سياحة التراث وتنمية مقومات القرى الاقتصادية بقلم د. عبد العزيز الغدير
بقلم : د. عبد العزيز الغدير
كثيرة هي أسباب الهجرة من القرى إلى المدن الرئيسة ومن ذلك توافر الخدمات التعليمية والصحية وخدمات البنى التحتية والوظائف والفرص الاستثمارية، والدولة رعاها الله التفتت إلى مشكلة الهجرة الداخلية التي أدت إلى اتساع المدن الرئيسة كالرياض والدمام وجدة بشكل كبير ومتسارع في حين بقيت الكثير من المناطق تنمو بشكل بطيء جداً بل إن بعضها يتناقص سكانياً بمرور الزمن.
خطط التنمية المتوازنة التي استهدفت بها الدولة جميع مناطق المملكة بتوفير الخدمات والمقومات الاقتصادية هدفت في محصلتها لتوفير جميع الخدمات الصحية والتعليمية وخدمات البنى التحتية والفرص الوظيفية والاستثمارية في أنحاء المملكة كافة، ولا شك أن الكثير قد تحقق حيث انتشرت المدارس والجامعات والمعاهد والطرق وخدمات الكهرباء والماء والإنارة والخطوط السريعة والطرق الداخلية في أنحاء المملكة كافة.
كما انطلقت مشاريع اقتصادية لتنمية المقومات الاقتصادية أيضاً، ومن ذلك المدن الاقتصادية، ولا شك أن وجود الجامعات والمعاهد والمستشفيات والمطارات الداخلية والمدن الاقتصادية حركت النشاط الاقتصادي في جميع مناطق المملكة من مدن وقرى ومراكز ومن مظاهر ذلك البارزة ارتفاع الأسعار في تلك المناطق بما وفر أموالا وفيرة لسكانها مكنتهم من الاستثمار وتنمية إمكانياتهم بعد أن كانت أملاكهم لا تساوي إلا بضعة آلاف من الريالات.
لا شك أن القطاع السياحي من القطاعات الاقتصادية المهمة والحيوية التي يمكن أن تدعم اقتصادات الكثير من القرى والمراكز وبالتالي تحد من الهجرة الداخلية للمدن وتعزز الهجرة العكسية خصوصاً أن بلادنا تزخر بالكثير من المواقع السياحية الأثرية في معظم القرى والمراكز إضافة إلى ما تتمتع به هذه القرى والمراكز من مميزات سياحية في مجال السياحة الريفية والسياحة البرية وهما سياحتان يقبل عليهما السعوديون وأبناء الخليج العربي بشكل كبير لتناسبهما مع ثقافة المنطقة وتاريخها وأصالتها.
سياحة الآثار تعتبر أحد أهم مقومات السياحة في مصر، حيث تنتشر الآثار الفرعونية وفي إسبانيا حيث تنتشر الآثار الإسلامية، ولا شك أن بلادنا تنعم بكم هائل من الآثار يمكن أن يدعم السياحة الداخلية والخارجية، والجميل في الأمر أن معظم الآثار السياحية تنتشر في المدن الصغيرة والقرى وبالتالي يمكن استثمارها في تعزيز اقتصاداتها بما يوفر الفرص الوظيفية والاستثمارية لساكنيها خصوصاً إذا نشطت هذه المدن والقرى في مهرجانات سنوية انطلاقا من ميزاتها السياحية الأثرية المنافسة.
في محافظة القصب التي أتحدر منها آثار تاريخية كثيرة تمتد لمئات السنين ولا شك أننا عندما نتجول فيها نحن أهالي هذه المنطقة نشعر بعبق التاريخ وكأننا نتجول في المكان ونستشعر حياة وقصص وأشعار من كان هنا قبل مئات السنين كالشاعر حميدان الشويعر صحفي وشاعر القرن الثاني عشر.
بكل تأكيد لو تم ترميم هذه المناطق الأثرية وتم وضعها على خريطة السياحة في المملكة لجذبت الكثير من السياح محلياً ودولياً خصوصاً أنها تحكي تاريخ المنطقة الذي يجهله الكثير حتى أبناء الأسر التي كانت تقطن هذه المساكن بالأمس القريب.
عملية ترميم المعالم السياحية الأثرية ليس شرطاً أن تكون من طرف هيئة السياحة أو أحد أجهزة الدولة بل من الممكن وقد يكون من المتيسر أن تكون من قبل الأفراد الميسورين ممن تعود جذورهم لهذه المناطق، وقد تكون من قبل الشركات التي تنهض بمسؤولياتها الاجتماعية. ولا شك أن ترميم الآثار يحقق بعدين مهمين، الأول هو الحفاظ على التراث، والثاني توظيف التراث لتحريك عجلة التنمية الاقتصادية في هذه المناطق.
أسعدني اهتمام أبناء مدينة القصب بترميم البيوت والأسواق القديمة وأسعدني أيضاً تشريف حرم أمير الرياض مدينة القصب في إقليم الوشم لمشاركة أهالي المنطقة أنشطتهم الاقتصادية باستثمار سوق العبيدي التراثي الذي يقدر عمره بأكثر من 200 سنة بعد أن رممه المواطن محمد بن عبد الرحمن السويد تحت إشراف البلدية، حيث أقامت لجنة التنمية الاجتماعيَّة بالقصب مهرجان الأسر المنتجة الثالث والذي يشجع ويحفز ويدعم الأسر المنتجة لمواجهة متطلبات الحياة وظروفها الاقتصادية بالنسبة لبعض الأسر التي تعاني العوز والحاجة ولا تستطيع العمل لدى الغير لأي سبب كان.
أسعدني أيضاً توجه بعض أهالي المنطقة ممن غادرها لترميم بيوت أسرهم القديمة، حيث بدأ عبد الرحمن بن إبراهيم الزاحم بنفسه في ترميم بيته القديم الذي يقع غربي القصب القديمة في عام 1434هـ، وفي نهاية العام نفسه أي في شهر ذي القعدة بدأ الترميم في بيت الراشد، وهو البيت الذي تسلمته إدارة السياحة من أولاد المغفور له ـــ بإذن الله – عبد الله بن إبراهيم الراشد، إمام مسجد لبدة ومعلم العلوم الشرعية في مدرسة القصب، ولا شك أن ذلك يشير إلى أن موجة من الاهتمام بالتراث في المنطقة من قبل أهالي المنطقة ومن قبل هيئة السياحة قد انطلقت، وهو الأمر الذي كان له أثر بالغ في نفوس أهالي المنطقة وكل من يعشق الحفاظ على التراث من مساكن وأسواق وغيرها.
ختاماً كل الشكر لوزارة التربية والتعليم التي حافظت على التراث طوال سنوات سابقة حتى سلمت المهمة لهيئة السياحة والآثار التي هي الأخرى انطلقت بالمحافظة عليه بمفهوم آخر وحفزت المواطنين على ذلك، والأمل كل الأمل أن يقوم المحسنون والميسورون والمهتمون من أهالي هذه المناطق بدعم هيئة السياحة والآثار لترميم جميع المباني القديمة وتفعيل دورها في خدمة الثقافة من ناحية وخدمة أهالي المدن الصغيرة والقرى اقتصاديا من ناحية أخرى.
الاقتصادية