لا يمكن للتطرف وأنصاره أن يمحوا جهود الإنسانية عبر تاريخها الذي خلفته في الآثار التي تعتبر صفحات ناطقة تشهد على تطور الحضارة البشرية، فما يفعله تنظيم الدولة الإسلامية من تدمير ونهب للآثار النفيسة في العراق وسوريا وليبيا، يقابله إصرار من المجتمع الدولي على إعادة ترميم ما تبقى أطلالا واستعادة ما سرق من كنوز أثرية هي ملك مشترك بين الناس.
بغداد …. دعت الهيئة العامة للآثار والتراث العراقية العالم المتحضر والمنظمات الدولية إلى مساعدة العراق على ترميم آثار مدينة النمرود الأثرية التي خربها تنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي وتركها أطلالا.
ولم يتضح مدى الضرر الذي ألحقه الجهاديون بالمدينة الأثرية، إذ أن حراس الموقع ومسؤولي الآثار العراقيين غير قادرين على تقييمه بسهولة.
وقالت الهيئة في بيان صحافي مساء الثلاثاء الماضى، إنه رغم ما فقدناه من تفاصيل معمارية للقصور والمعابد والزقورة الأثرية فإننا واثقون ومعنا المجتمع الدولي المتحضر والمنظمات الدولية ذات الصلة، من أننا قادرون على ترميم وصيانة ما تم تخريبه وإعادة الحياة إلى هذا الموقع الأثري المتميز.
ويعتبر موقع نمرود التاريخي درة الحضارة الآشورية التي تأسست في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، وأحد أشهر الاكتشافات الأثرية خلال القرن العشرين في العراق مهد الحضارات.
وكانت القوات العراقية أعلنت أنها استعادت السيطرة على نمرود الواقعة على بعد نحو 30 كلم جنوب الموصل، آخر معاقل تنظيم الدولة الإسلامية في العراق.
وأشارت الهيئة في بيان لها إلى أنها شرعت بعد تحرير منطقة النمرود الأثرية خلال عمليات استعادة الموصل من تنظيم داعش، في جرد الأضرار التي لحقت مدينة النمرود الأثرية بعد ثلاثين شهرا من احتلال الدولة الإسلامية الذي دمر وجرف المدينة الأثرية.
وجاء في البيان أن الهيئة العامة للآثار والتراث بدأت في تشكيل فرق ميدانية لحصر وتقييم الأضرار التي أصابت المواقع الأثرية المحررة تمهيدا لخطوات الإسعافات الأولية والشروع في إنجاز مشاريع إعادة التأهيل. وناشدت المجتمعات المحلية القريبة من المواقع الأثرية المحررة الوقوف مع الهيئة وحماية الآثار في مدينة النمرود بعد تحرير المنطقة من قبضة الدولة الإسلامية.
وأقدم التنظيم المتطرف بعد سيطرته على المنطقة من ضمن الأراضي الشاسعة التي اجتاحها في عام 2014، على تجريف ما تبقى من الموقع الأثري كمكسب دعائي لعقيدته.
ونشر التنظيم الجهادي شريط فيديو العام الماضي، يظهر مقاتليه وهم يفجرون ما تبقى من القصر الشمالي الغربي الشهير، ويحطمون المنحوتات الحجرية في الموقع، مبررين ذلك بأنها أصنام مخالفة للشريعة الإسلامية.
تدمير الآثار
يقف علي البياتي فوق بقايا تمثال الثور المجنح العملاق الذي كان يحمي موقع نمرود الأثري القديم، بحسب الأسطورة، قبل أن يجتاح تنظيم الدولة الإسلامية المنطقة.
يقول المسؤول المحلي الثلاثاء “عندما كنا نأتي إلى هنا في السابق، كنا نتخيل كيف كانت الحياة” في ذلك العصر، “لكن الآن لم يبق أي شيء”.
ويضيف بحسرة “التماثيل مرمية على الأرض، والقصر الذي أعيد بناؤه بات أنقاضا، وبقايا الزقورة التي كانت أعمدتها أعلى ما بني في العالم القديم بارتفاع نحو 50 مترا، خسرت جزءا من ارتفاعها”.
ومن أهم التماثيل التي دمرها التنظيم الثيران المجنحة الشهيرة التي لها وجوه آدمية ويطلق عليها اسم “لاماسو” وتقف عند مداخل قصر “آشور ناصر بال الثاني” ملك الإمبراطورية الآشورية في القرن التاسع قبل الميلاد ومعابد قريبة من الموقع.
يقول البياتي وهو يتفحص الموقع الذي يبعد 500 متر فقط عن قريته ويزوره للمرة الأولى منذ عامين إن “الموقع تم تدميره بنسبة مئة في المئة”، مضيفا أن “خسارة نمرود أكثر ألما بالنسبة إلي من فقدان منزلي”.
وتقول وزارة السياحة والآثار العراقية إن المسلحين “في 3 أبريل 2015 ، فجروا المدينة وأبنيتها الأثرية المكتشفة بالكامل وهي كل من (قصر آشور ناصر بال الثاني الشمالي، ومعبد عشتار، ومعبد نابو) ولم يتبقّ من المدينة سوى الزقورة”.
وقد أثار ذلك ردود أفعال دولية غاضبة؛ إذ عقد مجلس الأمن الدولي اجتماعا طارئا أدان فيه ما وصفه بـ”الأعمال الإرهابية البربرية” التي ارتكبها مسلحو تنظيم الدولة الإسلامية في العراق، ومن ضمنها تدمير آثار تاريخية وثقافية نفيسة.
ونددت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو) بتدمير النمرود واعتبرته جريمة حرب وهجوما على التراث العالمي منوهة بدور بلاد ما وراء النهرين القديمة في تشييد الحضارة آنذاك حيث ازدهرت المراكز الحضرية الأولى وظهرت الكتابة المسمارية على الألواح الفخارية.
وكان مسلحو تنظيم الدولة اقتحموا مكتبة الموصل التي تضم نحو 8 آلاف من الكتب والمخطوطات النادرة في شهر يناير الماضي وحطموا الأقفال واستولوا على 2500 كتاب، وأبقوا على النصوص الإسلامية فقط، ثم أحرقوا الكتب التي صادروها.
البيع بالمزاد
أقدم تنظيم الدولة الإسلامية أيضا على تفجير ونهب البعض من آثار مدينة تدمر السورية، كما دمر أجزاء من الموقع المدرج على لائحة التراث العالمي. وطال التدمير أيضا مدينة الحضر التاريخية الواقعة في غرب العراق، وما تزال تحت سيطرة الجهاديين.
في نمرود كان هجوم الإرهابيين شرسا، لاعتبارهم أن تلك الآثار أصنام وأوثان محرمة بموجب تفسيرهم المتطرف للإسلام، لكن ذلك لم يمنعهم من نهب وبيع تلك الآثار، كمصدر لتمويل عملياتهم.
وكشفت وسائل الإعلام السنة الماضية، أن الآثار التي دمر تنظيم الدولة الإسلامية جزءا منها ونهب جزءا آخر، ظهرت على موقع المزادات الأول الشهير “إي باي”.
وظهرت على صفحات الموقع الإلكتروني قطع أثرية معدنية وقطع من الخزف والنقود والمجوهرات التي نهبت من العراق وسوريا، وتهرب هذه القطع الأثرية التاريخية عبر عصابات في تجارة الآثار، ما يدر على أفرادها أموالا وأرباحا طائلة، لتصبح الآن مصدر تمويل لتنظيم الدولة الإسلامية.
وتقول الشرطة الأوروبية (يوروبول) إن تنظيم الدولة الإسلامية يستخدم شبكة جديدة وواسعة لتجاوز الوسطاء التقليديين والوصول إلى المشترين مباشرة، إضافة إلى استعماله مواقع التواصل الاجتماعي.
وفي السياق نفسه أشارت تقارير إعلامية إلى أن تنظيم الدولة الإسلامية شكل مجموعات تنقيب سرية وقام بشراء أدوات جديدة من أجهزة الكشف عن المعادن والتنقيب عن الآثار لتهريبها إلى خارج البلاد وبيعها بصورة غير مشروعة.
ويوضح البياتي الذي يقود فصيلا مسلحا من الحشد العشائري، وهي عشائر سنية مناهضة لتنظيم الدولة الإسلامية، إنهم (الدواعش) “يريدون أن يصنعوا صورة جديدة للعراق، خالية من كل شيء له علاقة بما قبل الدولة الإسلامية”.
ويضيف “اعتقدت أن تنظيم الدولة الإسلامية دمر هذا المكان لأنه أراد تدمير العراق؛ العراق الجديد والقديم على حد السواء”.
ونقل العديد من آثار نمرود من الموقع إلى متاحف عدة بينها متحفا الموصل وبغداد، إضافة إلى متاحف في باريس ولندن وغيرهما. إلا أن أبرز القطع -لا سيما التماثيل الآشورية الضخمة للثيران المجنحة ذات الرأس البشري، والقطع الحجرية المنقوشة- بقيت في الموقع.
عاصمة آشور
قال الخبير العراقي في شؤون الآثار يحيى صالح، إن “مدينة نمرود لها أهمية تاريخية كبيرة فهي كانت عاصمة آشور خلال العصر الآشوري الحديث”.
وأضاف أن “العالم سيخسر معلما تاريخيا بارزا إذا لم تعمل المنظمات المعنية على صيانة وترميم الآثار بالتعاون مع الحكومة العراقية”.
واعتبر صالح أن “حجم الضرر الذي خلفه تنظيم الدولة الإسلامية كبير جدا؛ إذ دمر ما تبقى من جدران القصور والتماثيل مما يتطلب عملا مضنيا ودقيقا لإعادة تأهيل معالم المدينة”.
وقبل سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على المنطقة من ضمنها المدينة التاريخية في 2014 كانت “نمرود” من المواقع الأثرية المرشحة للإدراج على لائحة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو)، واسمها المعتمد هو الاسم العربي للمدينة التي كانت تعرف أساسا باسم “كلحو”.
وبدأت أولى التنقيبات فيها في العصور الحديثة على أيدي الأوروبيين في عام 1840. وكشفت التنقيبات عن كنوز أثرية ثمينة تتراوح بين أجزاء كاملة من القصور الملكية وتماثيل شخصية وتحف أثرية صغيرة.
وتوقف البحث في المنطقة عقودا إلى أن قام السير ماكس مالوان (عالم الآثار وزوج الكاتبة أغاثا كريستي) بالتنقيب في المنطقة من جديد في عام 1949، وكتب كتابه المهم عنها “نمرود وأطلالها”.
وواصل منقبون آثاريون آخرون التنقيب في المنطقة بعده، وبشكل خاص في سبعينات القرن الماضي حيث تم وضع سجل توثيقي فوتغرافي لآثار المنطقة وكنوزها الأثرية، التي يبدو أن بعضها قد دمر من قبل تنظيم داعش.
وأبرز الآثار التي عثر عليها في المدينة “كنز نمرود” الذي اكتشف في 1988، وهو عبارة عن 613 قطعة من الأحجار الكريمة والمجوهرات المصنوعة من الذهب.
ووصف العديد من علماء الآثار هذا الاكتشاف بأنه الأهم منذ اكتشاف قبر الملك الفرعوني توت عنخ آمون عام 1923.
ويعود تاريخ الكنز إلى نحو 2800 عام، وأخفته السلطات العراقية بعد فترة قصيرة من العثور عليه.
وعثر على الكنز محفوظا في البنك المركزي العراقي، بعد أسابيع من سقوط نظام الرئيس السابق صدام حسين إثر دخول القوات الأميركية بغداد في 2003.
وبحسب مسؤول عراقي يعمل في مجال الآثار، أعيد الكنز بعد وقت قصير من إعادة اكتشافه، إلى خزنة في البنك المركزي حيث لا يزال هناك.
ويرى الخبراء أن الوثائق والصور التي تتعلق بآثار المدينة ستساهم بشكل فعال في إعادة ترميم المدينة إذا سنحت الظروف وتوفرت الإمكانيات.
لكن يبدو أن هذا الأمر سيستغرق وقتا قبل أن يتمكنوا من الوصول إلى المكان؛ إذ أن المتطرفين الذين تسعى القوات العراقية إلى طردهم ما زالوا متواجدين على بعد عدة كيلومترات. كما أن أصوات الانفجارات المتقطعة ما زالت مسموعة.
وإضافة إلى ذلك، يحتاج الموقع إلى تطهير كامل من العبوات الناسفة التي وضعها التنظيم المتطرف.
ويقول الملازم وسام حمزة من الفريق الهندسي في الجيش العراقي وهو يسير بحذر في أرجاء الموقع “هناك الكثير من العبوات والكمائن المشتبه بها”، مضيفا “لذا، نريد العثور عليها وتطهير المكان حتى يمكن القول إنه آمن”.
نقلا عن العرب