Al Masalla-News- Official Tourism Travel Portal News At Middle East

جانبى طويل

الكاميرا الإلهية .. صور يا زمان …تأملات مواطن عربي على بحيرة جينيف

صور يا زمان .. هذه العبارة من أغنية عبد الحليم حافظ قفزت إلى ذاكرتي بينما كنت أتطلع إلى مياه بحيرة جينيف الرقراقة التي تسبح في هدوء وتتمتع بالسكون ، في الوقت الذي تحتفل به سويسرا بعيدها القومي ، وأشاهد من موقعي النافورة الكبيرة التي تتراقص مياهها أمام واحد من أكبر فنادق جينيف ( نوجا هيلتون ) وهو بالمناسبة كان مملوكاً ليهودي باعه لمالك جديد مسلم ، لكن المفارقة الغريبة أن هذا الفندق يحتوي على أكبر كازينو قمار في جينيف !!

هذه جينيف الجميلة الساحرة الخلابة التي ارتدت حلتها القشيبة لتحتفل في اليوم الأول من أغسطس من كل عام وعلى مدى ثلاثة عشر يوماً بكرنفالها.
إلى هنا تبدو الصورة عادية لمدينة تحتفل باستقلالها وكفاحها ضد الظلم والتمييز وتحقيقها لكرامة الإنسان وحريته واحترام آدميته ، والدفاع عن حق الحيوان في الحياة والرفق به .
ولعل السؤال الذي ألح علىَّ وسط هذه الأجواء الاحتفالية : من الذي يحتفل بهذه الأعياد ؟ .. الرد الطبيعي هو أنهم مواطنو جينيف بكل فئاتهم .. لكن الواقع يؤكد خطأ هذه الإجابة .. فالمحتفلون هم الرجال والشباب العرب ذكوراً وإناثاً ، وأيضاً الأطفال الذين ولدوا وفي أفواههم ملاعق من ذهب ، ولم يعانوا سوء التغذية ونقص مياه الشرب والنحت في الحجر من أجل لقمة العيش … المحتفلون هنا هم من الأشقاء العرب المتخمين بالمال واللاهين عن حقائق التاريخ وعلوم الاقتصاد ، والغافلين عن تجارب إنسانية عديدة تؤكد أن للمال وظائف حددها الله …

وهذه صورة جديدة تلتقطها كاميرا هذا الزمن الرديء لهؤلاء الأشقاء الذين يبالغون في الاحتفال بالأعياد السويسرية حيث يذهب كل إلى مشاربه .. فالسيد يركب سيارة مع أصدقائه وينطلق إلى نزواته ، والشباب يلهون مع فتيات الليل العربيات والشرقيات الفقيرات اللاتي يعتبرن هذه الأيام موسماً يتربحن فيه من أبناء الأمراء والسلاطين والشيوخ وكبار رجال الأعمال وسارقي أقوات الشعوب ..
وعلى بحيرة جينيف تلتقط كاميرا الزمن صوراً لمشاركة العرب أعياد السويسريين عندما يطلقون الصواريخ في كل مكان ويسرفون في التعبير عن الفرحة والمجون ، بينما يتركون أطفالهم مع الفلبينيات والتايلنديات يلقنونهم أصول الثقافة والتربية على الطريقة الآسيوية .. وأمام أكبر فترينات جينيف بكبرى المحلات تظهر حسناوات العرب وهن يلهثن وراء أحدث الموضات من أزياء ومكياج وعطور واكسسوارات ..ولابد أن كاميرا الزمن قد التقطت صورة أخرى متناقضة لنساء الصومال وقد تشققت أرجلهن من المشي حافيات … أو أطفال السودان الذين يموتون جوعاً في دارفور ..
ولايزال صوت العندليب الأسمر يرن في أذني ” صور يا زمان ” فتتجسد أمامي لقطة يبدو فيها أحد جنود الاحتلال يتحسس جسد عراقية طاهرة في شكل مهين فج بينما هي تصرخ وتتأوه .. أما الصورة المقابلة لها في جينيف فتتركز في محلات التجميل عندما يتحسس الشاب البرتغالي أو الأسباني أجساد الماجدات العربيات وهن في قمة المتعة والانسجام والاسترخاء اللذيذ .. والفرق بين الصورتين يجعلنا نقول إن الأولى لا حول لها ولا قوة ، أما الثانية فهي الطامة الكبرى ..
ويستمر مسلسل تناقض الصور التي تلتقطها كاميرا الزمن .. فهذه لقطة من سجن ” أبو غريب ” في بغداد تبرز فيها مجندة جيش الاحتلال وهي تعذب الرجال العراقيين الشرفاء وتتحرش بأجسادهم غصباً عنهم .. وهم أيضاً لا حول لهم ولا قوة .. أما الصورة المقابلة فهي لقطة لحجرات التدليك في فنادق وأندية جينيف حيث يسترخي رجال العرب مسلِّمين أجسادهم لتعبث بها الأنامل الرقيقة لخبيرات التدليك .. وهؤلاء النائمون في استرخاء هم مع الأسف من كبار رجال المال والسلطة والجاه الذين يدفعون بسخاء وبذخ .

ويأتي صوت عبد الحليم حافظ من جديد ” صور يا زمان ” ولتظهر صور أخرى تبدو فيها ملامح التناقض والعبث ؛ فهذه لقطة لبشر يلهثون من أجل الحصول على قطرة ماء أو لقمة عيش ، بينما لقطة أخرى تعبر أبرز ملامحها عن السهرات الماجنة التي يتغنى فيها المطربون ويتبادل خلالها الساهرون من أبناء الدول العربية التحية عبر المطربين وفرقهم الموسيقية والغانيات اللاتي تقذف تحت أرجلهن النقود بالآلاف … وأمجاد يا عرب أمجاد !!
تركت بحيرة جينيف بعد أن تزاحمت في رأسي الصور .. وأخذت ألملم مشاعر الحزن التي ولدتها تداعيات هذه الصور .. وقادتني قدماي إلى المكتبة العربية الوحيدة في جينيف ، والتي وجدتها خاوية من الزبائن ، وعندما سألت صاحبها قال : إن العرب يدفعون المئات في شراء أشرطة الجنس ويبخلون بالفرنكات القليلة ثمناً للجرائد والكتب … وهذه صورة جديدة ..

قد يقول البعض إن العقل الإلكتروني لآلة التصوير سيحطمه فيروس المتناقضات ، وقد تحترق الكاميرا قبل أن يتم تصوير تلك المشاهد … وهنا أقول : لا تخافوا فهناك كاميرا قوية الصنع محصنة ضد الفيروسات … تراقب وترصد .. وعندما يحين وقت الحسم ستكون وحدها دون غيرها هي الحكم .. إنها الكاميرا الإلهية .

د. إبراهيم قويدر
خبير السياسات الاجتماعية

نبذة عن الكاتب

مقالات ذات صله