مؤتمر الجمعية الفلسفية المصرية #الهُويَّةُ والاختلاف# يختتم أعماله
الإسكندرية "المسلة"…. شهدت مكتبة الإسكندرية على مدار ثلاثة أيام فعاليات المؤتمر السادس والعشرين للجمعية الفلسفية المصرية والذي أقيم تحت عنوان (الهوية والاختلاف). وقد استضاف مركزُ المخطوطات بمكتبة الإسكندرية الأيام الثلاثة الأولى للمؤتمر في الفترة من 5 إلى 7 ديسمبر، في حين يستضيف المعهد السويدي الثلاثة أيام المتبقية. وتُهدى فعاليَّات المؤتمر هذا العام إلى روح المرحوم الدكتور إبراهيم بيومي مدكور؛ الرئيس السابق للجمعية الفلسفية.
وكان قد افتتح المؤتمر كل من معالي الوزير الأسبق محمود حمدي زقزوق، والأستاذ الدكتور حسن حنفي. وشارك في المؤتمر نخبة من علماء الفلسفة العرب من مصر، الجزائر، فلسطين، الأردن، والسودان، إلى جانب الباحث الإيطالي جوزيبي سكاتولين.
وقال الدكتور مدحت عيسى؛ مدير مركز المخطوطات، في افتتاح المؤتمر، إن مكتبةُ الإسكندرية الجديدة تشرُف بأن تحتضنَ بين أروقتِها العلميةِ المؤتمرَ السادسَ والعشرين للجمعية الفلسفية المصرية، حيث يلتقي صفوةُ العلماء والمفكرين لمناقشةِ قضايا أخلاقيةٍ وفكريةٍ تسهم في حل المشكلات الإنسانيةِ الكبرى، وتضع التساؤلاتِ التي تعمِّق مفاهيمَ النقدِ والمساءلةِ للذاتِ والآخر.
وأشار إلى أن المحورَ الأساسَ الذي يقوم عليه مؤتمرُ الجمعية الفلسفية هذا العامْ يناقشُ ثنائيةً من الثنائياتِ الأكثرِ عمقاً وتجذراً في التاريخِ الإنساني (الهوية والاختلاف). أما الهويةُ فتعدّدتْ مفاهيمُها وتعاريفُها، وأكثرُ التعاريف إجمالاً أنها حقيقة الشيء من حيث تميزه عن غيره، وهي كلُّ ما يشكّل شخصيّتَه من مشاعرَ وأحاسيسَ وقيمٍ ومواقفَ وسلوك؛ بل وكلُّ ما يميّزه عن غيره من النّاس. ولا تستطيع الجماعة أو الفرد إنجاز مشروع مهما كان نوعه أو حجمه، دون أن تعرِّف نفسها، وتحدد مكانها، ودورها، وشرعيةَ وجودِها كجماعة متميزة.
وأضاف أن العرب يعيشون أزمة في انتمائهم لهويّة مشتركة يؤسَّس عليها الخطاب، وغالباً ما تتحول كثرة الانتماءات إلى أداة للصراع مع الآخر حتى إنها تصل إلى ذريعة للقتل، كما يحدث اليوم، ما يوسِّع دائرة الخلاف بين العرب أنفسهم، فكلٌّ منهم يحاول تأسيس خطابه بناءً على مبادئَ وأفكارٍ خاصّةٍ به لا يشترك بها مع غيره.
وأكد أن الهوية ليست أمرًا بسيطًا، بل هي أمرٌ يتنافى مع أحادية الفكر، ويتعارض مع التبسيط المخل الذي يذهب إليه كثيرون في حديثهم عن هذه الظاهرة المهمة. وللهوية المصرية روافدُ عديدة، كتب عنها المفكرون في الماضي والحاضر، ومن مكوناتها المتعددة وروافدِها المتداخلة: إرثَ قدماء المصريين، إرثَ الثقافة الهللينستية، إرثَ الثقافة المسيحية العريقة بمصر، إرثَ الثقافة العربية، إرثَ الثقافة الإسلامية، وإرثَ البعد الإفريقي.
ولفت إلى محاولات البعض لاختزال الهوية في بُعدٍ واحد دون الاعتراف بأن الأبعاد الأخرى لها تأثيرها ولها مكانتها، وأن عالمنا المتعدد الأبعاد كثيرًا ما يتفاعل مع المكونات المختلفة بطرق مختلفة، وأن الذين يفرضون أحادية النظر وأحادية الرؤية يخطئون كل الخطأ، بل يفرضون على الناس خيارات تؤدي إلى الاستقطاب الثقافي والصراع الأيديولوجي والتفكك المجتمعي.
وأضاف أن الناس يختلفون ويتفقون وسيفعلون ذلك طوال تاريخهم؛ أيا كان نوع هذا الاختلاف، في مصالحَ أو عَلاقاتٍ أو أطماعٍ أو حقوقٍ أو غير ذلك، وهو من المسلَّمات، إلا أن الأخلاق التي أقرّتها الأديانُ وحمتها المبادئ وصوّرتها الإنسانية هي التي تضع للخلافات أطرا مُحدَّدةً وخطوطا حمراء يجب عدمُ تجاوزِها. ونطاقُ القانون هو في الواقع أقل سعة من نطاق الأخلاق. ذلك أن القانون إنما يهتم فقط بقسم من أعمال الإنسان وتصرفاته لا بها كلها، وهذا القسم يتضمن التصرفات التي تدخل في نطاق سلوكه الاجتماعي وتتصل بعلاقاته مع غيره من أفراد المجتمع، بينما تشمل قواعد الاخلاق هذا النوع من تصرفات الانسان، وتشمل أيضا تصرفاته الخاصة التي تدخل في نطاق سلوكه الفردي حتى ولو لم يكن لها من أثرٍ في علاقاته بالآخرين.
ولفت إلى أن رموز عصر التنوير (أمثال هوبز، ولوك، وروسو، ومونتسكيو) طرحوا مفهوماً للمواطنة يقوم على العَقد الاجتماعي ما بين أفراد المجتمع والدولة أو الحكم، وعلى آليةٍ ديمقراطية تحكم العلاقة بين الأفراد أنفسهم بالاستناد إلى القانون. وعليه فقد ساد مفهوم المواطنة، حيث تحول المواطن إلى ذاتٍ حقوقية وكينونةٍ مستقلة، بعد أن كانت القبيلة أو العشيرة أو الوحدة العضوية هي ذلك الإطار الذي ترتبط علاقاته بالآخرين بناءً على موازين القوى ومنطق القوة أصلاً. ومع انتصار الثورة الصناعية البرجوازية، أخذت القضية شكلاً جديداً هو الحقوق المدنية في الدساتير مع استمرار استغلالهم واضطهادهم في الواقع.
وأكد أن أهم تساؤل يطرح في خضم الحوار بين الحضارات والثقافات في الدائرة العربية والإسلامية هو: من سيعبّر عن الهوية العربية؟ فمع تعدد الخطابات داخل هذه الدائرة بين خطاب ليبرالي وإسلامي وغيره، تباينت وجهات النظر حول من يحاور «الآخر»، وحول منطلقات الحوار ومرجعيته. وما لا شك فيه، أن تعدد المرجعيات داخل الدائرة العربية والإسلامية يؤثر في مناقشة الكثير من القضايا موضوع الحوار، لاسيما المرتبطَ منها بالهوية. فالخطاب العربي والإسلامي المعاصر يتسم بالثنائية والانقسام إلى معسكرين يتبادلان الاتهامات: معسكر حداثي ومعسكر إسلامي، وهذا لا يتناسب مع تعقيدات الواقع الراهن. هذا الخطاب لا يزال إما تائهاً في الآخر، أو غارقاً في الذاتية، ولغة الحوار هي اللغة النافية للآخر.
وقال إن مناهضة حرية التعبير اليوم بتوهم تناقضِها مع ثوابت الدين مردود عليه بأنّ النصوص الدينية والممارسات التاريخية يشهدان على رفع هذا التناقص المزعوم، وقد اتسع الإطار الفكريّ للإسلام في احتواء كلّ المعارف والفلسفات السابقة عليه، وإذا كان من المناسِب لحالة تاريخية واحدة تجلت فيها مظاهر الحرية والتنوير إبان السيادة الإسلامية وانتهت بانقضائِها تمامًا، فإن الدولة الأندلسية نموذج بليغ على ذلك، فقد قامت في قلب القارة الأوروبية واستمرت أكثر من سبعة قرون منذ فتح الأندلس عام 711م حتى بعد سقوط غرناطة عام 1492م، وتعايشت فيها الأديان الثلاثة اليهودية والمسيحية والإسلام تعايشاً مثاليّا لا نظير له.
واختتم عيسى كلمته بدعوة للسعي نحو مجتمعٍ متصالح مع نفسه يرحب بالتعددية والتواصل مع الأمم والثقافات الأخرى؛ مجتمعٍ يسوده العقلانية والتحضر ويشجع التغيير السياسي والفعالية الاجتماعية بشكل قانوني؛ مجتمعٍ تُدرَّس وتُمارس فيه قيم العلوم ويقدر الفنون والإنسانيات؛ مجتمعٍ يحوي منظومة تعليمية تساعد على ترسيخ هذه القيم وتنمية المواهب والإبداع.
وقد شهد المؤتمر عدد من الجلسات التي ناقشت موضوعات عدة؛ منها: المنطق والميتافيزيقا، الهُويَّة والذاتية، مكونات الهُويَّة، اللغة والهُويَّة، الهُويَّة بين الخاصِّ والعامِّ، والهُويَّة والعولمة.
وفي جلسة بعنوان "مكونات الهُويَّة"، تحدثت الدكتورة يمنى طريف الخولي؛ أستاذ فلسفة العلوم ورئيس قسم الفلسفة بكلية الآداب بجامعة القاهرة، عن الهُويَّة والقومية الشخصية الحضارية، مؤكدة أننا تحولنا لدول أفراد وفشلنا في أن نكون دول مؤسسات، وأن وجود الجماعات المتطرفة في عالمنا هو نتيجة حتمية لعدم قدرتنا على الحفاظ على هويتنا وقوميتنا.
وتحدث الدكتور أشرف منصور؛ أستاذ مساعد في الفلسفة بجامعة الإسكندرية، عن الهُويَّة السياسية في نظريات الديمقراطية الشعبية، مؤكدًا أن الديمقراطية الحقيقية هي الديمقراطية الشعبية القائمة على الهوية، وإقرار دستور ونظام سياسي يعبر عنها وليس من الضروري أن يمثلها.
وأكد أن الهوية عادة ما يساء فهمها، لأنها ترتبط بالليبرالية، خاصة النمط الغربي. وشدد على أن الديمقراطية الحقيقة تكمن في مشتركات الهوية لا الاختلاف، فليس هناك في الديمقراطية انفصال واختلاف بين الحاكم والمحكوم. وأضاف أن مفهوم الثورة يأتي بمفهوم القوة التأسيسية، فكل دستور في العالم هو نتيجة لحظة تأسيسية تعبر عن هوية الشعب.
وتناول الدكتور مصطفى بلبولة، الأستاذ بجامعة حسيبة بن بوعلي بالجزائر، الهُويَّة اللُّغوية بين الصورة الداخلية للسان ورؤية العالم، مبينًا أن الدراسات الحديثة أكدت أن اختلاف الألسن توجه إدراك الأمم للعالم، وأن البيئة السطحية للسان تعكس صور ملموسة لنمط التفكير وذهنية الامة.
وأكد على وجود تناسب بين عقلية الأمة واللسان الذي يعبر عنها، فنحن نفكر باللغة وفي اللغة ووفقًا لها. ولفت إلى أن خصوصية اللغة وبنية لغتها متحدان اتحاد داخلي، فإذا فهمنا أحد الطرفين استطعنا إدراك الآخر. وأضاف أن تنوع الألسن يساوي تنوع الفكر، فكل أمة تنظر إلى العلم بطريقتها الخاصة.
وعن اللغة والهُويَّة، تحدث الدكتور هيثم السيد عن القطيعة المنطقية للغاتنا القومية، تحديدًا للهُويَّة العربية، مبينًا أن المنطق بلغاته الصورية وأدواته المحكمة كان ولايزال الخيار الأنسب لفض إشكالية اللغة، حيث تستخدم الدلالة الصورية في المعالجة المنطقية للغة لمعالجتها حاسوبيًا.
ولفت إلى أن الإنجاز التطبيقي في علم المنطق يساعد في خروج برمجيات حاسوبية عربية مؤسسة على المنطق، وانساق منطقية خاصة باللغة العربية. وأضاف أن الاتجاه التطبيقي في علم المنطق أصبح واقعًا ملموسًا وأن ما تم إنجازه من دراسات سيكون مدخل لدراسات مستقبلية جديدة.
وقال إن معظم العمل المنطقي العربي المعاصر يبرهن على قطيعة منطقية بين المناطقة العرب ولغتهم الأم، مما أدى إلى انعدام بحوث الدلالة الصورية في اللغة العربية، وأن استمرار هذه القطيعة الغير مبررة يمثل تحديًا بالغًا لهويتنا العربية. وأكد أن الاتجاه التطبيقي في علم المنطق هو الخيار المنطقي العربي الأوحد المطروح لمعالجة لغتنا القومية منطقيًا توطنة لمعالجتها حاسوبيًا صيانة لهويتنا العربية.
وتحدث في نفس الجلسة الدكتور بكري خليل؛ أستاذ الفلسفة بجامعة السودان، عن مفهوم الهُويَّة وأسئلة التماثل والاختلاف، مبينًا أن انبعاث قضية الهوية هو ظاهرة عالمية، ليس انبعاثًا جهويًا، كما أن موضوع الهوية موضوع تاريخي يتصل بالتطورات التي تحدث في العالم، وتعد مجتمعاتنا مجتمعات فراجيلية تتأثر بالصراعات المحيطة بالوطن العربي.
وأكد أن مسألة انبعاث الهويات وإحياء الثقافات واللغات الطرفية ظاهرة ترتبط بالقضية العامة لمسألة التحرر الوطني في البلاد الحديثة الاستقلال من التحرر العام إلى الهوية. الأزمة العامة تعبر عن نفسها في شكل مشكلات هوية وصراعات الهويات الثانوية ضمن الانبعاث الاثني في عالم العولمة الذي يؤدي إلى نوع من أنواع التمدد في أفكار العولمة وانكماش في اتجاه التضاد.
وأضاف: "تأتي مسألة اللغة في التكوينات التعددية كظاهرة تعبر عن احتواء النظم السياسية الحاكمة لتكتلات الجماعات التي تسمى هامشية. وهنا يمكن السؤال: هل تستطيع وحدة اللغة والجماعة والثقافة التي تأتي ضمن الضغوط الخارجية والتدخلات باسم الأقليات للتأثير في مجريات السياسات الداخلية وتوجيه التطور في المنطقة؟"
وفي إطار محور الهُويَّة والعولمة، تساءل الدكتور جيلالي بوبكر عما إذا كان دعاة العولمة يحترمون ثقافتنا، وما الذي يجب علينا أن نفعله ونحن في موقف ضعف علميًا واقتصاديًا وتكنولوجيًا. هل الحل هو التغريب والانصهار في الآخر أو التقوقع والانكفاء على الذات أو الوقوف موقف المتفرج؟ مشددًا على أن الحل هو التعلم واستخدام الحوار والنقد والإبداع للحفاظ على هويتنا.
وقال الدكتور حسين البنهاوي أن العولمة بجوانبها المختلفة تميل إلى تنميط المجتمعات، وتحويل الثقافات والهويات إلى ثقافة استهلاكية تتسق مع المجتمعات الغربية الأكثر حاكمية.