• كان يؤمن أن الخدمة الوطنية لا تقتصر على مجال بعينه • قصة اللحظات الحرجة التي عاشها وهو يؤدي عملياته السرية • أسرته دفعت ثمناً غالياً للدور الذي أختاره له الوطن قبل أن يعرض التليفزيون مسلسل “رأفت الهجان” لم يكن الكثيرون يعلمون أن الضابط الذي درب الهجان، وقاد مع زملائه عمليات عديدة، والذي حمل اسما كوديا “نديم قلب الأسد”.. هو نفسه ذلك الرجل الهادئ الرصين الذي يذوب رقة ويتوارى خجلا وتواضعا إذا ما حاصره البعض بكلمات الإطراء والإعجاب.. إنه محمد نسيم. وكذلك فقد انتاب الكثيرون مزيدًا من الفضول عند عرض المسلسل التليفزيوني “الحفار” عندما تابعوا تفاصل الإعداد والتنفيذ لعملية تفجير الحفار وإغراقه في “أبيدجان” والذي كان لمحمد نسيم دور رئيسي وهام فيه مع أبطال البحرية المصرية.. هذه العمليات التي لا تزال تدرس في أجهزة المخابرات العالمية حتى اليوم.. وقد يظن البعض أن “الهجان” و”الحفار” هما كل ما أنجزه نسيم خلال مسيرته الوطنية في العمل السري.. لكن الواقع أن تحويل هاتين العمليتين إلى دراما تليفزيونية هو الذي ألقى عليهما الضوء.. أما ملفات العمليات المخابراتية التي خططها وقادها نسيم فهي زاخرة بالبطولات والأداء الوطني الرفيع الذي تميز به جهاز المخابرات لخدمة الأمن القومي المصري والذي كان محمد نسيم واحدًا من فرسانه البارزين. وقد أتاح لي الاقتراب الإنساني من الراحل العظيم والذي امتد لسنوات طويلة أن أستمع إليه في عشرات التفاصيل عن أدوار هامة قام بها في سوريا ولبنان في فترة كانت تواجه مصر خلالها تحديات كثيرة.. وقد لا يعرف الكثيرون طبيعة الدور الذي ساهم به محمد نسيم في مسيرة منظمة التحرير الفلسطينية، وانه هو الذي رشح ياسر عرفات لزعامة المنظمة، وقدمه للرئيس جمال عبد الناصر.. وكان نسيم أيضا هو الذي خطط لتهريب عبد الحميد السراج وحارسه منصور روشدة من سجن المزة الرهيب في سوريا، ونقل السراج إلى منزله في بيروت وبقائه فيه عدة أيام قبل ترحيله إلى القاهرة في طائرة خاصة في عملية مخابراتية لا يزال صداها يتردد رغم مرور السنين الطويلة.. وقد كان عبد الحميد السراج أحد قادة الوحدة المصرية والسورية قبل الانفصال. كان محمد نسيم واحدا من رجال المخابرات المعروفين بهدوء الأعصاب، ودقة التخطيط، وبقدرته الفائقة على الكتمان.. وهو لم يكن بطبعه يميل إلى الثرثرة، أو ربما كان قد تدرب على الاحتفاظ بالأسرار في دهاليز قلبه وتلافيف عقله.. لا يستدعيها إلا بالقدر وفى الوقت المطلوبين، حتى أن السيدة الفاضلة قرينته ظلت لا تعلم الكثير عن تفاصيل عمله طوال سنوات حياتهما معا، لدرجة أنها أصابتها الدهشة عندما تقرر الإفراج عن تفاصيل بعض العمليات المخابراتية إعلاميا ومن بينها “الهجان” و”الحفار”. لقد كان محمد نسيم يحيط نفسه بهالة من الغموض.. ذلك النوع من الغموض الذي يستفز فضول الآخرين للنبش في التفاصيل. كان زوجا رقيقا، وأبا حنونا، وإنسانا يتميز بالبساطة الشديدة والتواضع الجم، في نفس الوقت الذي كان يتمتع فيه بشخصية قوية وفاعلة ومؤثرة. كانت الزوجة الطيبة تعلم بالقطع أن زوجها ضابط المدرعات وبطل الملاكمة الشهير الذي اختير للعمل في جهاز المخابرات بكل ما يتصف به هذا الموقع من حساسية وما ينطوي عليه من أسرار، إلا أنها لم تحاول يوما الاقتراب من عالمه وأسراره.. ومن ناحيته كان نسيم بطبعه، ووفقا لما تدرب عليه، كتوما لا يبوح بما لديه.. وقد دفعت أسرة نسيم ثمنا غاليا لهذا الدور الذي اختاره الوطن له، حيث فرض على الزوجة أن تتولى كل شئون ابنيها “هشام وفؤاد”، في ظل انغماس الزوج في مهامه المقدسة، وغيابه شبه المستمر، وسفره الدائم.. وكم تعرض نسيم لأخطار جسيمة، كما لم يسلم أولاده من مواجهة نفس الخطر.. وذلك أثناء عمله في بيروت في فترة الستينيات، وبينما كان العمل المخابراتي على المكشوف حيث كانت أجهزة المخابرات الدولية تتصارع مع بعضها، ويعرف رجال المخابرات بعضهم البعض.. اكتشف محمد نسيم شحنة من المتفجرات وضعت تحت سيارته امام منزله بينما كانت تستعد السيارة للانطلاق حاملة ابنه الأكبر “هشام” الى مدرسته.. وهكذا توالت مثل هذه الأخطار حتى قرر ان ترحل اسرته من بيروت الى القاهرة، لتستمر مسيرته التى كانت تضطره احيانا الى تغيير منزله وملابسه.. واحيانا ملامحه، ولتظل اسرته تعانى من القلق على رب اسرة يمسك النار بيديه دون ان يصدر انينا، ويحمل على كتفيه الألغام والمخاطر دون ان تبدو على ملامحه مشاعر الخوف حتى بشكلها الانسانى .. وبقيت الزوجة الطيبة الرقيقة هادئة صامتة لا تسأل الزوج عن شيء مما يعانيه متحملة وحدها مسئولية الأسرة.. ليكبر الابنان ويختارا دراسة الهندسة ويتخرجا بتفوق، ويبدءان مشوارهما العملي دونما اعتماد على رصيد والدهما ومكانته العملية المرموقة.. اعتمد كل منهما على عرقه، وجهده، وكفاحه.. وواجها بكل ما حملاه عن الأب من جينات الاعتزاز بالنفس التنكر والإعراض من أشخاص لم يقدروا تاريخ والدهما وتضحياته من أجل رفعة وطنه . .. وقد ساهم ترفع ابني محمد نسيم وما ورثاه من عزة النفس عن الإلحاح في المطالبة بحقيهما كمواطنين عاديين، ولم يظفرا بمثل ما يحصل عليه غيرهما.. لا أقول من علية القوم، ولكن من عامة الناس.. وهذه قضية أخرى. ساعات طويلة كنت اقضيها مع الراحل العظيم، استمع اليه ونحن جالسان فى شرفة منزله او منزلى .. وكثيرا ما اختصنى بصحبته الى شرم الشيخ التى احبها كثيرا ووضع فيها بصمات من انجازات لاتزال تحمل اسمه حتى اليوم.. كنت استمع اليه مبهورا مستمتعا، وكانت السيدة الفاضلة حرمه تأتينا من وقت الى آخر تذكرنا ان ” الأكل جاهز ” ولكن هيهات ان استجبنا لندائها، فقد كان تدفق الحكايات والمواقف الشائقة يشبع كل حواسنا. لحظات صعبة عاشها محمد نسيم وهو يؤدى عملياته السرية.. فقد حكى لى ذات مرة تفاصيل نقل المفرقعات التى تم بها تدمير الحفار، حيث قام بحملها بنفسه فى حقيبة من القاهرة الى ساحل العاج، مرورا بتوقفات فى مطارات عديدة، من بينها روما، ولم يكن هناك فى ذلك الوقت اجهزة للكشف عن المتفجرات . ولأن نسيم كان شديد الجرأة وهدوء الأعصاب.. فقد حمل حقيبة المفرقعات وسار بها حتى مكتب الأمن فى المطار طالبا من الضابط ان يحتفظ بهذه الحقيبة لديه ليتمكن من الخروج لعدة ساعات فى جولة لمعالم روما، حتى يحين موعد الطائرة التى ستقله من روما الى محطته التالية.. والغريب ان الضابط قبل بسهولة الاحتفاظ بالحقيبة فى الأمانات حتى يعود نسيم من جولته. وعندما عاد ليطلب حقيبته من الضابط.. فاجأه بسؤال مباغت : قوللى الشنطة دى فيها ايه ؟.. فلم يتردد نسيم فى ان يقول وبهدوء: ابدا دى مجموعة كتب.. تحب تشوفها؟… وانتهى الموقف. لقد كان محمد نسيم رجل مخابرات من طراز ليس عاديا.. كان يؤدى المهام الموكلة إليه بذكاء واخلاص وتفان، لذلك فقد اسندت اليه العمليات المخابراتية التى خطط لها وشارك فيها ضد العدو الصهيونى خلال تأجج الصراع العربى الإسرائيلي.. أما رحلة عمله في لبنان وسوريا ودوره مع حركة القوميين العرب، وفى تشكيل التيارات السياسية المساندة لمصر، وكذلك صلته بالزعيم الراحل جمال عبد الناصر، ومواجهته لصلاح نصر أثناء محاولة إصلاح جهاز المخابرات.. وكل هذه قصص أخرى سيأتي اليوم للإفراج عنها ليعرف الجميع لماذا لقب هذا الرجل بـ”نديم قلب الأسد” كان محمد نسيم رحمه الله يؤمن أن الانتماء والخدمة الوطنية لا تقتصر على مجال بعينه.. فبعد أن انتهت مرحلة عمله بجهاز المخابرات، لم ينزل الفارس عن جواده، ولم يترجل، لكنه راح يوجه بصلة الكفاح إلى مجال آخر يواصل من خلاله رحلة عطائه.. فقد كان في انتظاره مهمة جديدة هي رئاسته لهيئة تنشيط السياحة في مصر.. ويشهد الجميع بأنه بذل جهدا خلاقا في هذا المجال.. وقد سعدت بمرافقته في العديد من القوافل السياحية التي راح يجوب خلالها العديد من الأقطار العربية بهدف تعزيز العلاقات السياحية بينها وبين مصر. وقد استثمرت خبرته في الكثير من المهمات الصعبة، وأتيح لي مصاحبته في رحلة إلى الجزائر تضم قافلة كبيرة من الفنانين والشعراء والكتاب المصريين، في الوقت الذي كانت فيه العلاقات الدبلوماسية مقطوعة بين البلدين، واستطاع نسيم أن يحول هذا الخصام وهذه المقاطعة إلى مظاهرة حب، عادت بعدها العلاقات كأحسن ما يكون . ولم يترك محمد نسيم موقعه كرئيس لهيئة تنشيط السياحة قبل أن يضع بصمة أخرى من الإنجازات ليواصل رحلة العطاء برئاسته لشركة سيناء ونوادي الغوص التي لا تزال إنجازاته فيها تشهد بالجهد الكبير الذي قام به، إضافة إلى العديد من المناصب السياحية الرفيعة كرئاسته لغرفة ال بحث متقدم