بقلم – منير الفيشاوي
على الرغم من عدم وجود طيران مباشر بين مصر وفيتنام، إلا أن سفري إليها كان سهلاً وممتعاً وزهيدا في التكلفة، حيث انتهزت فرصة تواجدي بالعاصمة الكمبودية بنوم بنه، وانطلقت منها بالطريق البري متوجها نحو مدينة سايجون (هوشي منه سيتي) والتي تعد عاصمة الجنوب وبمثابة العاصمة الثانية لفيتنام بعد "هانوي"، حيث استقليت الحافلة التي أخذت تنهب الطريق على مدى ست ساعات تخللها توقفا واحدا – باستثناءالإجراءات الحدودية – لتناول وجبة غذاء بأحد المطاعم.. كل ذلك كان مشمولا بقيمة التذكرة البالغة أحد عشر دولارا فقط.
ومع تتالي المناظر الطبيعية الخلابة التي يكسوها اللون الأخضر، تداعبها زخات متقطعة من الأمطار وخلفية سماء زرقاء تزينها أقواس قزح من آن لآخر، وفور عبور نهر الميكونج.. أخذت علامات الاستفهام تتداعى في مخيلتي عن كينونة هذا البلد الذي لابد وقد أنهكته غزوات الجيران وحروب الفرنسيين ثم الأمريكان، فتكونت لديّ صورة ذهنية مبرّرة لبلد مدمر، ما لبثت أن انقشعت فور وصولي مدينة سايجون وزيارتي لمنطقة "نها ترانج" الساحلية شرقيّ البلاد وعدد من الجزر القريبة منها، لأكتشف أني بصدد زيارة لمعجزة في التقدم والإرادة وليست مجرد بلدا أو شعبا عاديا.
ولكن.. ترى ما هي أحوال الأقليات المسلمة في هذا البلد الصاعد الواعد الذي يدين حوالي 70% من سكانه البالغ تعدادهم حوالي 80 مليون نسمة..بالبوذيّة؟
فجر الإسلام في فيتنام
دخل الإسلام فيتنام عن طريق الزحف البطيء للتجار والدعاة الإسلاميين القادمين من تايلاند والهند وشبه الجزيرة العربية والحبشة، حيث قاموا بنشر الإسلام بين جنس التشام، وأنشأوا المساجد وتأسست دولة التشام الكبرى على يد الأقوام الملايوية (الماليزية حاليا) وعرفت باسم دولة "التشامبا" وكانت تطل على الشاطئ الشرقي لمنطقة الهند الصينية والتي تضم : الصين وتايلاند وكمبوديا وماليزيا وفيتنام، ويذكر بعض المؤرخون أنه كان للراهدار أحمد أبو كامل والنقيب عمر.. فضل كبير في المساهمة في نشر الإسلام بالمنطقة، وتوقّف أقصى امتداد لدولة التشام الكبرى عام 875 هجرية، إذ وصلت حدودها الشمالية إلى بداية خليج طونكين عند مدينة دونج هوى (سايجون/ هوشي منه سيتي حاليا) وكانت تضم خمس ولايات هي : أندرابورا، أماراواتي، فيجايا، كوتهازا، وباندورانجا، إلا أن دولة التشامبا الإسلامية قد ضعفت شيئا فشيئا بعد ازدهار، وانقضّت عليها جحافل الغزاة من جيرانها، علاوة على مناصبة البوذيون العداء لها آنذاك، حتى تم القضاء عليها في العام 1490 ميلادية (875 هجرية تقريبا)، ومنذاك التاريخ بدأت عزلة المسلمين هناك لفترة امتدت لنحو خمسة قرون.
أحوال مسلمي فيتنام الآن
للوقوف على أحوال المسلمين في فيتنام الآن، خرجت هائما في شوارع مدينة سايجون سائلا وباحثا عن أكبر مساجد المدينة، فعلمت أنه يدعى "جامع المسجد للمسلمين"،والذي شيّد عام 1935 ويقع بالمنطقة الأولى بوسط المدينة وبالتحديد خلف فندق شيراتون مباشرة، وقد سعدت للغاية بحجم وتشطيبات هذا المسجد الذي يبدأ بحديقة مقتطع منها مربع كبير يشبه حمام السباحة تتناثر حوله صنابير المياه لأغراض التطهّر والوضوء، كما ضاعف من سعادتي أعداد المصلين والحاضرين من الرجال والنساء، ومعظمهم من مسلمي فيتنام بالطبع، وإن كانوا مرصعين بعدد من آسيويين آخرين.
وللمسجد هذا إمامين أولهما الشيخ محمد يوسف طالب علي وعمره يناهز التسعين والذي أدرت حوارا مطولا معه، علمت من خلاله بمدى معاناتهم من الشعور بالعزلة والإهمال من العالم الإسلامي الذي لايلقى بالا للأقلية المسلمة بالبلاد والبالغ عددها مائة ألف مسلم ، سواء في الجانب التعليمي أو الدعوي أو المالي، مما أدى بالمسلمين هناك إلى الجهل بأبسط مقومات الدين الإسلامي واختلاطها بعادات وتقاليد لديهم لا علاقة لها بالإسلام .. ولا تجد من يفك الإشتباك فيما بينها وبين قيم الدين الحنيف.
ويضيف الشيخ محمد يوسف: "على الرغم من محاولات جادة يبذلها البعض لنشر الوعي الديني إلا أنها ليست كافية لمواجهة اضطرار المسلمين للدراسة بالمدارس التي تتبنى الشيوعية منهجا لها في التعليم، بالإضافة إلى توجه الحكومة الفيتنامية مؤخرا للسماح للمسلمين باقامة احتفالاتهم بإذن مسبق، علاوة على الإذن لهم بفتح مدارس مسائية بالمساجد – وقد شاهدت ذلك بنفسي – إلا أن الثقافة الإسلامية هي بالأساس ضعيفة بين المعلمين أنفسهم، وبالتالي ففاقد الشئ.. كيف سيعطيه؟!"..
وكان مسك الختام لهذا الحوار مع الشيخ محمد يوسف – على الرغم مما اعتراه من شكاوى ومعاناة وشجون- أن أنطلق آذان المغرب بصوت الإمام الثاني للمسجد الشيخ أحمد عبد القدير البالغ من العمر 38 سنه، والذي أمّ الصلاة بقراءات قرآنية ذات مخارج ألفاظ سليمة للغاية وتلاوة رخيمة عذبة كانت خير وداع بعد لقاء إسلامي حميم، أتبعته بزيارة مسجد "الرحيم" والذي بني عام 1885، حيث وجدته أصغر من سابقه وإن كان أكثر منه فخامة.
وفي ختام هذه الزيارة.. إنتابني نفس الشعور الذي كان قد اعتراني بعد زيارتي لمسلمي كمبوديا والمنشورة في العدد الماضي، بأن المسلمين هناك ينظرون إلى الأزهر الشريف بشغف شديد.. يستصرخونه.."واإسلاماه".