انتعاش السياحة فى اليونان لا يخف الازمة الحادة بها.. وسياسة التقشف قد تقود إلى تفكك المجتمع
اتينا "المسلة" … توحي مشاهد الصيف اليوناني، ظاهرياً، بأن البلاد بدأت تتعافى من الأزمة الخانقة التي أرهقتها منذ سنوات ودفعت الحكومات المتتالية إلى قبول وصاية خارجية على عائدات الدولة ومجالات الإنفاق العام. ولكن انطباع التعافي قد يكون خاطفاً ونظرة العين سطحية لأن الأزمة قد تدفع إلى تفكك المجتمع اليوناني، وفق بعض المحللين.
فتعج المدن والجزر السياحية بالزوار الأوروبيين من دول الاتحاد وروسيا الذين يقصدون دفء المتوسط وثراء التاريخ الإغريقي. وبعضهم يرتمي بين أحضان أشعة الشمس والثقافة الأرثوذوكسية، خصوصاً السياح الروس، وآخرون مثل الفرنسيين فضلوا هذه السنة الابتعاد عن شواطئ دول «الربيع العربي».
ولكن معظم الفرنسيين قصد هذه السنة اليونان حيث تنعدم المغالاة، لا بل أن رجال الكنيسة الأرثوذوكسية خضعوا لإرادة السياسيين وقبلوا المساهمة في الجهد الجماعي لإنقاذ البلاد من خلال التخلي عن الامتياز الضريبي الذي كانت تستفيد منه الكنيسة التي تُعتبر من كبار الملاكين في اليونان.
راحة السائح الأجنبي تقابلها أحياناً ابتسامة مختصرة في وجه يوناني شاحب. ويقول فانغاليس ج. صاحب شقق فندقية عائلية في منتجع «كوكي هاني» على بعد 10 كيلومترات شرق هيراكليون «ارتفاع عدد السياح لا يعود بالفائدة على المؤسسات السياحية الصغيرة لأن ملايين الزوار يأتون وفق نظام الحزمة الكاملة التي تشمل الإقامة والغذاء، وبعضهم نادراً ما يغادر دفء الرمال ويفضلها على المحلات التجارية والمطاعم».
وكثيراً ما يلاحظ الزائر هياكل فيلات وفنادق توقف العمل فيها بسبب وقف تدفق السيولة إثر أزمة المصارف اليونانية عام 2008، في حين تُعرض أخرى للبيع.
وباستثناء النقل العام وعمال التنظيف، لا يرى السائح أي حضور للسلطة في الشوارع والأماكن السياحية، وقد يعترضك رجل الأمن مرة أو مرتين كل أسبوعين، وذلك لأن البلد آمن وأيضاً بسبب التراجع الكبير في موارد البلديات.
وأكد صيدلي في منتجع «كوكيني هاني»، شرق هيراكليون لـ الحياة ، أن «الجهات المختصة في البلدية لم تنفذ حملة رش البعوض للسنة الثانية على التوالي».
وينظر صاحب الفندق العائلي إلى الأسفل محرجاً كأنه يطلب المعذرة، ويتحدث عن سنوات ما قبل الأزمة حين كانت الفنادق والمتاجر تعج بالسياح اليونانيين الذين ينفقون أكثر من غيرهم، ولكن ارتفاع الضرائب وخفض الرواتب ومنح التقاعد أضرت بالقدرة الشرائية للمواطن، وأصبحت مشاهد التسول والبحث عن «الثمين» في مكب الفضلات صورة معهودة وغير مثيرة حتى في المدن السياحية مثل هيراكليون، عاصمة جزيرة كريت.
إجراءات التقشف وشروط «الترويكا»
ويشك اليونانيون في جدوى إجراءات التقشف التي فرضتها «الترويكا» (المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي) في مقابل تمكين اليونان من صفقات قروض بلغت حتى الآن 240 بليون يورو من أجل تغطية عجز الموازنة وخدمة الدين، بعدما تجاوزت الديون 150 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.
وفرضت «الترويكا» على اليونان تنفيذ إجراءات خفض الإنفاق العام في كل المجالات، ومنها التعليم والصحة، وتسريح عشرات الآلاف من موظفي القطاع العام وزيادة الضرائب ورفع الضريبة على القيمة المضافة. ولا يخفي اليونانيون أسفهم على سنوات الانتعاش والعيش السهل لمعظم فئات المجتمع.
كما اعتمدوا، خصوصاً في صفوف القطاع الخاص، لعقود على وسائل التهرب من دفع الضرائب على الدخل وضعف المراقبة والفساد الإداري وتحويل المال العام وحتى التمويلات الأوروبية.
ولكن أهل البلد اكتشفوا منذ ثلاث سنوات الوجه الآخر للانتماء للاتحاد الأوروبي والالتزام بأدنى القيود في إدارة الموازنات العامة في مقابل الحصول على قروض أوروبية. وقال وزير الصحة ادونيس جورجياديس «اليونان كانت تستورد الأدوية، قبل عام 2008 بما قيمته سبعة بلايين يورو، ولكن الآن خُفّض المبلغ إلى 2.3 بليون، كما هناك قرار بمراجعة دخل كبار مديري المستشفيات العامة منذ العام 2000».
ولوحظ تراجع التظاهرات في فصل الصيف، ربما بسبب التعب من حركات الاحتجاج العقيمة، في حين يبدو أن إجراءات فرض الضريبة على القيمة المضافة تُنفذ في معظم المحلات، فأصبح ثمن كوب من القهوة يُسدد بوصل يشمل السعر والضريبة على القيمة المضافة سواء كان المستهلك في منتجع سياحي أو في وسط مدينة هيراكليون، أكبر مدينة في جزيرة كريت.
وتشير الإحصاءات إلى بروز مؤشرات تُظهر تراجع الركود الاقتصادي نسبياً خلال الربع الثاني من السنة، ولكن ذلك لن يكون كافياً لتأمين زيادة عائدات الضريبة إلى مستويات تمكن الحكومة اليونانية من تحقيق الأهداف التي رسمتها في ظل مراقبة الترويكا. ويرجح أن يدفع نقصُ العائدات، أثينا إلى الطلب من شركائها الأوروبيين عام 2014 قروضاً إضافية، ما يثير تعليقات سلبية خصوصاً في ألمانيا في ظل الحملة الانتخابية الجارية.
ويُتوقع أن يكون الاقتصاد اليوناني تراجع في الربع الثاني من السنة 4.6 في المئة، ليرتفع إجمالي خسائر الناتج المحلي اليوناني منذ الأزمة المالية عام 2008 إلى 23 في المئة، ما تسبب في عجزها عن الوفاء بالتزاماتها المالية الخارجية واللجوء إلى طلب العون من شركائها.
ويقود الركود المتواصل، رغم مؤشرات تقلصه، إلى تراجع عائدات الضريبة بما يصل إلى 1.5 بليون يورو، وإلى استفحال أزمة البطالة التي بلغت 28 في المئة، وإلى إقفال مزيد من المؤسسات الاقتصادية بسبب تراجع الاستهلاك ونقص السيولة وتشدد المصارف. وحصلت المصارف هذا الشهر على موافقة الحكومة على قرار يمكنها من رهن المساكن التي عجز أصحابها عن تسديد ديونهم، شرط أن تتجاوز قيمة الفيلا 200 ألف يورو.
ولن تكفي عائدات السياحة، مهما بلغت، لتخفيف أعباء الخزانة العامة وتقييد أزمة البطالة. وأوردت «آثين فيوز» أن اليونان «تشبه السبَّاح الذي يعوم في عرض البحر منذ فترة ويرى الشاطئ في الأفق، ولكنه بدأ يفقد النفس وقد يغرق قبل وصول الشاطئ». فالبطالة تؤدي إلى ضياع جيل بأكمله وتدفع كوادر البلاد إلى الهجرة وتنمي أفكاراً نازية عدمية قد تسيطر على الساحة السياسية لأن الشارع يسكنه من ليس لديه مسكن. وأضافت الصحيفة أن «اليونانيين صمدوا على رغم شدة الأزمة بفضل تقاليد التضامن ومدخرات العائلة، التي بدأت تشح الآن».