‘الكتاب المقدس وعلماء الآثار’ لهانس فوروهاغن: لم توجد قط مملكة لداود أو سليمان في فلسطين!
تتواصل في هذه اللحظات أعمال الحفر حول وتحت المسجد الأقصى وفي البلدة القديمة في القدس، وتقول السلطات الاسرائيلية انها لأسباب ‘علمية’ حيث يجري التنقيب عن آثار للمملكة اليهودية القديمة، بينما تهدد هذه الحفريات أسس بيوت السكان العرب التي بدأ بعضها يتآكل بالفعل ويوم تنهار سيجبر أصحابها على الرحيل لامتناع السلطات الاسرائيلية عن منح العرب إجازات بناء، وهكذا يتم تهويد المدينة باستخدام العلم بدلاً من العنف.
بل والأكثر خطورة في هذه الحفريات أنها تضعف أركان المسجد الأقصى نفسه وتهدده بالانهيار مستقبلاً دون أن يبدو ذلك مقصوداً. التنقيبات علمية، هكذا يقال، ولكن ما يكشف للملأ عن حقيقتها هو أن تمويلها الرئيسي يأتي من منظمات صهيونية واستيطانية متشددة.
فالى أي مدى تورط علم الآثار الاسرائيلي في السياسة الصهيونية؟ وهل لا يزال يصح وصفه بالعلم؟ هذا هو موضوع أحدث كتب أستاذ التاريخ القديم هانس فوروهاغن Hans Furuhagen الذي صدر في ستوكهولم في سبتمبر 2010 بعنوان ‘الكتاب المقدس وعلماء الآثار’ Bibeln och arkeologerna فأثار جدلاً في الصحافة وحمل أكثر من صدمة للقارئ الغربي خصوصاً، وأكثر من معلومة جديدة للقارئ في كل مكان. ولا ينتظر أن يلقى الكتاب ترحيباً من الاسرائيليين فهو يستفز، بل يفضح، ذرائعهم الدينية للاحتلال. ففي إسرائيل تشكل قصص الماضي مصدراً لتعريف الأمة، مصدراً للهوية، وبالتالي لشرعية الوجود على أرض الفلسطينيين.
مكانة اليهود في تاريخ المنطقة
حتى لدى أكثر الغربيين علمانيةً يعيش تراث ثقافي جماعي يهودي – مسيحي يظهر فيه الاسرائيليون القدماء بمثابة المحور لمنطقة الشرق الأوسط، ويؤخذ تاريخهم المكتوب على أنه يتضمن – على أقل تقدير – نواة للحقيقة. لكن تحقيقات فوروهاغن تكشف عن شرق أوسط آخر تماماً، صاخب ومتعدد المكونات، وأكثر تعقيداً من المرافعة الساذجة التي تقدمها التوراة والتي تبدو بالكاد مترابطة. إلا ان الذي مكن الصورة التوراتية للعالم من البقاء هو ان المتشددين من اليهود دأبوا طوال أكثر من مئة عام على تمويل المشاريع الأثرية والقيام بالحفريات وكذلك ‘تفسير’ اللقى الأثرية كما يشاؤون. لقد كان علم الآثار في هذه المنطقة سياسياً على الدوام. ويكشف فوروهاغن ان أهم ممولي الحفريات الأثرية في القدس مثلاً هما مركز شالم وإلعاد، وهما منظمتان يمينيتان تعملان بشكل علني على تهجير الفلسطينيين، وتتركز جهودهما على حائط المبكى وقلعة داود وهيكل سليمان.
لقد سلّم كثير من المثقفين والمتعلمين حول العالم تسليماً بديهياً بوجود داود كحاكم لمملكة كبرى وبأورشليم كمركز عالمي لها وبأن حائط المبكى كان جزءاً من معبد سليمان ذي الشعاع الذهبي. لكن هذا الوصف التاريخي، المهم جداً بحد ذاته لدولة إسرائيل، هو – كما يبين فوروهاغن – محض زيف. فالفترة ما بين 1000 – 900 ق. م فقيرة جداً من حيث المخلفات واللقى الأثرية. والمظنون ان كارثة اجتماعية من نوع ما قد أنهت العصر البرونزي وكانت تبعتها إعادة انتشار سكاني على نطاق واسع.
ووفقاً للباحثين المتخصصين فان النشاط البشري في المنطقة كان منخفظاً ومحلياً. وبعد دراسة كم كبير من المعطيات ونتائج التنقيبات يفجر فوروهاغن قنبلته: أنه لم توجد أية مملكة أبداً، ولا أي داود ولا أي سليمان، أما حائط المبكى فلم يكن في حقيقته سوى جزء من جدار داعم لمعبد الملك هيرودس. وفي الوقت الذي تقدم فيه النصوص التوراتية قصة الخروج من مصر على أنها الحدث الأبرز في المنطقة إبان تلك الفترة فان العلم لم يعثر حتى الآن على أي أثر لهذا الحدث. فاسرائيل القديمة لم تكن سوى مجموعة بشرية من الرعاة البدائيين يعيشون على هامش الحياة السياسية والثقافية. كما لم يعثر على أثر لوجود تلك المملكة الهائلة ذات البريق التي أسسها داود وتولاها سليمان.
مع الاحترام لاستنتاجات فوروهاغن العلمية هذه أود التدخل بأن وجود أو عدم وجود آثار لمملكة اليهود وأنبيائهم في المنطقة لا ينفي ولا يؤكد حقيقة وجودهم نفسها (فقد مر دهر طويل على ذلك التاريخ وطبيعي أن تندثر خلالها آثار كثيرة لأسباب شتى، كما ليس من المستحيل أن يظهر شيء من تلك الآثار في أي يوم مستقبلاً) فلا خلاف على ان الشرق الأوسط هو الموطن الأصلي لليهود ولا على دورهم كعنصر قديم في الثقافة الاجتماعية لهذه المنطقة، أنما جوهر الأمر هو الخِسّة المبيتة في اقتراف جرائم إنسانية وقانونية وسياسية بحق شعب فلسطين والبحث عن إسناد لهذه الجرائم في كتب مقدسة تحترمها الشعوب بحيث يلقي المجرمون بمسؤولية إجرامهم على الرب. في إحدى المناسبات سئل نتنياهو عن حجة إسرائيل في الاستيلاء على اراضي الفلسطينيين، فحمل كتاب التوراة (هو العلماني والديمقراطي… الخ) وقال: هذا هو الدليل! من هنا يمكن أن نفهم لماذا يمثل علما الآثار والتاريخ مشكلة لاسرائيل الباحثة عن جذور قومية ونماذج تاريخية ليس لدعم شرعية وجودها كدولة وحسب وإنما لدعم شرعية احتلالها وسرقتها الارض.
يقرر الكتاب ان الأساس الأدبي الذي قامت عليه اسرائيل الصهيونية، وهو رواية العهد القديم عن الوطن الموعود الذي ‘دمّر’ فيه الاسرائيليون، بعد خروجهم من مصر بمساعدة الرب، 31 من قبائل كنعان، لا يقصد التعبير عن حقيقة حرفية وإنما هو دعاية موجهة، الغرض منها التخويف. فهذه الأساطير المبهرة يعود عهدها الى 600 – 500 ق.م واختُلِقت بتأثير صراع القوى السياسي الديني الذي عاشه اليهود الأوائل وكذلك كأثر نفسي لأسْرهم المهين في بابل. وحين يصف فوروهاغن وبالتفصيل صراعات القبائل الكنعانية على الموارد (بتأثير الهجرة السكانية) وصراعاتها السياسية (تحت ضغط السلطة المصرية) يصبح مفهوماً لنا ما نشهده اليوم من تطهير عرقي يمارسه الاسرائيليون بروحية المنتصر.
فضيحة علم الآثار الاسرائيلي
يسلط الكتاب الضوء على أكثر الأمثلة جلاءً حول كيف تتحول خدع الآثاريين الى سياسة قومية: حفريات صخرة مسادا (قرية مسعدة).
ففي سنة 1963 أعلن أحد أبرز علماء الآثار الاسرائيليين، يغائيل يادين الذي قاد تلك الحفريات، عن اكتشاف ‘عظام بشرية’ تعود ‘لرجل وامرأة وطفل’ في داخل القلعة المقامة على الصخرة، والعثور على مئات البقايا العظمية وشعر امرأة في مغارة قرب القلعة: كل هذه اللقى كانت تأكيداً مبهراً لرواية المؤرخ اليهودي يوسف عن استيلاء القوات الرومانية على قلعة مسادا سنة 74 م حيث فضل الألف يهودي المحاصرون فيها الانتحار الجماعي على الاستسلام للعدو. ورغم ما في هذه الرواية من ضعف وثغرات، ورغم ان قطاعا من اليهود ينظرون الى سيرة المؤرخ يوسف بارتياب، ورغم ان الدين اليهودي لا يبيح الانتحار، إلا انه مع ذلك كله ظلت هذه الرواية مصدراً لفخر قومي ورمزاً للاباء. ولهذا مثّل ذلك الكشف نصراً دعائياً وأيديولوجياً كبيراً للصهيونية ودليلاً باهراً على مطالبتها بفلسطين. فأقيمت في يوليو 1969 مراسيم تشييع رسمي لدفن ثلاثة توابيت ملفوفة بالعلم الاسرائيلي تحتوي رفاة ‘آخر عائلة في مسادا!’ وبحضور زعماء الدولة ورجال الدين، وأخذ عشرات الآلاف من طلاب المدارس يحجّون الى تلك الصخرة، بينما اندفع آلاف الشباب بتأثير ذلك الهوس القومي للتطوع في الجيش. غير ان هذا كله لم يثن الباحثين من أنحاء العالم عن مواصلة التحقيق في الموضوع، ولكن كلما تعمقت التحقيقات كلما أخذت النتائج وجهة أخرى.
واستعان العلماء بوسائل الفحص الحديثة، وفي نهاية البحث أعلنوا أنهم توصلوا الى إجماع بأن الهياكل العظمية التي وجدت في المغارة لا علاقة لها بأي يهود، وإنما هي تعود على الأرجح لأشخاص رومانيين، وأن شعر المرأة الذي وجد معها هو لفروة رأس مجزوزة، وهي ممارسة اعتاد المقاتلون اليهود القيام بها ضد أسرى الأعداء من النساء، وأن العظام التي وجدت في المغارة كانت عظام خنازير، أما الصدمة (أو المهزلة إن شئت) فهي الكشف عن ان البقايا العظمية التي سكنت التوابيت الثلاثة ولفت بالعلم الاسرائيلي وشيعها زعماء الدولة والدين لم تكن عظام ‘رجل وامرأة وطفل’ وإنما عظام ضِباع كانت قد جُرَّت الى القلعة!
والفلسطينيون؟
استغرق العمل في هذا الكتاب خمس سنوات كما يذكر فوروهاغن في المقدمة، ولكنه لا يعتبره من ضمن عمله كباحث في التاريخ القديم وإنما كان لديه دافع آخر لانجازه: انه سد الثغرة التي ظلت النصوص المقدسة تحدثها على الدوام في لوحة التاريخ. لقد كان علم الآثار في فلسطين موضع شك الى هذا الحد أو ذاك، لأنه يهيمن عليه باحثون مؤمنون برواية الكتب المقدسة لما حدث في هذه الأماكن، بينما على الباحث الموضوعي أن لا يؤمن بشيء مسبق على الاطلاق. ويقول ان فضيحة مسادا هو مثال على هذه الشكوك. لذلك انكب على دراسة الكتاب المقدس من حيث التتابع الزمني ومقارنة نصوصه مع المعطيات التاريخية المختلفة وملاحظات الآثاريين. كان يواجه كثيراً من الحواجز السياسية والدينية التي تصعّب الأمر على العلم ولكنه نجح بشكل مثير للاعجاب في التعامل بحيادية حتى مع أكثر الروايات غرائبيةً.
من بين أكثر الفصول إثارة للانتباه في الكتاب الفصل المتعلق بالفلسطينيين، الشعب الذي لم تذكره التوراة بوِدّ. هم على الأرجح – كما يعتقد فوروهاغن – قدموا أصلاً من الشمال، وتنافس اليهود معهم على الموارد الطبيعية، ومما لا شك فيه انهم كانوا متحضرين أكثر من الاسرائيليين الذين كانوا رعاة غنم ومتفوقين عسكرياً. ولذلك من المحتمل جداً أن الدعاية العدائية ضد الفلسطينيين التي تبرز في التوراة تعود بأصلها الى غيرة مليئة بالكره الى درجة عدم التسمية أحياناً والاكتفاء بكلمة ‘الآغيار’.
لكن فوروهاغن يطرح تساؤلاً رائداً: كيف تأتّى أن الفلسطينيين القدماء ظلوا لحد الآن ضحية سمعة سيئة مصدرها التوراة؟ ويجيب بالقول: ‘ربما كان هذا لأن الفلسطينيين القدماء كانوا يفتقرون الى مصادر قوة كالتي امتلكها اليونانيون والاسرائيليون، كالشعراء مثلاً والمؤرخين القوميين؟ فنحن لا نعرف أي هوميروس أو هيرودوس فلسطيني، ولا نعرف كذلك أي مقابل فلسطيني لعصبة رجال الدين في أورشليم التي كتبت تلك الأساطير القومية في الكتاب المقدس العبري’. ويقصد فوروهاغن بهذا ان رواية تاريخ المنطقة في تلك الفترة اقتصرت على اليهود، فإذا كان الفلسطينيون القدماء أكثر مدنية كما تصفهم المصادر فلماذا لم يكن الأدب، وتدوين تأريخهم على الأقل، جزءاً من هذه المدنية؟ لماذا سمحوا لغيرهم بأن يقدموهم الى العصور التالية ولم يقدموا أنفسهم بأنفسهم؟ اسئلة تحتاج الى باحث مجتهد آخر من نوع فوروهاغن لكي يتصدى لها في مشروع بحثي.
هانس فوروهاغن:
ولد سنة 1930. مجاز في تاريخ المعرفة. دكتوراة فخرية من جامعة ستوكهولم. نال عام 2009 درجة الأستاذية من الدولة السويدية. متعدد المجالات: مؤرخ، منتج برامج علمية للتلفزيون، أستاذ جامعي ونشاطات أخرى.
‘ كاتب عراقي يقيم في ستوكهولم
نقلا عن صحيفة القدس