* مننذ أسبوعين كتبنا هنا عن الظواهر الغريبة في موسم العمرة هذا العام. ولم يكن من بين هذه الظواهر التي أشرنا إليها في ذلك الوقت ظاهرة أخري اختص بها الموسم وهي ظاهرة الهروب الجماعي للمعتمرين.. إذ لأول مرة تهرب أفواج بأكملها.. لتختفي عن الأنظار. انتظاراً لموسم الحج. لأداء الفريضة دون تحمل أعبائها المادية. التي هي بكل تأكيد فوق طاقة الهاربين وفي غير استطاعتهم.. ومن هنا يهربون ليؤدوا الحج بسعر العمرة.
ظاهرة ليست جديدة
* وليست ظاهرة الهروب في حد ذاتها جديدة.. وإنما الشكل الذي ظهرت به هذا الموسم هو الذي قد يبدو جديداً.. في ظل التركيز الإعلامي علي تخلف المعتمرين.. فالهروب كان ومازال وسيظل موجوداً.. وإن كان في شكل أفراد أو مجموعات قليلة. وليس أفواجاً كاملة تهرب بكل أفرادها.
* وكل المحاولات التي تجري الآن ستظل محاولات للحد من هذه الظاهرة.. أما منعها نهائياً.. فأعتقد أنه غير ممكن.. طالما واصلت أسعار الحج الارتفاع.. وطالما بقيت الرغبة في جوار الحرمين رغبة تحركها دوافع دينية من الصعب تغييرها.
* نعم.. الرغبة الدينية في النزوح إلي بلاد الحرمين الشريفين.. وجوار الرسول الكريم.. رغبة قديمة قدم الإسلام نفسه.. والأحاديث النبوية الشريفة في فضل كل من مكة والمدينة معروفة.. والأحاديث الداعية إلي الحياة فيها.. بل حتي الموت أيضاً كلها.. أيضاً معروفة.. وكلها تفيد باستحباب الحياة حتي لقاء الله فيها.
* ولذلك لم تنقطع الهجرات إلي الحرمين الشريفين منذ فجر الإسلام إلي كل من مكة والمدينة.. وأثر هذا في التركيبة السكانية لأهل الحجار واضح ولا يمكن إنكاره.
* فظاهرة التوجه إلي الحرمين الشريفين والبقاء فيهما.. والمعيشة إلي جوارهما.. والهجرة إليهما.. ظاهرة ليست بنت اليوم.. كما أن ظاهرة التوجه من موسم العمرة إلي موسم الحج ليست جديدة كذلك.. ولكن الجديد في الأمر هو الاهتمام السعودي بملاحقة هذه الظاهرة ومواجهتها طبقاً للقوانين الخاصة بالإقامة.. وتطبيق القانون علي المخالفين.. وهذا وإن بدا جديداً في السنوات الماضية.. فهو أيضاً قديم.. ولكنه زاد في السنوات الأخيرة بعد استفحال الظاهرة نتيجة يسر الانتقال وتيسر وسائل السفر من جهة.. ونتيجة الارتفاع المتزايد في أسعار الحج من ناحية أخري.
ستستمر رغم كل شئ
* فارتفاع أسعار الحج عاماً بعد عام.. يؤدي إلي أن يفقد الكثيرون الأمل في أداء هذه الفريضة.. التي تصبح في غير استطاعة الغالبية العظمي من المسلمين.. من هنا يلجأ البعض ممن لا يقدرون.. إلي الوسيلة المتاحة لهم.. وهي التوجه في موسم العمرة.. والاختفاء إلي موسم الحج.
* والسلطات السعودية تطارد المتخلفين من المعتمرين.. وتستطيع في كثير من الأحيان أن تصل إلي مخابئهم التي تعودوا الاختفاء فيها.. وهي في الغالب منازل قديمة معزولة يمكن الاختفاء فيها شهوراً لا يخرجون منها.. في أحوال معيشية سيئة جداً.. أشبه بالسجن.. يتكدسون في غرف لا تتوفر فيها وسائل المعيشة الإنسانية.. حتي إذا أهلت شهور الحج وبدأ الحجيج ينتشرون في شوارع مكة والمدينة.. خرج من نجح من هؤلاء من الإفلات من السلطات السعودية.. خرجوا من مكامنهم واختلطوا بباقي الحجيج كأنهم جزء منهم.. ولكنهم يبدأون مشكلة أخري هي مشكلة “الافتراش”.. فهؤلاء بعد انتهاء شهور التخفي. انتهت مسئولية من اختفوا عنده.. وأصبح عليهم البحث عن مأوي لهم.. والمأوي في الغالب هو شوارع الحرمين.. بل الحرمين أيضاً يفترشون أرضها.. ثم ينتهي بهم الأمر أيضاً إلي الافتراش في عرفة ومني في أيام الحج كذلك.
* وبعد أيام الحج تبدأ مشاكل عودتهم إلي بلادهم.. فلا نقود معهم ولا تذاكر ولا جوازات سفر.. وهنا يقع العبء علي السفارات في استخراج جوازات سفر لهم وترحيلهم.. هذا بالنسبة لمن استطاع أن يفلت من السلطات السعودية.. أما من يقع في قبضة السلطات السعودية فمصيره إلي السجن.. ثم الترحيل مقبوضاً عليه لمخالفته للقوانين ومنعه من دخول السعودية بعد ذلك مرة أخري. * علي الجانب الآخر تبدو الصورة مشوهة لصورة مصر والمصريين من ناحية.. ومسيئة إلي شركات السياحة من ناحية أخري.. فصحيح أن التخلف والافتراش ليسا للمصريين فقط.. فهناك جنسيات أخري كثيرة تأتي بنفس المشكلة.. إلا أن ما يعنينا هنا هو انعكاسات هذه المشكلة علي صورة مصر.. والتي بكل تأكيد لا تعني هؤلاء المتخلفين في شيء.. والذين يتجاوزون الافتراش الي التسول في كثيرين الأحيان ليستطيعوا الإقامة والإنفاق علي أنفسهم حتي السفر.. وهذه صورة كريهة يسببها هؤلاء للوطن بجهل وأنانية.. ويلحقون الأذي بأنفسهم وبغيرهم وبوطنهم في النهاية.
* أما الضرر الذي يسببه المتخلفون لشركات السياحة فهو ضرر بليغ. وهو وحده يجب أن يكون مانعاً لهؤلاء من الاتيان بفعل يضر ويؤذي الآخرين. فدفع الضرر مقدم علي جلب المنفعة.. ولاضرر.. ولاضرار.. فشركات السياحة التي تؤدي خدمة تنظيم رحلات العمرة معرضة للإيقاف والإغلاق لسبب لا ذنب لها فيه.. فإذا تخلف لها 3% من جملة معتمريها.. عوقبت مرتين.. الأولي من السلطات السعودية التي توقف الشركة عن العمل في العمرة.. والثانية من وزارة السياحة في مصر التي تعاقب بعقوبات قد تصل إلي غلق الشركة.
* ومن هنا تحرص شركات السياحة الآن علي انتقاء معتمريها ممن تتوسم فيهم أنهم لن يتخلفوا.. هذا إذا جرؤت علي تنفيذ رحلات العمرة في ظل الضوابط الصارمة التي وضعتها وزارة السياحة المصرية.. والتي أدت إلي إحجام نحو نصف الشركات التي كانت تعتزم العمل في العمرة عن العمل في هذا الموسم.. بعد أن كانت بالفعل قد سجلت عقود الإسكان المعتمرين.
استطلاع رأي المفتي
* وقد استطلعت غرفة السياحة رأي المفتي في حكم الدين فيمن يتخلف في رحلات العمرة انتظاراً لموسم الحج.. وفي اجابته علي غرفة السياحة أكد الدكتور علي جمعة مفتي جمهورية مصر. أن هروب المعتمرين وتخلفهم عن موعد عودتهم إلي ديارهم وبقاءهم بالأراضي المقدسة حتي موسم الحج حرام شرعاً.. وقال إن كل متخلف يعد ساعياً لإحداث الضرر لضيوف الرحمن ومشاركا في إيذائهم.. وهو يتسبب بتخلفه مع غيره من بقية المتخلفين في حدوث الاضرار والاختناقات والوفيات التي تحدث من جراء تدافع الأعداد الضخمة للحجاج.
* وقال المفتي إن التزام المعتمر بمواعيد العودة واجب شرعاً.. وقال إن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان”.
* وأشار المفتي إلي أن التخلف يعتبر مخالفة لولي الأمر.. ومخالفة ولي الأمر لا تجوز ما لم يأمر بحرام. لأن طاعة أولي الأمر سبب لاجتماع الكلمة ومعصيته لحدوث الفوضي والفساد.
* قال المفتي إن المعتمر المتخلف يتعرض للمتاعب في حالة ترحيله. ويدفع غرامة عن أيام تخلفه.. كما يعرضه الترحيل للإيذاء والمذلة.. والرسول – عليه الصلاة والسلام – يقول: “لا ينبغي للمسلم أن يذل نفسه”.
* ورأت غرفة السياحة أن تسلك سبيل التوعية للمعتمرين قبل سفرهم من خلال حملة توعية في الصحف والتليفزيون.. وقد تكون هذه أحد الوسائل التي ستحد من التخلف.. ولكنها غير كافية وحدها.. فلابد من أن يشارك في هذه الحملة خطباء المساجد.. ورجال الدين بشكل عام.. ولابد أن تتكرر هذه الحملة في السنوات القادمة ف
لابد من حلول تجرم التخلف
* ومع التوعية لابد من التفكير في حلول أخري.. تجرم التخلف.. وتخضعه لنص قانوني يعاقب عليه.. وقد طلبت وزارة السياحة من وزارة الداخلية وضع المعتمرين الهاربين علي قوائم ترقب الوصول.. ولا أعتقد أن هذا الطلب سوف يكون فعالاً ما لم يكن هناك نص في القانون يؤثم هذا الفعل.. وحتي إذا ووجه هذا التخلف باعتباره إخلالاً لتعاقد بين المعتمر وبين شركة السياحة.. فلن يفيد في هذا ترقب الوصول.. لأن النزاع في هذه الحالة سيكون نزاعاً مدنياً لا يفيد فيه ترقب الوصول.
* وفي رأيي أننا يجب أن نحدد الفئات التي تكثر بينها حالات التخلف ونحاول مواجهتها بحلول غير تقليدية.. والواضح حتي الآن أن التخلف بكثير في حالات العمرة البرية والبواخر.. ومعني هذا أن التخلف يكون في برامج العمرة ذات الأسعار المتدنية.. التي يقبل عليها محدودو الدخل ممن لا يقدرون علي العمرة بالطائرات. وبالتالي لا يستطيعون الحج بالأسعار المرتفعة والمتوالية الارتفاع عاماً بعد عام.
وتحديد شهور التخلف
* فإذا حددنا الفئات التي يكثر فيها التخلف.. ثم حددنا الشهور التي يبدأ فيها التخلف.. أصبح علينا أن نبحث عن الحل في إطار هذين العنصرين.. ولا أقول بمنع هذه الفئات من أداء العمرة.. ولا بإيقاف العمرة في الشهور التي يكثر فيها التخلف.. وإنما أقول بتقليل الفرص أمامهم للتخلف.. كيف؟
الحل ابعاد الراغبين في التخلف عن شهور التخلف
* الحل هو في إبعاد الراغبين في التخلف عن شهور التخلف.. حتي يصبح التخلف أمراً صعباً.. كيف مرة أخري.
أعتقد أن علينا أن نعالج المسألة من الجانب السعري.. لن نمنع العمرة عن أحد.. ولكن العمرة ذات البرامج الرخيصة ستكون فقط في أول شهور للعمرة.. وابتداء من رجب وشعبان ورمضان فالعمرة لبرامج مرتفعة القيمة.. تقرب قيمتها من قيمة الحج.
.. والغاء العمرة البرية والبحرية ابتداء من رجب
* ومعني هذا أن نلغي تماماً العمرة البري وكذلك البحري في شهور رجب وشعبان ورمضان وربما قبل ذلك ليصعب علي من يريد التخلف أن يتخلف ويبقي نحو ستة أشهر متخلفاً في انتظار الحج.
.. وعمرة متميزة فقط في رجب وشعبان ورمضان
* ومعني هذا أيضاً أن نقدم برامج عمرة متميزة فقط في شهور رجب وشعبان ورمضان وبأسعار تقرب من أسعار الحج وبالطائرات فقط.. حينئذ لن يتجه إلي هذه العمرة إلا الذين لا يفكرون في التخلف.. المسألة في حاجة إلي سياسة جديدة لرحلات العمرة.. قوامها لا عمرة بالبر أو البحر في رجب وشعبان ورمضان.. عمرة متميزة وبالطائرات فقط في هذه الشهور.. الحج براً أو بحراً فقط في الشهور الأولي للعمرة.. تأثيم قانوني لمن يتخلف عن المدة المحددة له في عقده مع شركة السياحة.
* هذه المقترحات سيرفضها علي الفور أصحاب وسائل النقل البري والبحري. وقد يرون أنها ستحدد من حريتهم في العمل.. ولكن الحقيقة أنهم سيعملون بكل طاقتهم في الشهور الأولي للعمرة. بما يعوض الشهور الثلاث التي لن يعملوا فيها.. بدلاً من امتداد موسمهم علي مدار العام وتوفير الفرص لمن يريدون التخلف.
* وبعد هل سينتهي هذا الموسم الهروب الجماعي للمعتمرين بعد الحادثين اللذين وقعا حتي الآن؟.. لا أعتقد.. سيستمر الهروب الجماعي أو الفردي.. طالما أننا لم نفكر في حلول عملية.. تقلل من الفرص أمام الراغبين في الهرب.. وطالما أننا لم نؤثم هذا الفعل من زاوية إخلاله بتعاقدات المعتمرين وإساءته إلي سمعة الوطن.
* علي أي حال نحن في انتظار ردود الفعل علي السياسة الجديدة المقترحة للعمرة.