بقلم – شربل بركات
قرأنا الأسبوع الماضي مقابلة مع الأستاذ محمد حسنين هيكل حول "الربيع العربي" أجرتها صحيفة "الأهرام" ووزعها عدد من المواقع الاعلامية, والسيد هيكل من كبار المحللين السياسيين العرب, وقد عايش الأحداث في المنطقة أكثر من ثلاثة أرباع القرن, وكان تولى زمن المرحوم الرئيس عبدالناصر رئاسة تحرير "الأهرام" القاهرية التي تعتبر من أهم الصحف المصرية, بل العربية, وهو اليوم من ضيوف مراكز الاعلام والفضائيات, وله مؤلفات وكتب تختص بالشأن السياسي, ولاسيما في الدول العربية وعلاقاتها الدولية, وقد قدم لكثير من الكتب الصادرة حول المنطقة. من هنا أهمية رأيه بموضوع التطورات الحالية الجارية في أكثر من دولة عربية في ما اتفق على تسميته "الربيع العربي" وهو الذي شارف على التسعين.
السيد هيكل في مقاربته للموضوع بدى بعيدا كل البعد عن النظريات التي تحرك الشارع العربي, والتي أعطته وهجا وجعلته محط أنظار الكثيرين في العالم. والسيد هيكل ينقض كل ما قيل عن رغبة هذه الشعوب بالتغيير ويعود إلى اسطوانة قديمة تاجر بها كل الزعماء والمفكرين العرب, وتتلخص بأن الشعوب العربية ليست صاحبة مبادرة, ولن تكون, وهي دوما تتحرك بتأثير ضغوط خارجية ولا تصل إلى شاطئ أمان.
المشروع الجديد الذي يبشرنا به السيد هيكل هو من زمن لازمة الاستعمار والمتاجرة بالغرب, والقوى العالمية, وهو يعود إلى نظريات المواجهة, ليس بين حاكم كالقذافي أو الأسد مثلا وشعبه, بل بين الشعوب العربية و"السوبرمان", أي الغرب, وكأن هذه الشعوب التي تقتل كل يوم في شوارع المدن السورية هي فقط صنيعة الاستعمار, كما يلذ لحكام دمشق القول.
من الجميل التحدث عن مشاريع ترسمها القوى العالمية ومن البديهي أن يكون لكل شعب أو دولة مصالح, ولا أحد يقول بأن الغرب ليس بحاجة إلى نفط الدول العربية, ولكن هل هذا النفط يوهب من دون مقابل? وهل يوم كان القذافي يتحكم بنفط ليبيا ومداخيله مثلا كان يخدم مشروعا عربيا?
أو هل كان القذافي يبيع النفط الليبي إلى دول غير هذه التي يتحفنا السيد هيكل بأنه اكتشف نسبة توزيع "مكاسبها" من هذا النفط بعد سقوطه? لنكن واقعيين ولنتكلم لمرة من دون عقد الخوف ومركبات النقص, وتعالوا نضع مشروع "سايكس – بيكو" الذي يتحدث عنه السيد هيكل على المشرحة. فماذا كان ينوي العرب فعله بعد سقوط الامبراطورية العثمانية? وماذا فعلت هذه الامبراطورية خلال 500 سنة من حكم المنطقة العربية? ولماذا قامت الثورة العربية ضد العثمانيين?
السيد هيكل كان يعيش في مصر, وكانت مصر خارجة عن سيطرة العثمانيين وهو ولد بالطبع بعد الحرب العالمية الأولى, ولم يعرف مساوئ الحكم العثماني عن قرب, وربما كان عليه أن يسأل من عرف ظلم هذا الحكم وفساده, وبالتالي لماذا قام العرب, ومن الجزيرة, وبالطبع بمساعدة الانكليز, بالثورة على العثمانيين. فمصر كانت تعيش في ظل حكم اسرة محمد علي التي تعاونت مع الفرنسيين منذ نابوليون, وبعدهم مع الانكليز, وتعلمت منهم كيف تبنى الدول وتقاد الشعوب, ليس على الطريقة العثمانية,
بل على أحدث الطرق المعروفة في أوروبا المتطورة آنذاك. وأوروبا تلك كانت مقسمة دولا تتصارع بينها, ولكنها تعلمت من صراعاتها مع بعضها ما يفيد مصالح شعوبها وتمسكت بقيم حضارية تمثلت من جهة بمبادئ "الأخوة والحرية والمساواة" التي كانت أطلقتها الثورة الفرنسية ومن جهة أخرى بمفاهيم العدالة والنظام والديمقراطية البرلمانية التي سادت في بريطانيا مدة طويلة,
ومن هنا اختار المصريون التعاون مع أوروبا بدل العثمانيين. صحيح أن مشروع "سايكس – بيكو" قسم مناطق النفوذ بين فرنسا وبريطانيا, ولكنه كان توج بقرار من عصبة الأمم أوكل لهما مهمة تحضير شعوب هذه الدول للاستقلال, أو ما يمكن تسميته الحكم الذاتي, وهكذا بدأ تنظيم هذه الدول وأنشأت فيها المؤسسات على غرار الدول الأوروبية المتطورة.
ولكن الحرب العالمية الثانية التي أرهقت الفرنسيين والبريطانيين هي التي فرضت تسارع الحركة الاستقلالية حيث لم تكن شعوب المنطقة قد تربت جيدا بعد على أسس الديمقراطية والعدالة والقانون ما جعل خروج الانتداب ينقل هذه الدول إلى فوضى صراع القوميات, ومن ثم تحكم الديكتاتوريين ووأد الحركات الديمقراطية فيها.
بماذا يريد السيد هيكل أن يبشر العرب? بأنهم متخلفون لا يستطيعون حكم أنفسهم, ولا يمكنهم استيعاب الحركة الديمقراطية, وأنهم سينتقلون "من تحت الدلفة إلى تحت المزراب" كما يقول المثل اللبناني? أي من حكم ديكتاتورية الحزب أو الشخص إلى ديكتاتورية الاسلاميين أو الفوضى القاتلة?
لقد تكلم السيد هيكل في مقابلته عن مواضيع مهمة, وهو ذكر عودة الفرس لتأدية دور في المنطقة, وكذلك الأتراك, وهذا طبيعي لأن الشعبين هما من شعوب هذه المنطقة وهما جارين للعرب, ولكن ما هو غير طبيعي ألا يستطيع العرب أن يبقوا على استقرارهم وتأدية أدوارهم والاستفادة من علاقاتهم المتوازنة مع الجميع بمن فيهم اسرائيل,
وما يسميه السيد هيكل, الغرب أو أوروبا وأميركا, والجاران الأقليميان الفرس والترك, ولماذا ننسى روسيا أو الصين أو الهند أو أميركا الجنوبية,? فالكرة الأرضية برمتها أصبحت قرية بسبب وسائل التواصل الحديثة, ومن المفترض استغلال هذا التواصل إيجابيا وليس بالتخويف دوما من الغرب والاستعمار والقوى العظمى, وكأن هذه أقدر أو أذكى من العرب. فالشعوب العربية التي تقدر أن تغير حكامها اليوم في ساحات الحرية, أي بالسلبية الاعتراضية, وبمساعدة الرأي العام العالمي وربما الأمم المتحدة, يجب أن تتعلم كيف تنظم مجتمعاتها وكيف تتعامل فيما بينها داخل الدول وتكويناتها التعددية أولا,
ومن ثم بين الدول نفسها. وكما فعلت أوروبا التي تقاتلت سنين طويلة ثم ها هي تتوحد, تستطيع هذه الدول العربية أن تتجه إلى الوحدة, إذا كانت هذه الوحدة هدفها, في علاقات متوازنة يسودها الاحترام المتبادل وعدم فرض الرأي بالقوة تحت أي شعار, فتصبح من جديد قوة انتاجية تستغل طاقاتها لتشغل في الاقتصاد الدولي مركزا مرموقا, لا أن تبقى مشروع صراع حول السلطة مبني على الكراهية والحقد والعداء للجميع وتحميل الغير دوما مسؤولية الفشل.
الخوف من الفوضى شيء طبيعي والخوف من المتحجرين والاصوليين أيضا طبيعي والخوف من تجارالسياسة والاستغلاليين الجشعين حق, ولكن هذه الشعوب هي التي تفرز هذه الفئات والتنظيمات وليس الغرب أو اسرائيل, وكلام غير موزون يقوم على رمي المسؤولية على الغير هو ما أوصل العرب, منذ عبدالناصر إلى كل الديكتاتوريين "الصغار", إلى الحلقة المفرغة.
وغياب المفكرين الواقعيين وعدم طرح المواضيع بشكلها الواضح, هو ما يبقي العرب مشروع تأخر ومشروع تلزيم لقوى اقليمية أو عالمية. فالسيد هيكل وأمثاله, والمفترض به أن يكون شاهدا على قرن من الحركة السياسية العربية الفاشلة, وهو في سن يقترب معه من مواجهة الخالق, يجب أن يناقشوا الأمور بجدية وعمق ويكفوا عن تبرير الأخطاء عند الحكام العرب وعند الشعوب العربية باعطاء كل فريق حجة للاستمرار في عدم السعي إلى الخير العام والاكتفاء بنشر الحقد كجواب على كل تقصير وتقاعس.
قد يكون السيد هيكل يرى من خلال تجاربه السابقة الاتجاه الذي ستؤول إليه الأمور, ولكن يبقى حلم الشعوب بالتحرر جدير بالتجربة والمخاطرة, ويجب أن تكون النصيحة صيحة جدية تتوجه نحو الخطر الذي في النفوس والذي سيمنع التطور لا العودة إلى نظرية اتهام الآخرين ورفع المسؤولية عن من سيئد أحلام الشعب بالتقدم والتحرر.
الشعب السوري اليوم يقوم بثورة جدية, وهو يناضل مثل كل ثوار العالم الحقيقيين, ويتحمل أعباء القمع والتنكيل, وقد شعر العرب بواجب التحرك لوقف هذه المجزرة. صحيح أن الغرب ساهم في تسريع قلب القذافي, وقد يكون له مصلحة بذلك, ولكن هل كان استمرار القذافي بقتل الليبيين أفضل من تدخل "الناتو" لتسريع التخلص منه?
وماذا إذا تدخل أي كان لوقف المجازر في سورية? هل خوفا من الاستعمار والمشاريع الوهمية نترك هذا الشعب يفقد الأمل ونعطي الظالمين فرصة أخرى للاستمرار في غيهم? ولماذا لم يطرح المفكرون العرب السؤال على الديكتاتوريين قبل فوات الآوان ليبدأوا بالتغيير لكي تشعر شعوبهم بالاستقرار والرفاهية فتنتفي حاجتهم إلى الثورة.
يؤسفنا أن يبدو السيد هيكل وكأنه من بقايا الطاقم الذي اعتاد تنظير نقل المسؤولية وعدم مواجهة الحقائق, وهذا الطاقم سينتهي مع سقوط الديكتاتوريين العرب, ولكن وحتى لو قامت حركات اسلامية بالسيطرة على الحكم وفرض مشاريعها الهدامة لاعادة تكبيل هذه الشعوب بوسائل أعتى كما هي الحال في إيران مثلا, لا بد لهذه الشعوب من أن تثور مجددا وتطالب بالتغيير, فالتاريخ له قواعده والتطور سنة طبيعية وهو حالة لا يمكن السيطرة عليها إلى ما لا نهاية,
ولكن قدرة الشعوب على النقد الذاتي هو ما يحدد طول معاناتها أو قصره, وتوجهها نحو بناء مصالحها واستقرارها وتعاون فئاتها هو ما يرفع قدرها بين الأمم. ونحن نأمل أن يكون ربيع العرب تجربة حقيقية لشعوب المنطقة تنقلها من حالة الاستعداء الدائم والتعصب الأعمى إلى حالة النقد الذاتي والتعلم من الاخطاء والانتقال نحو الأفضل. فهل ستشهد المنطقة موجة جديدة من المفكرين والمسؤولين تنقل هذه المجتمعات إلى مستوى العصر?
أم أن أمثال السيد هيكل سيتمكنون من اعادة الخمول والاستسلام إلى الفكر العربي والاكتفاء بالتنظير وملامة الآخرين?
* كولونيل لبناني متقاعد
تورونتو – كندا
media. [email protected]