السمعاني مات سنة 420 ه، هكذا ضبطه ابن الفرضي. قلت (القائل هنا هو الزبيدي وليس العبد الفقير الى الله تعالى): نوش بالفتح ويقال أيضا: نوج بالجيم عوضا عن الشين: عدة قرى بمرو منها نوش بايه ونوش كنار كان ونوش فراهينان ونوش مخلدان. وشيخ ابن السمعاني نسب إلى الثانية. ونوشان هو أبو موسى عمران بن موسى بن الحصين بن نوشان الفقيه الجبوشاني النوشاني الكاتب بأستوا عن إبراهيم بن أبي طالب وغيره مات سنة 339 ه.
(4) وينظر غير اللسان: تهذيب اللغة 3 60، للأزهري (ت 370 ه) وتاج العروس للزبيدي ع و ش.