تحقيق ل نسرين درزى
عرابة سياحة التسوق، هو أقرب توصيف ينطبق على اسطنبول عند زيارتها في أي من فصول السنة. فهذه المدينة التركية الضاجة بالحياة والواقعة على ضفاف مضيق البوسفور، تفتح الشهية للتبضع من دون القدرة على مقاومة السلع المعروضة أو حتى الالتزام بميزانية معينة. وما يشجع على سيل “الشوبينج” فيها، قاعدة المجادلة بهدف تحطيم الأسعار، والتي ينصح أهلها باتباعها وتنفع في مطلق الأحوال.
التجول سيراً على الأقدام في شوارع اسطنبول يمنح السائح مجالاً واسعاً من التأمل في عراقة البنيان العمراني الذي يتكئ جنباً إلى جنب على واجهات زجاجية تخاطب التصاميم الحديثة. ومع كل خطوة باتجاه الأحياء التجارية، حيث السلع التقليدية وآخر صيحات الموضة، يكثر الازدحام المروري وتعلو أبواق السيارات التي تزيد من حيوية المشهد. زوار من مختلف الجنسيات يملؤون شوارع المدينة العتيقة، الحاضنة بجناحيها قارتي أوروبا وآسيا. هم يستيقظون مع ساعات الصباح الأولى ليراقبوا ملامح بحر مرمرة، ولا يخلدون إلى النوم إلا بعد إقفال آخر مقهى تعب من إعداد أكواب الشاي وتبديل أطقم السفرة.
باقة من العروض
يتحدث لـ “الاتحاد” الدليل السياحي جوناي جوك الذي يتكلم العربية بطلاقة، موضحاً أن التنوع الذي توفره اسطنبول هو سر إقبال السياح عليها ومعاودة زيارتها مرة ومرتين. ويقول “يشهد كل من يحل ضيفاً على اسطنبول أن مرافقها الخدمية لا تدع فرصة للراحة والاستجمام إلا وتقدمها من باب إتمام التجربة التركية كاملة. وهنا من اليسير على السياح من مختلف الطبقات الاجتماعية الحصول على باقة من العروض الممميزة التي تشمل خدمات الإقامة والتنقل والاطلاع على أبرز معالم المدينة بحسب الاهتمام”. ويضيف أن الشركة السياحية التي يمثلها وتدعى “هيلين تورز”، تعد برامج استطلاعية تكشف مزيجاً من طابع اسطنبول. بدءاً من المواقع التاريخية والمساجد العريقة على غرار متحف “آية صوفيا” و”مسجد السلطان أحمد”، إلى المنتجعات الطبيعية مثل “تل العرائس” ورحلات القوارب في عرض “البوسفور”. ويذكر الدليل السياحي جوك أن الزوار المقبلين على اسطنبول من منطقة الخليج العربي، يتلقون معاملة خاصة تتوافق مع عاداتهم وتقاليدهم. “وهنا يشعرون بحفاوة الاستقبال، ويلمسون الأجواء المحافظة التي تناسب السفر برفقة العائلة”. ويلفت إلى أن النساء عموما يجدن متعتهن في التسوق من متاجر اسطنبول، لأنهن لن يحتجن إلى وقت طويل في الانتقاء. “فالمحل الواحد يوفر تشكيلة منوعة من البضائع التي تلائم مختلف الأذواق. كما أن التنقل من متجر إلى آخر أمر يسير ولاسيما إذا كانت وجهتهن أسواق “الجراند بازار”.
حقيبة إضافية
تضم اسطنبول عدداً غير قليل من مراكز التسوق التي تعكس التطور الحضاري لوجهها التاريخي. ومع ذلك فهي واحدة من المدن القليلة التي لاتزال تحافظ على أسواقها التقليدية منذ مئات السنين. ومن بينها “الجراند بازار” وهو من أقدم الأسواق الشعبية المسقوفة في العالم. إذ يحتوي على أكثر من 4400 من متاجر البيع بالتجزئة، ويمر بداخله 58 شارعا ويمكن الوصول إليه عبر 22 باباً تلف جوانب المدينة. ومع المساحة الشاسعة التي يمتد عليها، لا يمكن تغطية كافة أجزائه بيوم واحد ولا بيومين أو ثلاثة أيام. وبالرغم من أن باعة الأرصفة يعرضون عند مداخله نماذج مشابهة من البضائع الموجودة في الداخل، غير أن الولوج بين متاهات “الجراند بازار” له نكهته الخاصة. وهو جزء لا يتجزأ من البرنامج السياحي، إذ إن الرحلة إلى اسطنبول لا تكتمل إلا بالتنقل في أرجائه والاطلاع على واجهاته وإلقاء نظرة على معروضاته. والجولة حتما لا تنتهي إلا بشراء حقيبة إضافية تتسع لكل المشتريات. من الفضيات وأواني الزينة، إلى المجوهرات والأحجار الكريمة. والجلديات ذات الجودة العالية، وكذلك الحقائب اليدوية والأحذية والملابس، والمعاطف الراقية التي تضاهي بصناعتها أهم دور الأزياء العالمية. …
ومن الأسواق العريقة في المدينة والتي تأتي بالدرجة الثانية من الأهمية بعد “جراند بازاز”، “سوق التوابل” المعروف بالسوق المصري. وهو مسقوف ومشيد على الطراز نفسه، غير أن السلع المتوافرة فيه تغلب عليها المواد الغذائية التي لاتقتصر على البهارات وحسب، وإنما تشمل كل ما يطيب تذوقه في اسطنبول. من أصناف الحلويات وأشهرها “الديلايت” أو اللقم، إلى التين المجفف وألوان الأجبان التي لا تخلو منها مائدة تركية. وكذلك الزيتون الأخضر وأفضل أنواع البن الذي يمنح القهوة الاسطنبولية خصوصية النكهة. وخلطات الشاي التي على تعددها تبقى الأوراق السوداء منها الأكثر طلبا. ولا يمكن تفويت الإشارة إلى شارع “الاستقلال” المتفرع من ميدان “تكسيم”، والذي يعتبر من أهم شوارع التسوق على الإطلاق في اسطنبول.
ماتشكا بالاس
بالتركيز على نواحي التسوق في اسطنبول المبنية على سلسلة تلال متفاوتة الارتفاع، يبدو جلياً أنه من الضروري التنبه إلى مكان الإقامة الذي يقع عليه الاختيار. فإذا كانت الغاية من الرحلة القيام بجولات تبضع والإفادة من جودة المشتريات مقارنة بالأسعار، فإن الفنادق الواقعة وسط الشوارع التجارية أو على مقربة منها تسهل مهمة “الشوبينج” وتجعلها أكثر متعة.
ويتحدث لـ”الاتحاد” هارون دورسون الخبير التركي في مجال السياحة ومدير عام فندق “بارك حياة” – اسطنبول عن أهمية أن يشعر السائح براحة في التنقل أثناء إقامته في أي مدينة يبتغي التجول في شوارعها. “وهذا ما تتجه إليه حالياً كبريات منشآت الضيافة في تركيا، بحيث ينصب التركيز في الوقت الراهن على توفير فنادق راقية متاخمة للأسواق الحديثة والعريقة في آن”. ويؤكد أن ما يميز اسطنبول من هذه الناحية أنها تجمع بين المرافق الخدماتية في بقع متقاربة. وما يساعد على تعزيز المشهد السياحي فيها كثرة المطاعم والمقاهي وأكشاك “السناك” التي تقع بالقرب من أي سوق.
ويشير دورسون إلى أن الفندق الذي يتولى إدارته والذي يقع في حي “نيشانتاشي” التاريخي، يعتبر نموذجاً للتمازج ما بين العمارة التقليدية والحديثة في اسطنبول. ويذكر أن تاريخ بنائه يعود إلى عام 1922، عندما اختاره التاجر الإيطالي فينتشينزو كايفانو بسبب وجوده على كتف السفارة الإيطالية. “كان يطلق على المبنى اسم “ماتشكا بالاس” وكان الأمل أن تتحول المنطقة إلى مقر لإقامة المشاهير. وقد صدقت توقعاته بعدما أوكل مهمة وضع مخططاته إلى المهندس المعماري خوليو مونجيري، خريج أكاديمية “بريرا” في ميلانو. وقد تم البناء خلال 11 شهراً، أي خلال مدة زمنية قصيرة بالنسبة لتلك الأيام”. ويستطرد هارون دورسون أن “ماتشكا بالاس” تحول خلال بضعة سنوات إلى أحد أكثر العمارات تفرداً ورقياً في اسطنبول. وكان الروائي الشهير كريم نادر والشاعر المعروف عبد الحق حميد من أشهر قاطنيه، إضافة إلى الكثير من الأسر التركية المرموقة. ويقول “بدأ الفصل الجديد للمبنى عام 1994 عندما أعيد ترميمه وتولى مهندس الديكور الأميركي راندي جيرنر تحويله إلى فندق”.
وهدف المصمم إلى ضم تاريخ الطراز المعماري “أرت ديكو” إلى المرافق الحديثة، وإظهار العلاقة بين القديم والحديث في أرجاء الفندق. مع التركيز على حضور الأيقونات التركية في إطار معاصر.
نيتشانتاشي
بالانتقال للحديث عن حي “نيشانتاشي” الذي يصنف من أرقى المواقع السياحية في اسطنبول، يذكر باتو باي مدير المأكولات والمشروبات في “بارك حياة” أن السياح بقدر حرصهم على المذاقات التي توفرها أماكن إقامتهم، يسألون عن البيئة المحيطة. “وهذا أمر طبيعي لأن الرضا عن الخدمات التي توفرها مرافق الفندق ولاسيما الوجبات، تتبعها مباشرة إمكانية التنقل منه وإليه بسهولة”. ويشرح أن السلطان عبدالحميد الثاني أمر ببناء حي “نيشانتاشي” في نهاية القرن التاسع عشر، حيث شيد مسلتين لتحديد نقطة بداية ونقطة نهاية الحي. وأن”نيشانتاشي” يضم الكثير من المتاجر العالمية والمقاهي والمطاعم المشهورة. و على رأسها شارع “عبدي إبكجي”، أكثر شوارع التسوق فخامة في تركيا.
وقد تطور هذا الشارع خلال العقد الأخير ليتحول إلى واحد من أغلى مواقع الإيجار في المدينة. تزينه مجموعة من العمارات المبنية وفقا للطراز المعماري الحديث وتقطنه الشخصيات البارزة من الفنانين والمثقفين في المجتمع التركي. ومن المتوقع عند السير فيه مصادفة المشاهير والممثلين والتوقف لتحيتهم والاتقاط الصور التذكارية معهم.
المصدر : جريدة الاتحاد