كهف شقبا..إرث إنساني وتعاقب حضاري عالمي
شقبا " المسلة " … رغم مرور أكثر من مليوني عام على وجوده، إلا أن كهف شقبا لا زال يحتفظ بأسرار حضارته النطوفية، التي تعتبر أولى خطوات الإنسان في بناء المجتمعات الزراعية في التاريخ، وهو ما تشير إليه الدلائل الأثرية التي اكتشف على يد عالم العلوم ماللون، وقامت بعده عالمة الآثار البريطانية دوروثي غارود عام 8192م بالتنقيب عليها.
حقب تاريخية:
وتعود الحضارة النطوفية إلى العصر الحجري المتأخر ، والتي جاء اسمها نسبة إلى وادي النطوف الواقع في قرية شقبا شمال غرب مدينة رام الله في فلسطين، وهو أحد أكبر كهوف فلسطين، وأظهرت الحفريات التاريخ الطبقي للموقع، الذي تحتله حقبتان من حقب ما قبل التاريخ، حقبة لوفالوا موستيران العليا وهي الطبقة( د)، والحقبة النطوفية العليا الطبقة( ب ) مع برهان على استخدامها منذ العصر البرونزي المبكر الأول وحتى وقتنا الحاضر.
ويعد كهف شقبا الموقع النموذجي للحضارة النطوفية المعروفة على النطاق العالمي، التي تمثل علامة فارقة في تطور الحضارة الإنسانية في جنوب غرب آسيا، عندما كان الناس يمارسون اقتصاد الصيد والجمع، إلا أنها تطورت على أساس جماعي قبل أن تتحول إلى المرحلة الزراعية، التي قامت على تدجين النبات والحيوان ودمجهما في الحياة المستقرة.
على طول الطريق الواصل بين مدينة رام الله وقرية شقبا التي تصل مسافتها 28كم تتراص المستعمرات الإسرائيلية على رؤؤس الجبال تشوه هوية المكان وتعتدي على الأراضي الفلسطينية بالطرق الالتفافية كما هو الحال في شقبا التي تلتهم مستعمرتي "عوفريم" و "نيللي" أراضي المواطنين فيها، بينما يتلوى الجدار على آلاف الدونمات الزراعية المصادرة من الجهة الجنوبية للقرية ليشكل حدودا يحرم الأهالي من أراضيهم ويفصلها عن امتدادها الفلسطيني داخل الوطن المحتل عام 48، والذي يتراءى أمامنا من أعلى سفوحها الخضراء.
المنظر الحسن:
استقبلنا المنسق الإعلامي للمجلس القروي سامي ثابت الذي لم ينفك عن عرض الفيديوهات والصور عن المغارة التاريخية التي تحتضنها قريته الوادعة، مؤكدا على الإرث الحضاري الذي اقترنت به نسبة إلى الكهف الذي حمل اسمها، ويطلق الأهالي على المغارة شق، فحرفت كلمة شق مع مرور الزمن إلى شقبا كما تشير بعض الكتب.
ويذكر ثابت أن الأسباب تعددت في تسمية القرية، فحسب أحد المؤرخين فإن اسم القرية تحريف لكلمة "شقحا" الآرامية بمعنى "المنظر الحسن"، وتعود القرية إلى الفترة الرومانية والبيزنطية والفترة الإسلامية، ففيها مسجدا عمريا بني على زمن الخليفة عمر بن الخطاب.
انضم إلينا عودة ياسيـن الذي رافقنا مع ثابت إلى المغارة، وهو أحد المواطنين الذي لا زال يحمل ذكريات صباه قرب الكهف عندما كان يعتليه ويسلم نفسه للهواء الطلق والطيور المحلقة، ترجلنا من السيارة التي نقلتنا من وسط القرية داخل شوارعها الضيقة وبين أزقة بيوتها القديمة إلى مدخلها حيث يقع الكهف.
تتبعنا خطى ثابت وياسين اللذان لا يملان من مرافقة الزائرين لرؤية الكهف رغم المشقة التي تكبداها، وصلنا إلى مدخل الكهف الذي يصل ارتفاعه إلى ما يزيد عن 22مترا، ويفتح على حجرة رئيسية قطرها ثمانية عشر مترا، والى جانبه ثلاث حجرات أخرى تختلف في مساحتها وتتصل بمداخلها، نلتقط أنفاسنا قليلا، نتلمس برودة الكهف التي لامست جباهنا الساخنة المبللة بعرق الطريق الوعرة.
نتقدم قليلا إلى الداخل، نرى كهفا يعلو فيه صدى أصواتنا وتقطع حديثنا بين الفينة والأخرى قطرات من المياه المتسربة في شقوقه بتناغم رقيق، فيما يعلو قبته فتحتين يشق نظرك من خلالهما السماء الزرقاء وتزحف أشعة الشمس خلسة إلى الكهف لتنير ظلمته وتمنحه شيئا من الدفء.
يبتسم ثابت وهو ينظر إلى سقف الكهف يشير إلى الفتحتين بـ"الروزنة" كما يطلق عليها الأهالي لقد قام احد أصدقائي بالنزول وسط الكهف من الروزنة مستعينا بحبل، ومنها أيضا شاهدت مجموعة من المستعمرين الإسرائيليين الذين يقومون باقتحام الكهف بشكل دائم ومعهم دليلهم السياحي يشرح لهم عن المكان وأهميته، كما يرتاده طلبة من جامعات إسرائيلية للوقوف عليه ودراسته.
يأخذنا الحديث عن القرية تارة ونعود لنتحدث عن الكهف مرة أخرى ونحن نستظل بداخله، يقول ياسين إن الكهف ليس المعلم التاريخي الوحيد بالقرية، فهناك خربتان أثريتان تعودان للفترات الرومانية والبيزنطية، هما: خربة دسره التي تقع شمال غرب شقبا وتحتوي على جدران متهدمة وصهاريج ومغر ومدافن منحوتة بالصخر، وهناك خربة حنونة بالموقع نفسه وتحتوي على معاصر قديمة وقبور منحوتة بالصخر أيضا.
مضيفا "إلا أن خربة دسره أصبحت تقع خلف الجدار العازل الذي بناه الإسرائيليون على أراضي القرية، كما كان يستخدم الكهف كمبيت للرعيان وأغنامهم كما يروي عن والده حتى قدوم الاحتلال الإسرائيلي وتغيير معالم المكان وشق الجبال بالطرق الالتفافية، تغيرت الظروف واقتصر زواره على عدد من الأهالي الذين لا زالوا يحنون إلى المكان".
قيمة كبيرة:
ومن جانبه، يصف الدكتور حمدان طه وكيل مساعد في وزارة السياحة والآثار الفلسطينية كهف شقبا بأنه موقع ذو قيمة عالمية، فهو يمثل مرحلة بتاريخ البشرية جمعاء، فالحضارة النطوفية مثلت المرحلة التي سبقت ظهور المجتمعات الزراعية الأولى . ويعود الكهف إلى الفترة الزمنية الواقعة ما بين 8000-12000 ألف قبل الميلاد، وتم اكتشاف أدوات كانت تستخدم للزراعة مصنوعة من حجر الصوان كالسكاكين وشفرات المناجل، كما استخدم الكهف للسكن.
ويضيف حمدان أن المجتمع النطوفي لم يكن زراعيا بالكامل، حيث كان لديه اقتصاديات المجتمع النطوفي التي تقوم على الصيد والجمع المكثف للنباتات البرية، ولكن من المؤكد أن الجماعات النطوفية كانت تعيش كجماعات صغيرة ومتعاونة ما بين 200-700 شخص كما تشير الدلائل التاريخية.
وتشكلت الطبقة النطوفية الرئيسية العليا من تربة سوداء رمادية تضم رفات عدد من الجثث البشرية المدفونة فيه، ويعود معظمها إلى الأطفال، وذلك بالقرب من المنطقة السكنية، أما بالنسبة للأدوات الحجرية التي كانت غارود أول من وجدها فهي أدوات صوانية وعظمية دقيقة وحادة تستخدم للصيد والصناعات الغذائية. كما اتصفت جماعة النطوفيين الذين سكنوا شقبا بممارسة نشاطات صيد مجتمعية بطريقة تعتمد نموذج معيشة شبه مستقر.
والحضارة النطوفية سبقت حضارة أريحا، والتي تعتبر أقدم مدينة بالعالم ومن هنا جاءت أهميتها على الصعيد العالمي، وقد صنف الموقع على لائحة المواقع الوطنية للتراث الفلسطيني، إلا انه وللأسف الشديد-كما يشير حمدان- يتهدده التخريب من قبل الاحتلال الإسرائيلي من خلال الكسارة التي لا تبعد حوالي 500 متر عنه، فمن المعروف أن الكهف تكون من نشاط جيولوجي كارستي بشكل طبيعي، وتكرار الانفجارات التي تحدثها الكسارة تؤثر على حجارته ووجوده، بالإضافة إلى شق الطرق الالتفافة التي ساهمت بتخريب الجبال المحيطة وتشويه المنظر الثقافي في هذا الموقع.
وعند سؤالنا حول الإهمال الذي يصيب الكهف بناء على المشاهدات المحيطة به بوجود مخلفات صناعية بالقرب منه وعدم وجود وسائل حماية له، ذكر طه أن الكهف يقع ضمن السيطرة الإسرائيلية ولا يسمح للجهات الفلسطينية تأهيل المكان أو القيام بأية تعديلات من شأنها حماية الكهف والعناية به.
وأشار إلى أن الموقع تم طرح قضيته بالعديد من المناسبات الدولية، وطالبت السلطة الفلسطينية بإدراجه ضمن المواقع الأثرية الهامة عالميا التي يجب العناية بها، وتجري أيضا متابعات مع اليونسكو والجهات المعنية من أجل حمايته. ويعد الكهف كما يؤكد طه مثالا متميزا للاستيطان البشري التقليدي، ومثل في البدء مرحلة ذات أهمية كبيرة في التاريخ الإنساني.
تحديات كبيرة:
وحول الممارسات الإسرائيلية وتأثيرها على الموقع التاريخي الموجود بشقبا، يذكر رئيس المجلس القروي رمضان المصري أن المياه التي كانت تجري بوادي النطوف لم تعد موجودة، وذلك نتيجة للشقوق الصخرية وتغيرات التربة التي أحدثتها الكسارات الموجودة عليه، كما تصدع حوالي 50 منزل بسبب التفجيرات.
ويشير المصري إلى أن محاولات الأهالي لتسليط الضوء على الكهف جارية، وكانت هناك مطالب مستمرة من اجل تحسين الظروف السياحية للقرية، فهي تفتقد لكل المقومات السياحية رغم أن لديها مقومات ذلك، وفي نهاية المطاف تم إدراج كهف شقبا كأحد أهم المواقع الأثرية الفلسطينية التي يبلغ عددها عشرون من ضمن وزارة السياحة والآثار الفلسطينية.
ولا يسمح للأهالي بالتوسع على أراضيهم، حيث تبلغ مساحة القرية 14 ألف دونم وتقام القرية فقط على 3 آلاف دونم، وكان الاحتلال قد صادر قرابة 3الاف دونم. ويقول المصري " حتى سلسلة الحجارة التي نبنيها بأراضينا نتلقى عليها إخطار لهدمها، لهذا يلعب الدور السياسي عاملا مهما يعيق تطور القرية على الصعيد السياحي، وتعرض القرية إلى تهميش متعمد ولا يوجد هناك أي اهتمام خاصة من الجهات الرسمية".
تحديات كبيرة يواجهها أهالي شقبا سواء لحماية تاريخهم أو من اجل تعزيز وجودهم، وهو ما أثبته لنا ياسين الذي ختم جولتنا بزيارة أرضه أو "حاكورته" كما يحب أن يناديها، لتزهو أشجار اللوز بمختلف أشكاله وأنواعه (بلدي، فرك، عادي) التي زرعها في أرضه بعد أن قام باستصلاحها. يقول ياسين " 250 لوزة ، و300 زيتونة يحيطها أشجار العنب "الدوالي" وتتوزع بين جنباتها أشجار التين، قمت بحفر بئر من أجلها، أربيها كما اربي أبنائي، أقضي معظم النهار فيها، وهذا يكفيني".
لم يكن من السهل علينا أن نغادر شقبا دون أن ترنو أعيننا مرة أخرى نحو كهفها الذي بات كـ"قهوة الضيف" التي يستقبل ويودع بها. تحوم فوقه الطير الذي آلف وجوده ووجد فيه سكنا له هربا من ضوضاء الكسارة الإسرائيلية وغبارها، ليستقبل مرة أخرى باحثون يقضون أمامه سويعات قليلة يتفحصون وجوده ويمضون في دراساتهم، ويخلفون ورائهم حضارة إنسانية تتلوى ألما على مستقبلها المجهول.