هيئة السياحة – الحاضر الغائب.. نّموذَجُ (الهدا) بمحافظة الطائف
بقلم : د. عبد المجيد بن محمد الجلاَّل
(الهدا) الواقعة غرب المملكة، على قمة جبل غزوان، على الحافة الغربية لمرتفعات الحجاز – بارتفاع نحو " 2000 " م عن سطح البحر، إلى الغرب من مدينة الطائف بنحو " 20 " كيلاً – تتمتع بالعديد من المزايا الطبيعية والحضرية، التي تجعل منها مقصداً سياحياً للعديد من السعوديين والمقيمين وحتى الخليجيين.
لقد حبا الله سبحانه وتعالى هذه المنطقة بميزة الطقس الجميل والملائم، المعتدل صيفاً، البارد شتاءً، وتتساقط الأمطار عليها بكمياتٍ أكبر في فصلي الشتاء والربيع، وتكسو جبالها ومرتفعاتها النباتات والأعشاب والشجيرات، وتبدو في فصل الشتاء أكثر إثارة وإمتاعاً، وجمالاً وإبهاراً، حين يحيط بها الضباب ويحتضنها. كما تبدو ليالي الهدا في الصيف أكثر متعة للسمَّار بسمائها الصافية المُتشِّحة بضياء القمر وأنوار النجوم.
إضافة إلى هذا الطقس الجميل، فهي ذات تُربة خصبة تُنتج العديد من الفواكه، ذات المذاق الرائع، والحصري، ومن هذه الفواكه: الرمان، والمشمش، والحماط (التين) والبرشومي (التين الشوكي) والخوخ، والتفاح ذو الحجم الصغير، والتوت، والبُخارى. ولا يمكن بطبيعة الحال إغفال ذكر وردها الجوري، وعبقه، ودهنه، ومائه المقطر.
هذه الأجواء والطبيعة الجميلة، والملائمة، تساعد على قيام صناعة سياحية تنافسية، وخلق بيئة استثمارية نشطة، يمكن أن تجعل من منطقة الهدا وجهة سياحية مستدامة على مدار العام.
ولكن مع الأسف الشديد لا يوجد مبادرات فعلية قائمة لتحقيق متطلبات هذه الوجهة المستدامة، بكل أهدافها وبرامجها. بلْه إن الوضع الراهن للهدا، يكشف بكل صراحةٍ عن عدم وجود توجهٍ نحو بناء هذه المبادرات. أو حتى توفير منتجات وخدمات سياحية ذات جودة، ولو في درجاتها الأدنى.
إذ واقع الحال، مؤسف، ولا يليق بهذه المنطقة الجميلة، فالفوضى السياحية – إن صح التعبير- حاضرةٌ بقوة، ففي الهدا، كما يقال " الدرعا ترعى " فالمنشآت السياحية القائمة تعاني بشدة، في الغالب، من تدني مستويات ودرجات جودة تصميمها وأثاثها ونظافة بيئتها. وقد لاحظت بأم عيني أحد ما يمكن تسميته مجازاً بالمنتجع، يستخدم مياه الصرف الصحي لسقي بضع شجيرات داخل محيط المساكن، دون احترامٍ للساكنين، أو اهتمامٍ بصحتهم وسلامتهم. ولعلَّ افتراش بعض زائري الهدا أرصفة شوارعها الرئيسة والدائرية والفرعية، وتحت الجسور، في ظاهرة غير حضارية، يؤكد على وجود خللٍ بيِّن في المنظومة السياحية القائمة، وعدم استجابتها لتطلعاتهم وإمكانياتهم المادية حيال ركني: المنتج النهائي والسعر.
وعلى الرغم من سوء نوعية المنتجات والخدمات السياحية المُقدّمة، فالأسعار عالية جداً، ومبالغٌ في تقديرها، إذ كل صاحب سكن أو منتجع يمتلك في الغالب منظومته السعرية الخاصة به ( كل من أيده له ) وهو في مأمن من وجود رقيب، أو حسيب، أو جهة رسمية تُعنى بسياسات التسعير التي تراعي التكاليف الحقيقية للخدمات المُقدمة، ودرجة جودتها. والمتضرر الأكبر في هذه المهازل السياحية: السائح أو المصطاف، الذي قد لا يحصل على منتجات سياحية اقتصادية وجيدة المحتوى، بأسعار اقتصادية تنافسية.
وليت الأمر يقتصر على المنشآت السكنية فحسب، إذ الفوضى تعم كذلك خدمات المقاهي والمطاعم، فأغلبها يفتقد الحد الأدنى من الشروط والمستلزمات الصحية، ولا يوجد تطبيقات رقابية صارمة تعتمد معايير النظافة والجودة، أو اهتمامُ يُذكر بصحة وسلامة مرتاديها. ولا يوجد على الإطلاق جهات رقابية تقوم بجولات تفتيشية عليها، وقد لا أكون مبالغاً إذا قلتُ بأنَّ حصاد أيّة جولة تفتيشية لمراقبي أمانة مدينة الطائف على هذه المقاهي والمطاعم، ستؤدي إلى تشميع الغالب منها وإقفالها.
في هذا المشهد السياحي غير الملائم، لا يوجد أثرٌ أو حراكٌ لهيئة السياحة، أو ألأجهزة الرقابية، فالجميع غائبون، وفي إجازات مفتوحة. وقد يكون غياب الهيئة العامة للسياحة والآثار، هو الأكثر دهشة واستغراباً، فهي الجهة المسؤولة عن برامج بناء السياحة الداخلية، وتطوير مواقع التنمية السياحية في المملكة. وتحويل هذا القطاع – كما جاء في إستراتيجية الهيئة – إلى صناعة رائدة قادرة على تقديم أفضل الخدمات السياحية المفيدة والهادفة والممتعة لكل أفراد الأسرة.
ولكن، كما يبدو التنظير والبناء الإستراتيجي شيءٌ، وتحويله إلى مبادرات مُنجزة شيء آخر. وهذا هو ديْدن العديد من مؤسسات وهيئات القطاع العام، استنزافٌ للجهود والموارد في بناء إستراتيجيات، دون أن يتواكب ذلك مع مبادرات عملية لتحويلها إلى برامج على أرض الواقع.
كذلك من المدهش غياب مجلس التنمية السياحية بالطائف عن أحوال وإشكالات السياحة في منطقة الهدا، وغياب أيَّة مناشط تُذكر للجنة العليا التي وافق خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز حفظه الله على تشكيلها، لدراسة تقديم مشروع تطويري شامل لمحافظة الطائف، لدعم مكانتها الاقتصادية والسياحية، وبما يستجيب إجمالاً لتطلعات الدولة والمجتمع لتنمية قطاع السياحة في المملكة على وجه العموم، وفي الطائف والهدا على وجه الخصوص.
على أيَّة حال، بالإمكان إذا خلُصت النوايا وتكاثفت الجهود، تحويل الهدا إلى منطقة جذب سياحي على مدار العام، وليس في فصل الصيف فقط، وهذا الأمر يتطلب بالقطع انتهاج العديد من السياسات المُشجعة للاستثمار السياحي، لاستقطاب المستثمرين من داخل المملكة وخارجها، وخصوصاً رأس المال الخليجي، ضمن شروطٍ ومزايا محددة تتيح للسائح أو المصطاف الحصول على سياحة عائلية جيدة، بتكلفة اقتصادية مناسبة، مثل ما تتيح للمستثمر الحصول على عوائد مجزية لمشروعه السياحي الاستثماري. وعوضاً عن فترة الصيف فقط، فإنَّ من شأن ذلك كله أن يبعث الحياة والنشاط في مفاصل هذه المنطقة الجميلة ذات الموقع الجغرافي المتميز على مدار العام، وفي فصوله الأربعة.
كلمة أخيرة :ما ورد في ثنايا هذا المقال عن منطقة الهدا، نَّمُوذَجُ، لحال العديد من المناطق السياحية في المملكة، والتي تعاني من سوء المنظومة السياحية القائمة. وهذه مسؤولية الهيئة العامة للسياحة والآثار، وشركائها، في التنمية السياحية، إذا كانت راغبة حقاً في صناعة سياحة داخلية مكتملة الشروط والأركان، ببرامجها وخدماتها البنيوية واللوجستية، وبيئتها الاستثمارية النشطة، ووفوراتها الإنتاجية والاستثمارية العالية، وقوانينها وتشريعاتها.
خاطرة: الريشُ الجميلُ ليس كافياً ليصنع طائراً جميلاً.
الرياض