بقلم ك نعيمة طمين
باتنة … تعد الدشرة القديمة بمنعة بباتنة نموذجا للعمارة المحلية الضاربة في عمق التاريخ والتي مازالت قائمة وتثير إهتمام الباحثين وتسحر عشاق فن العمارة بدقة تصميمها وجمال منازلها التي تحمل عدة ميزات لا توجد إلا في هذا المكان من الأوراس حسبما وقفت عليه وأج.
وتنفرد الدشرة الواقعة على بعد 85 كلم جنوب شرق مدينة باتنة بمحاذاة الطريق الوطني رقم 87 الرابط بين باتنة وبسكرة في أعلى هضبة تطل على وادي عبدي الشهير بقدم بناياتها التي تشير أغلب الروايات الى أن أول نواة لها شيدت منذ أكثر من 10 قرون على بقايا آثار رومانية مازالت أجزاء منها بادية للعيان الى حد الآن.
وتوجد الدشرة بقلب مدينة منعة الواقعة في ملتقى واديي عبدي وبوزينة التي سماها الكاتب الجزائري أحمد توفيق المدني جوهرة الأوراس ويقال بأن إسمها جاء من المناعة أي المكان الذي يصعب الوصول اليه لوقوعه في أعلى هضبة تحيط بها الجبال من كل جانب فيما يذهب المستشرق الفرنسي إيميل ماسكري (1843- 1894 ) إلى ان أصلها من موينيا ومعناها باللاتينية صور المدينة.
طابع عمراني أمازيغي محلي لكن يختلف عن ثيقليعث
تتميز بنايات هذه الدشرة التي أغلبها يتكون من طابقين أرضي وعلوي حسب إبن الجهة المهندس المعماري عبد الكريم بودوح بالطابع المعماري الأمازيغي الأصيل إلا أنها تختلف عن ثيقليعث أو المخازن الجماعية المعروفة بمنطقة الأوراس لأنها مخصصة للسكن.
وترجح الروايات حسب المصدر أن يكون مسجد سيدي موسى أول ما أنجز بالدشرة بإقتراح من شيخ صالح حل بالجهة وطلب من الأهالي المتفرقين أسفل الجبل تشييد مسجد في أعلى الهضبة يكون لهم منارة يلجؤون اليها في وقت الخطر ليحمل إسمه بعد ذلك قبل ان تتوسع الدشرة تدريجيا حول البناية الى الأسفل على شكل حلزوني.
أما المواد المستخدمة في بناء سكنات الدشرة التي حرص سكانها منذ القدم على إحاطتها بنبات التين الشوكي فمستمدة من الطبيعة حسب بودوح الذي أضاف بأن "جدران كل بيت مزدوجة بينهما حوالي 40 سنتمتر الخارجي يكون من الحجارة لمواجهة ضربات الأعداء والداخلي يكون من الطين لتلطيف البيت صيفا والحفاظ على حرارة المكان وضمان الدفئ في الشتاء".
أما سقف المنزل والأعمدة التي يستند عليها فتصنع من شجرة العرعار أو ما يعرف محليا بزينبة لإنتشارها بالجهة بكثرة يضيف المتحدث مبينا أن "طريقة البناء في تلك الفترة كانت دقيقة ومتينة مما ساهم في بقائها الى حد الآن لاسيما سقف المنزل الذي يتكون من طابقين حيث يراعى فيه تدعيم الأخشاب بشكل يضمن توزيع الثقل وصمود سقف الطابق الأرضي مهما كان ثقل محتويات الطابق العلوي".
ويعتمد في تهوية بيوت الدشرة يضيف ذات المهندس على نوافذ تنجز في أعلى الجدران لتسهيل خروج الهواء الذي عادة ما يكون كثيفا كلما زاد الإرتفاع فيما تعلق بالقرب منها سلال من الحلفاء توضع فيها البقوليات لتجفف لوقت الحاجة في مواسم الشتاء التي تكون شديدة البرودة.
والمميز أن النوافذ العديدة التي تزين أعالي بيوت الدشرة تأخذ أشكالا هندسية مختلفة مثل الدوائر والمثلثات والمربعات كتعريف ل (هيرفيقين) أو مجموعة العائلات حسب القرابة التي تقطنها لأن المكان- يضيف المتحدث- جمع في يوم ما بحكم موقعه الدفاعي أغلب أعراش الأوراس مثل آيث عبدي وأيث داود و أيث بوسليمان وأيث فرح وكذا أيث سعادة.
مداخل رئيسية للدشرة ونسيج عمراني يحفظ خصوصية الساكنة
تعرف الدشرة بنسيجها العمراني المحافظ على خصوصية من يسكنها حسبما أكده لوأج المهندس في التهيئة العمرانية وتسيير المدن رمزي العقون حيث تنقسم ممراتها الداخلية الى رئيسية يسلكها الرجال وثانوية لهيرفيقين (مجموعة العائلات ذات القرابة) وثالثة فرعية مؤدية لكل منزل وأخرى خاصة للنساء متعارف عليها لدى الجميع.
وللدشرة 5 مداخل رئيسية بعلامات مميزة تحول دون الضياع في أزقتها الضيقة الملتوية التي حدد عرضها بسبعة أذرع وهي مسافة تسمح وقتها بمرور شخص وحماره حسب الذين تحدثت اليهم وأج.
أول مدخل يسمى هامتشيث نعقاب أو شجرة التين والثاني أسقيفة نالقهوة او احة إحتساء القهوة وتطل على وادي عبدي والثالث إينورار وهو جمع أنار ويعني المكان المنبسط الذي تمارس فيه نشاطات الفلاحية والرابع إيغزر نبوراس ويؤدي الى البساتين فيما يطلق على الخامس أغسديس ويطل على حي في الدشرة.
وخصصت بالدشرة حسب المتحدث مساحات لإلتقاء النساء تسمى أبراحث و ممرات بسقف من خشب العرعار للربط بين منزل وآخر تدعى (هاسقيفث) فيما يطل أعلى مكان فيها وهو مسجد سيدي موسى على بساتين متنوعة من الأشجار المثمرة منها المشمش والتين والرمان حيث تدعى بالشاوية هيسرسابين ومعناه المنحدر الذي يخصص للزراعة الجبلية.
وبشرق الدشرة على تلة منبسطة شيدت دار الشيخ أو زاوية بن عباس المعلم الذي عطى بعدا روحيا للمكان حيث تعد من بين أقدم الزوايا بالجهة ومن أوائل الزوايا القادرية على المستوى الوطني و تشكل بنمط بنائها التقليدي العريق أول توسع لقرية منعة بعد الدشرة القديمة.
ويعود تاريخ تأسيس الزاوية حسبما أكده مقدمها الأستاذ عبد المالك بن عباس إلى سنة 1660 من الميلاد بقدوم منشئها الأول المدعو سيدي بوبكر بن سيدي محمد الأكبر واستقراره بقرية منعة مع أسرته قادما إليها من ضواحي مراكش بالمغرب.
ويوجد بالزاوية التي تضم مسجدا شيد على بقايا آثار رومانية ضريحين لولدين من أبناء أحمد باي الذي فر اليها مع عائلته في سنة 1839 بعد عامين من سقوط قسنطينة في أيدي الفرنسيين.
88 سنة بعد تصنيفها كموقع طبيعي الدشرة مازالت تنتظر التصنيف كموقع ثقافي
وعلى الرغم من تصنيفها كموقع طبيعي منذ سنة 1928 إلا ان الدشرة القديمة بمنعة مازالت تنتظر الى حد الآن تصنيفها كموقع ثقافي حيث أكد مدير الثقافة عمر كبور لوأج بأن "الإجراءات جارية حاليا محليا لتحضير ملف التصنيف حتى تستفيد مستقبلا من مخطط الحماية".
ويعمل الكثير من شباب المنطقة في السنوات الأخيرة من أجل التعريف بالدشرة من خلال تنظيمهم سنويا لمهرجان (ثافسوث) أو عيد الربيع حيث يتحول المكان الى معرض ضخم للزرابي والصناعات التقليدية والأواني الطينية وتفتح البيوت للزوار من مختلف انحاء الوطن للتعرف عن قرب على الزخم الحضاري للدشرة وفنها المعماري الأصيل فيما تنظم على مقربة من الدشرة منافسات في الألعاب الشعبية ومسابقات في الفروسية بمنطقة تسريفت التي يقال بأن 99 منبعا مائيا يجريا بها.
وتهدف التظاهرة حسب رئيسي جمعيتي البيئة وحماية التراث بمنعة قلوح سامي وكذا الجمعية الثقافية ثافسوث كباش محمد الى الحفاظ على الدشرة القديمة بكل ما تحويه من تراث معماري وثقافي وإدراجها ضمن التراث الوطني والعالمي.
والدشرة التي تضم أكثر من 300 منزل منها حوالي 150 آهل بالسكان مازالت الى الآن أزقتها الحجرية وممراتها الملتوية تنبض بالحياة لكن ما يحز النفس حسب عدد من الشباب الناشط في الميدان السياحي أن الأسمنت بدأ يتسلل اليها و"نخشى يضيف قلوح سامي أن تضيع ملامح هذا الإرث الحضري".
ويرجح الكثير من المختصين الذين التقتهم وأج أن أب الهندسة المعمارية الحديثة الفرنسي-السويسري شارل إدوار جانيريه-كري المعروف ب لوكربوزييه (1887-1965 ) يكون قد إستنبط الكثير من أفكاره من الميزات التي تتمتع بها بنايات المدن القديمة في الجزائر ومنها الدشرة القديمة بمنعة التي تعاقبت عليها الكثير من الحضارات.
نقلا عن وكالة الانباء الجزائرية