الإسكندرية "المسلة" …..صدر عن وحدة الدراسات المستقبلية بمكتبة الإسكندرية العدد الخامس والثلاثون من سلسلة "مراصد"، والذي يضم دراسة بعنوان "مأزق الهوية في إيران: تحليل تلوي (ما ورائي) كيفي لدراسات نظرية وتجريبية (إمبريقية) حول الهوية"، من إعداد كلٍ من أحمد محمدبور وجليل كريمي وكريم محمودي، ترجمة أمنية الجميل ومحمد عوض، ومراجعة الترجمة لخلود سعيد.
أثارت مشكلة الهوية في إيران الإسلامية في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي ضجة لم تلفت انتباه المسئولين الرسميين والمفكرين إلى المخاطر الخارجية فقط، ولكن أيضا لفتت الانتباه إلى الوضع الداخلي للدولة متمثلاً في الأعمال الأدبية والفنية وما إلى ذلك، الأمر الذى أدى إلى تقييد مثل هذه الأعمال بقواعد صارمة؛ مثل البرامج المختلفة لإذاعة جمهورية إيران الإسلامية، والسياسات والقواعد المتصلة بمنع أو تصريح استخدام الأقمار الصناعية.
وتعد الكتب، والمقالات، والدراسات، والمؤتمرات التي عقدت حول أزمة الهوية، بالإضافة إلى الخطط الحكومية الرسمية، من أبرز مظاهر الأهمية الحيوية لمشكلة الهوية الإيرانية والتصنيفات المرتبطة بها؛ حيث أشار أحد الأبحاث إلى أن 40% من أطروحات رسائل الماجيستير والدكتوراه في العلوم السياسية في ثمانية جامعات في طهران في الفترة من 1991 وحتى 2006 كانت عن الهوية بشكلٍ مباشر أو غير مباشر.
وتسعى هذه الدراسة إلى تحليل تلوي لثلاث أنواع من الدراسات عن الهوية من وجهة نظر أكثر تمايزًا؛ وهي: الدراسات النظرية للهوية علي المستوي العالمي، ودراسات نظرية حول الهوية في إيران، ودراسات بحثية عن الهوية الإيرانية في الحقل الأكاديمي الإيراني، لاسيما أن الباحثين لم يجروا دراسات تحاكي هذه الثلاثة مستويات، وأدى غيابها إلى تنوع نظري وتجريبي "إمبريقي" واستحالة تمثيل وجهة نظر عالمية مُوحدة لها، واستنادًا على ذلك؛ تهدف الدراسة إلى تعريف المقاربات النظرية، والمنهجيات، والعينات الإحصائية والتمثيلية للدراسات، ونتائجها وإنجازاتها وأخيرًا نقدها.
تعتمد الدراسة علي منهج تحليل كيفي تلوي (ما ورائي) يهدف إلى إدماج نتائج دراسات متعددة بهدف إعادة تحليلها وإنجاز تفسيرٍ جديد أكثر شمولية للظاهرة أو الموضوع محل الدراسة. وتحاول منهجية التحليل التلوي دمج نتائج دراسات كيفية واستخدامها بطريقة أكثر تمايزًا، والغرض الرئيسي منها هو دراسة البيانات لبعض الأبحاث ذات الصلة ونتائجها لإعادة تحليل النتائج وإعادة تفسيرها من منظور جدلي أوسع.
تحتوي العينة الإحصائية لهذه الدراسة على ثلاثة تصنيفات؛ وهي: النظريات العالمية للهوية في علم الاجتماع، والدراسات النظرية للهوية في إيران، والدراسات البحثية حول الهوية الإيرانية في المجال الأكاديمي الإيراني. ويشير معدو الدراسة إلى أن هذا البحث غير معني بصلاحية محتوى الدراسات، فقد اعتمد اختيارها علي وجود كلمة "الهوية" في الموضوع أو سؤال البحث، ولم يتجاوز المدى الزمنى لكل تصنيف الثلاثة أشهر الأولى لعام 2011.
تم تحليل خمس نظريات عالمية، وستة عشر نظرية داخلية، وثماني وثلاثين دراسة بحثية داخلية؛ حيث أتاح حجم العينة المادة الكافية للباحثين لأجراء تحليلهم التلوي الكيفي، وبالرغم من ذلك، يعتقد الخبراء أنه يُمكِن إجراء تحليل كيفي تلوي حتى مع حجم عينة أصغر.
يتناول المستوى الأول من الدراسة النظريات العالمية للهوية في علم الاجتماع؛ وتقول الدراسة أنه يمكن تصنيف جميع النظريات العالمية للهوية وفقًا لثلاث مقاربات مختلفة؛ هي: المقاربة الجوهرية، ومقاربة الخطاب، والمقاربة البنائية. وترى المقاربة الجوهرية خصائص دائمة وأبدية داخل الجنس البشري تضمن الأهمية لوجوده وتُحدِد هويته، واستنادًا على ذلك؛ فإن نظرية الهوية الحديثة تعتبر جوهرية. ويقع في القلب من هذه المقاربة الاعتقاد في حقيقة الجوهر وثباته وعدم قابليته للاختزال، والاعتقاد بالتبعية في دور الجوهر غير القابل للجدل في بناء فردٍ أو كيانٍ محدد.
ووفقًا للمقاربة الثانية؛ فإن كل الحقائق الاجتماعية تتطور وتتشكل في الخطابات، وحيث أن الهويات تجد جذورها في الخطابات، والخطابات ليست بالثابتة ولا المستقرة ولكنها متغيرة وغير مستقرة، فإن تغير موقف الخطاب سيغير الهوية بالتبعية؛ ومن ثمَّ يُمكن لكل فرد أن يكون له أكثر من هوية. وتقبع اللغة في العموم في قلب مقاربة الخطاب.
تنظر المقاربة الثالثة إلى الهوية كبناءٍ اجتماعي؛ وعليه فإن أصل الهوية ومصدرها ليس بالموقع أو المكان المتعالي، ولكنه نتاج للمواقف الاجتماعية والأفعال الإنسانية؛ لذا فالهوية ليست فطرية أو طبيعية أو شيء قائم مسبقًا، وإنما يُعاد إنتاجها بشكلٍ متواصل. وتتعامل المقاربة البنائية مع تكوين الهوية واختلافاتها ومشكلات أخرى ذات الصلة، بالاستعانة بعوامل اجتماعية في الأساس.
أما المستوى الثاني من الدراسة فيتناول دراسات نظرية للهوية الإيرانية، وفي هذا الصدد؛ تشير الدراسة إلى أن تاريخ إيران المعاصر له باع وارتباط طويل بسؤال الهوية، وخطاباتها، وأزماتها، واغتراب الهوية والأخر، والهوية الذاتية، وهو الارتباط القوى للدرجة التي سمحت بإعادة تركيب كل العمليات الاجتماعية، والثقافية، والسياسية، والتنموية، والتحديثية، والدستورية، والانتفاضات الاجتماعية، وحتى الثورة الإسلامية، انطلاقًا من سؤال الهوية.
وتُعد مجلدات من الدراسات النظرية، والبحث العملي والتجريبي، والبرامج الثقافية، وصناعة السياسات والقواعد، مؤشرات مناسبة للتأكيد على أن الهوية قضية أساسية ذات أهمية قصوي في إيران، ولقد تناول العديد من الكُتَّاب الإيرانيين ذائعي الصيت قضية الهوية في أعمالهم؛ ومنهم: بروجردى، وطاجيك، وحيدري، ورجائي، وسروش، وشادومان، وشايغان. وقدحللت الدراسة أعمال العديد من هؤلاء الكتاب وفقًا لمنهجية التحليل التلوي.
ويتناول المستوى الثالث من البحث الدراسات البحثية حول الهوية الإيرانية في المجال الأكاديمي الإيراني، ويتناول هذا الجزء أهم الدراسات ذات الصلة التي تم إنجازها في الجامعات وعلى مستوى الدراسات العليا ومعاهد البحوث الموثوقة، حيث يعرضها للمناقشة والمراجعة من حيث نقاط القوة والضعف في اختيار الإطار النظري، والمؤشرات التي اعتمدت عليها.
وخلصت الدراسة إلى أن النظريات الاجتماعية أكثر فعالية في دراسة موضوعات كالهوية من النظريات في المجالات الأخرى، لاسيما وأن الهوية ظاهرة اجتماعية تمامًا، وبمراجعة قسمين من الأدبيات النظرية والتجريبية عن الهوية في إيران، وبالرغم من مشاكلهما وأخطائهما وعيوبهما، تمكنت الدراسة من رسم نموذج أولي للهوية الإيرانية وأبعادها.
وبشكلٍ عام، يمكن القول أن الأنواع الثلاثة من الدراسات التي تم الإشارة إليها في البحث، تناولت ثلاثة مستويات من تشكيلات الهوية؛ حيث تناولت النظريات العالمية مفهوم الهوية الاجتماعية، وتناولت الدراسات النظرية عن الهوية في إيران الهوية القومية وذلك نظرًا لموقفها الاستعادي من الهوية، بينما تناولت الدراسات التجريبية للهوية في المقام الأول الهويات الفرعية مثل الهوية العرقية، والقبلية، والشخصية، والنوعية، وعادةً ما درست الهوية القومية في علاقتها بالهويات الفرعية، ولذلك بحثت في هذه الأبعاد من الهوية والتي من المحتمل أن يكون لها الأثر الأكبر على تحديد الهوية في المستقبل.
بالإضافة إلى ذلك، أوضحت الدراسات أن مصادر الهوية مختلفة، وهو ما يشير إلى أن تشكيل الهوية الإيرانية يُصوِّر نسيج مهجن ومركب على كل المستويات؛ ومن ثمَّ، لابد أن تأخذ الدراسات عن الهوية عناصرها وأبعادها واسعة النطاق في الاعتبار، وأن تتبع مبادئ صارمة ودقيقة ومهنية في اختيار العينة.