كتب: د. عبد الرحيم ريحان
القاهرة “المسلة” ….. جاء الإسلام بالتسامح من منطلق آيات القرآن الكريم وتعاليمه التى تفرض على المسلم حاكمًا أو محكومًا ما يأتى:-
1 – الاعتراف بكل الأديان والرسالات السماوية السابقة
}والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون{ سورة البقرة آية 4.
}آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لانفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير{ سورة البقرة آية 4.
2 – عدم إكراه أى شخص على ترك دينه }ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض كلهم جميعًا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين{ سورة يونس 99.
3 – مجادلة أهل الكتاب بالحسنى
}أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين{ سورة النحل 125.
}ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتى هى أحسن إلاّ الذين ظلموا منهم وقولوا آمنّا بالذى أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون{ سورة العنكبوت 46.
4 – مجاهدة المشركين حتى لا يعتدوا على أهل الملل المختلفة فيهدموا أماكن عبادتهم
}الذين أخرجوا من ديارهم بغبر حق إلاّ أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرّن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز{ سورة العنكبوت 46.
والصوامع جمع صومعة وهى قلاّية الراهب والبيع جمع بيعة وهى كنيسة المسيحيين والصلوات هى كنائس اليهود
العهدة النبوية
طبقًا لتعاليم الإسلام السمحة أعطى رسول الله (صلّى الله عليه وسلم) عهد أمان للمسيحيين يؤمنهم فيه على أرواحهم وأموالهم وبيعهم يعرف بالعهدة النبوية محفوظ بمكتبة دير القديسة كاترين صورة منه بعد أن أخذ السلطان سليم الأول النسخة الأصلية عند فتحه لمصر 1517م وحملها إلى الأستانة وترك لرهبان الدير صورة معتمدة من هذا العهد مع ترجمتها للتركية وهذا نصه
( بسم الله الرحمن الرحيم وبه العون، نسخة سجل العهد كتبه محمد بن عبد الله رسول الله (صلى الله عليه وسلم إلى كافة النصارى هذا كتاب كتبه محمد بن عبد الله إلى كافة الناس أجمعين بشيراً ونذيرًا ومؤتمناً على وديعة الله فى خلقه لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيما. كتبه لأهل ملته ولجميع من ينتحل دين النصرانية من مشارق الأرض ومغاربها قريبها وبعيدها، فصيحها وعجميها، معروفها ومجهولها كتاباً جعله لهم عهدًا فمن نكث العهد الذى فيه وخالفه إلى غيره وتعدى ما أمره كان لعهد الله ناكثاً ولميثاقه ناقضاً وبدينه مستهزئاً وللّعنة مستوجبًا، سلطاناً كان أو غيره من المسلمين المؤمنين. وان احتمى براهب (راهب) أو سايح فى جبل أو وادى أو مغارة أو عمران أو سهل أو رمل أو ردنة أو بيعة فأنا أكون من ورائهم ذاباً عنهم من كل عدة لهم بنفسى وأعوانى وأهل ملتى واتباعى لأنهم رعيتى وأهل ذمتى. وانا أعزل عنهم الأذى فى المؤن التى يحمل اهل العهد من القيام بالخراج إلاّ ما طابت به نفوسهم وليس عليهم جبر ولا اكراه على شئ من ذلك
ولا يغير أسقف من أسقفيته ولا راهب من رهبانيته ولا حبيس من صومعته ولا سايح من سياحته. ولا يهدم بيت من بيوت كنائسهم وبيعهم ولا يدخل شئ من بناء كنايسهم فى بناء مسجد ولا فى منازل المسلمين. فمن فعل شئ من ذلك فقد نكث عهد الله وخالف رسوله. ولا يحمل على الرهبان والأساقفة ولا من يتعبد جزيةً ولا غرامة وأنا أحفظ ذمتهم أين ما كانوا من بر أو بحر فى المشرق والمغرب والشمال والجنوب. وهم فى ذمتى وميثاقى وأمانى من كل مكروه. وكذلك من يتفرد بالعبادة فى الجبال والمواضع المباركة لا يلزمهم مما يزرعوه ولا (لا) خراج ولا عشر ولا يشاطرون لكونه برسم أفواههم. ويعاونوا عند ادراك الغلة باطلاق قدح واحد من كل أردب برسم أفواههم. ولا يلزموا بخروج فى حرب ولا قيام بجزية ولا من أصحاب الخراج وذوى الأموال والعقارات والتجارات مما أكثر من اثنا (اثنى) عشر درهم بالجمجمة فى كل عام ولا يكلف أحداً منهم شططا. ولا يجادلوا إلاّ بالتى هى أحسن. ويحفظ (ويخفض) لهم جناح الرحمة ويكف عنهم أذى المكروه حيث ما كانوا وحيث ما حلوا. وان صارت النصرانية عند المسلمين فعليه (فعليهم) برضاها وتمكينها من الصلوة فى بيعها ولا يحيل (يحال) بينها وبين هوى دينها. ومن خالف عهد الله واعتمد بضده (بالضد) من ذلك فقد عصى ميثاقه ورسوله. ويعاونوا على مرمّة بيعهم وصوامعهم ويكون ذلك معونة لهم على دينهم وفعالهم بالعهد. ولا يلزم أحداً منهم بنقل سلاح بل المسلمين يذبوا عنهم ولا يخالفوا هذا العهد أبداً الى حين تقوم الساعة وتنقضى الدنيا. وشهد بهذا العهد – الذى كتبه محمد بن عبد الله رسول الله صلّى الله عليه وسلم لجميع النصارى والوفاء بجميع ما شرط لهم عليه – من أثبت اسمه وشهادته آخره
(وكتب على بن أبى طالب هذا العهد بخطه فى مسجد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بتاريخ الثالث من المحرم ثانى سنى الهجرة واودعت نسخته فى خزانة السلطان وختم بخاتم النبى. وهو مكتوب فى جلد ادم (أديم) طايفى . فطوبى لمن عمل به وبشروطه ثم طوباه وهو عند الله من الراجين عفو ربه والسلام).
وفى نهاية الوثيقة تعريف بكيفية نقل هذه النسخة من الوثيقة الأصلية هذا نصها
(نقلت هذه النسخة من النسخة التى نقلت من النسخة المنقولة الكائنة (الكاينة) بخط امير المؤمنين على بن ابى طالب كرّم الله وجهه بالأمر الشريف السلطانى لازال نافذاً بعون المعين السبحانى ووضعت فى ايدى طايفة الرهبان القاطنين بجبل طور سيناء لكون النسخة المنقولة من النسخة الكائنة بخط امير المؤمنين (ضائعة) وليكون سنداً على ما يشهد المراسيم السلطانية والمربعات والسجلاّت التى فى أيادى الطايفة المزبورة )
وهذه النسخة مذيلة بختم المولى بمصر المحروسة وتصديقه بخطه غير المنقوط هكذا:-
(حرر بأمرى وقرّر بمعرفتى راجى العفو إلى العلى العلام محمد بن عبد القادر المولى بالمحروسة مصر حميت عن البلية والاحن (والمحن) عفى عنهما)
(الختم)
(الواثق بالملك القادر محمد بن عبد القادر)
صحة العهدة
يدل تاريخ الإسلام على أنه فى السنة السابعة للهجرة 628 – 629م أرسل النبى محمد (صلّى الله عليه وسلم) كتبه إلى الملوك والأمراء مثل كسرى وقيصر والمقوقس نائب الرومان فى مصر يدعوهم للإسلام وأن المقوقس أكرم مندوب النبى وزوده بالهدايا إلى النبى وليس لمندوب النبى طريق مختصر إلى مصر سوى طريق سيناء المار بالدير فمن المعقول جدًا أن يكون مندوب النبى قد مرّ بدير سيناء ذهابًا وإيابًا وأن رهبان سيناء قد احتاطوا لأنفسهم وأرسلوا معه وفدًا يطلع النبى على حال ديرهم ويطلب منه العهد تأمينًا للطريق وصيانة لديرهم ومصالحهم
وهناك عدة أدلة تؤكد صحة هذه العهدة
1 – أن دير طور سيناء هو فى طريق مصر من بلاد العرب ومن مصلحة العرب كما هو من مصلحةالرهبان تأمين الطريق إلى مصر.
2 – ان التاريخ يدلّنا أن النبى قد حبب إليه النسك والزهد وكان كثيراً ما يذهب إلى غار حراء قرب مكة ليتعبد ويذكر الله فيه حتى بعث للناس بشيراً ونذيراً، لذلك كان يميل إلى الرهبان والنسّاك ويوصى بهم خيراً.
}لتجدنّ أشدّ الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدّن أقربهم مودّة للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون{ سورة المائدة آية 82.
وقد ورّث النبى هذا الميل لخلفائه من بعده، فلقد خطب ابو بكر الصديق فى جيشه عند إرساله لفتح سوريا فقال:- (إذا لقيتم العدو فقاتلوه مستبسلين والموت أولى بكم من القهقرى ، وإذا انتصرتم فلا تقتلوا الشيوخ ولا النساء ولا الأطفال ولا تقطعوا النخيل ولا تحرقوا الزرع ولا تذبحوا من الماشية إلاّ ما كنتم فى حاجة إليه لقوتكم وأمّنوا من ذل لكم ورغب فى أداء الجزية ولا تخلفوا وعدكم ولو لأعدائكم وسترون فى طريقكم رجالاً متوحدين ناسكين فاحتفظوا بهم ولا تمسوا أديارهم بضرر، وأهلكوا اليهود إلاّ أن يسلموا)
3 – لقد جرت عادة النبى وخلفائه من بعده إعطاء العهود للمسيحيين ومعاملتهم بروح التسامح من ذلك
– عهد النبى لأهل أيلة
– عهد النبى لأهل أذرح ومقنا
– عهد خالد بن الوليد لأهل القدس
– عهد أبى عبيدة لأهل بعلبك
– عهد عبد الله بن سعد لعظيم النوبة
4 – أن رهبان طور سيناء قد سكنوا أرضًا يقدسها اليهود والمسيحيون والمسلمون والوثنيون على السواء، وفى تقاليد أهل سيناء والرهبان أن النبى زار طور سيناء بنفسه وترك فيه أثرًا لقدمه، وقد ذكر طور سيناء فى القرآن الكريم، لذلك من المستبعد أن يخيّب رسول الله (صلّى الله عليه وسلم) طلب سكانه ولا سيما الرهبان والنسّاك الذين كان من طبعه الميل إليهم مع انه أعطى العهد لجيرانهم أهل أيلة
5 – أن سلاطين المسلمين أقرّوا هذه الامتيازات المبينة فى العهدة النبوية وذكروها فى فرماناتهم ومنشوراتهم لمطارنة الدير ، بل ذكروا إنما أعطوهم هذه الامتيازات بناءاً على العهد الذى أخذوه عن النبى وأيده الخلفاء الراشدون.
6 – أنه لا يعقل أن قومًا مستضعفين كرهبان سيناء يقدمون فى وسط بلاد إسلامية على اختلاق عهد عن لسان نبى الإسلام لا أصل له ويطلبون فيه من السلاطين المسلمين الامتيازات الجمة بل لو أقدم رهبان سيناء على مثل هذا العمل فلا يعقل أن سلاطين المسلمين من عهد الخلفاء الراشدين إلى هذا العهد يقرّون رهبان سيناء على ما اختلقوه ويمنحوهم من الامتيازات ما فيه خسارة لبيت المال بدون تثبّت أو تحقيق عن الأصل.
وأرى أن هذه العهدة صحيحة لأنها تتفق مع تعاليم الإسلام السمحة والذى شهد بها أيضا كثير من مؤرخى الشرق والغرب الغير مسلمين ومنهم على سبيل المثال لا الحصر:-
– مينارديس Meinardus الذى يذكر أن الدير تمتع فى القرن السابع الميلادى بحماية ومميزات خاصة حافظت على ممتلكاته ومكتبته العظيمة، وعاش مطارنة ورهبان كاترين فى علاقة ود مع الحكومة المصرية نتيجة عهد الأمان بل وأصبح دير كاترين فى طريق حجاج المسلمين إلى مكة حيث يزورون الجامع الفاطمى وتركوا كتابات عديدة لهم بمحراب الجامع، وبالمكتبة مائتى فرمان أصدرها الخلفاء المسلمون كعهود أمان لحماية الدير ابتداء من القرن الثانى عشر حتى التاسع عشر الميلادى
– المؤرخ أماندوس ومن أقواله (لم يكن فى الإمكان إنقاذ دير سيناء بغير حماية النبى محمد (صلّى الله عليه وسلم) وخلفاؤه)
– ويذكر كويلرينج أن المسلمين لم يحملوا أحدًا من المسيحيين أو اليهود على اعتناق الإسلام أثناء فتوحاتهم وأقر الإسلام لأهل الكتاب بحرية التدين وإقامة شعائرهم وكل ما طالبهم به هو أن يعترفوا للدين الجديد بالسيادة المدنية والسياسية التى تمثلت فى الدولة الإسلامية
– ونقل جاك تاجر عن بطريرك اليعقوبيين فى إنطاكية ميخائيل السورى قوله بأن إنقاذهم من أيدى اليونانيين جاء على يد أبناء إسماعيل الذين جاءوا من الجنوب، وقد أصابهم خير كثير بتحررهم من قسوة الرومان وشرورهم وسادت الطمأنينة بينهم
– ويذكر ترتون أنه فى العهد الإسلامى كثر استخدام الكنائس وبيوت العبادة فى المدن العربية وكان أتباع الديانات المختلفة يتلقون العلم على أيدى أساتذة مسلمون، ولم تخل دواوين الدولة من العمال المسيحيون واليهود وكانوا يتولون أرفع المناصب وأخطرها فاكتنزوا الثروات الضخمة وتكاثرت لديهم الأموال
– ويذكر سومرز كلارك أن العربى لم يدخل مكتسحًا كل شئ سابق عليه لذلك بدأ فن بناء الكنائس فى الانتعاش ويذكر Galey جالى لقد أبدى المسلمون تسامحًا تجاه الدير أكثر من المسيحيين.
واعتبر الخلفاء المسلمون عهد الأمان بالدير نبراسًا لهم لإعطاء عهود مماثلة، واعتبر الأتراك أن هذه سنة عن الرسول عليه الصلاة والسلام واجب اتباعها، واستمرت الحياة الروحية داخل الدير فى العهد الإسلامى ووصل المسيحيون لمناصب إدارية هامة فى الحكومة، وكانوا جامعى للضرائب ونبغوا فى الطب والتجارة، وكان لليهود والمسيحيين أنشطة تجارية ويتعاونوا مع المسلمين فى التجارة والصناعة
فتح مصر
بعد فتح مصر أعطى عمرو بن العاص رضى الله عنه المسيحيين أماناً جاء فيه-:
(هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم وبرهم وبحرهم لا يدخل عليه شئ ولا ينتقص ) وكان دائما يوصى فى خطبه المسلمين بمراعاة الأقباط والمحافظة على حسن جوارهم قائلاً لهم (استوصوا بمن جاورتموه من القبط خيراً).
وذكر المؤرخ الكنسى ساويرس بن المقفع أن عمرو بن العاص لم يرتكب أعمال السرقة والنهب التى كانت تحدث زمن الرومان على الكنائس والأديرة المسيحية فى مصر، وكان موقف عمرو بن العاص من بطريرك الأقباط اليعاقبة بنيامين (609- 648م) الذى كان هاربًا من الحاكم البيزنطى قيرس أن بعث رسالة إلى سائر البلاد المصرية يقول (فليظهر الشيخ البطريرك مطمئناً على نفسه وعلى طائفة القبط جميعهم التى بالديار المصرية وغيرها آمنين على أنفسهم من كل مكروه) وعاد البطريرك وأكرمه عمرو بن العاص وأمر له أن يتسلم الكنائس وأملاكها ولقد ساعد عمرو بن العاص المصريين فى بناء الكنائس وترميمها التى تهدمت إبان حكم البيزنطيين
ولم تتدخل الحكومات الإسلامية المتتابعة فى الشعائر الدينية عند أهل الذمة بل كان بعض الأمراء والخلفاء يحضر مواكبهم وأعيادهم، وكان أبناء مصر من المسلمين يشتركوا مع المسيحيون فى هذه الاحتفالات، ولم يعرف عن حكام مصر أنهم عارضوا فى تعيين أحد البطاركة بعد أن يتم انتخابه بواسطة الأساقفة إلاّ إذا اختلف الأساقفة فيما بينهم.
ولقد بنيت الكنائس والأديرة فى العهد الإسلامى وكان أولها كنيسة الفسطاط التى بنيت فى عهد مسلمة بن مخلد 47-68هـ وبنى ديرى حلوان بعد الفتح الإسلامى لمصر بنحو أربع وخمسون عاماوحتى نهاية القرن الثانى عشر الميلادى كان عدد كنائس مصر وأديرتها قد وصل إلى 2084 كنيسة، 834 ديروأن التسامح الدينى الذى قام فى العصر الإسلامى لم تكن تعرفه أوروبا فى العصور الوسطى، بل أنها لم تعرفه إلاّ بعد الثورة الفرنسية.