«مهرجان قصر الحصن» درس عملي في تاريخ الإمارات
أبوظبى "ادارة التحرير" …. الهوية الوطنية هي من صميم الفعاليات التراثية لمهرجان قصر الحصن المقام في أبوظبي حتى 9 مارس الجاري، الذي يقدم احتفاء بمرور أكثر من 250 عاماً على إنشائه نموذجاً شاملا لمجتمع الإمارات قديما. وبمجرد التجول بين أرجائه الغارقة في التاريخ ما بين أدوات الماضي وحرف الأولين ومهن الأجداد، واستغلالهم للمواد البسيطة وتوظيفها في حياتهم اليومية، يستطيع الزائر تكوين فكرة عامة عن المشهد المعيشي في حقبة ما قبل النفط، ولصغار السن نصيبهم من الفقرات التعريفية التي تعنيهم تماما كما تعني الكبار، وإن كانت تثير فضولهم بنسبة أكبر وتستنفد تساؤلاتهم.
زيارات الضيوف لمهرجان قصر الحصن، التي تشمل مختلف الفئات الاجتماعية والجنسيات المتعايشة على أرض الوطن، لم تقتصر منذ اليوم الأول للافتتاح على الأهالي أو الناضجين وحسب. فقد شكلت مشاركات الأطفال حضورا لافتا ضمن الفعاليات التي تركز على شرح مفاهيم التاريخ المحلي بكل ما له علاقة بالاستخدامات اليدوية التي كانت مستخدمة حتى فترة قريبة، وأجمل ما في العروض التراثية الحاضرة داخل باحة الحدث، تلك الأكشاك السعفية الموزعة على أكثر من فريج والتي تزخر بالأدوات التقليدية المحافظ عليها حتى اليوم، ومنها بئر الماء الشهيرة باستخداماتها والتي لطالما استنزفت عناء الأمهات والآباء وحتى الأبناء، وصناعة القرقور من سعف النخيل، والذي كان يستعان به لنشر الملابس بهدف تبخيرها، وكذلك الخرس الأشبه بجرار الفخار إما لحفظ المياه باردة من حر الصحراء، وإما لتخزين المالح وهي الأسماك بعد نقعها بالملح منعا للتلف.
من مجالس الكبار غالبا يتعلم الصغار كرم الضيافة وحسن الأخلاق وآداب الكلام والسلام، الرجال مرجع الأبناء والنساء قدوة البنات. فيما الإخوة كما الأخوات هم المثل الأعلى الذي يسير على نهجه النشء في مجتمع سمته التماسك والحرص على العادات والتقاليد والسمعة الطيبة. أما اعتناق الهوية الوطنية نهجا يسري كما الدم في العروق، فهو ما تعززه المهرجانات التراثية والفعاليات الشعبية التي لا توفر جهدا إلا وتبذله في سبيل نقل الماضي إلى الحاضر بأمانة تكرس اليوم حجر الأساس لمستقبل بنيته الأصالة والعراقة.
ويتلخص المشهد الوطني لمهرجان قصر الحصن عبر طفل إماراتي يحاول العبث بالمعروضات التقليدية من باب فك رموزها، فيأتي من على يمينه من يعلمه أساليب استعمالها شارحا له الغرض من هذه الأداة ومن تلك القطعة وهكذا، وبعد جلسة النقاش المجدي يخرج الطفل مستمتعا بمعلومة جديدة اكتسبها وعلى الأرجح لن تمحى هذه المرة من ذهنه لأنه تلمسها من قرب وعاينها بالصوت والصورة.
قصص الماضي
وتقول نوال محمد وهي إحدى العارضات ضمن القرية التراثية لـ الاتحاد إنها تلحظ اهتماما من قبل صغار السن بالاستفسار عن معالم الفخر بالإرث الوطني، ولاسيما أن الحفاظ على المنتجات الحرفية المستمدة من التراث والتي تحمل الملامح المحلية هو من صميم أهداف المهرجان.
وتذكر أنها تعمل على تفسير كل ما له علاقة بالأدوات التي كانت تستعملها الجدات لحياكة المفارش والبسط ووسائد الجلسات العربية. وسواها من الأمور التي تصلح لأكثر من استخدام كنوع من التوفير في حينه.
وتشير إلى أن الجمعيات المحلية ولاسيما من المنطقة الغربية مازالت إلى اليوم تنشر هذه التعاليم عبر النساء العاملات في شعبيات غياثي والسلع والمرفأ والوثبة وسويحان تحت إشراف خبراء يقدمون كافة أوجه الدعم اللازم. وهذا من شأنه أن يعزز الهوية الوطنية ويفتح منافذ واسعة لتسويق منتجات المواطنات اللاتي يعملن في مجال الحرف التقليدية التي تأبى الاندثار، وأن يعرف الجميع إلى الإبداعات التراثية التي تتوارثها الأجيال وتروي حكايات عن واقع الحياة في البيوت الإماراتية على مر السنين.
وتتحدث علياء عبدالرحيم عن ضرورة تقديم الشرح اللازم للفئات العمرية الصغيرة التي لا تعرف الكثير عن واقع الموروث المحلي. وتذكر أنه لابد من تطوير شبكات تسويقية فاعلة تمكن أصحاب الحرف التراثية من استثمار مهاراتهم وتحويلها إلى مصادر للدخل، وتلفت إلى أنها من خلال عملها في مطرزات التلي تحاول دائما نشر الرسالة الوطنية عن حقيقة مفادها أن تراث الإمارات حافل بالصناعات الجميلة التي تحمل بين طياتها قصص الماضي العريق والحضارة العابقة بالأصالة.
وتقول إن عددا كبيرا من الأطفال يزور يوميا جناحها التراثي الذي تتوافد عليه أمهات المهن التقليدية، واللاتي يقمن بدورهن بالحديث عن مهاراتهن اليدوية، وبهذه الطريقة يتم تدريب الصغار على حب الأدوات القديمة والإلمام بها بحسب مستوى تفكيرهم.
شرائط الخوص
وتفترش الحرفيات من المواطنات الجلسات العربية داخل بيوت السعف المنتشرة في مهرجان قصر الحصن، وقد أتين من مناطق بعيدة للتعريف بالحياكة وهي الهواية الأكثر شهرة في الإمارات والتي لطالما كانت من أقدم المهن التي أتقنتها الجدات، وهن برشاقتهن المعهودة يحكن مشغولات تلقى كبير الدعم كي تعيش وتتوارث من جيل إلى آخر، ومن خلف براقعهن كانت تظهر علامات الاعتزاز بالنفس على وجوههن.
وكانت مريم حسن محمد وهي أم لـ 4 أبناء، مندمجة في فرز شرائط الخوص لاستكمال ما بدأته من حياكة وبقربها حفيدتها، عندما اقتربنا منها بقصد التعرف إلى عملها، لم تتوقف لحظة عن تحريك أصابعها المغطاة بتلك الخيوط الملونة، حتى عندما تحدثت عن ضرورة التمتع بالليونة لتقديم حياكة جيدة. وتذكر موجهة الكلام لحفيدتها وكأنها تؤكد عليها الأمر، أن أعمال الخوص تشكل أفضل أنواع الهوايات التي لطالما شغلت وقت الأمهات والجدات بما هو مسل ومفيد. وتشير إلى أنها من خلال إحياء هذه الهواية تثبت لنفسها وللمعجبين بفنها، أن الإمارات قادرة يوميا على إنتاج ما يبهر الجميع، وهي تعلمت الحياكة بسعف النخيل من أمها وكانت لا تزال طفلة صغيرة، وهذا ما ترجوه اليوم لبنات هذا الجيل المنشغلات بالعمل على الكمبيوتر.
قهوة ومهفة
وبالحديث إلى ضيوف مهرجان قصر الحصن من الأطفال عن أهم الملاحظات التي سجلوها في البال، يتضح تمسك الجيل الجديد من المواطنين بخيوط الهوية الوطنية التي تبدو بالمبدأ ضخمة عليهم، ولكنهم أهل لها.
ويقول سالم محمد الذي يبلغ من العمر 8 سنوات إنه تعلم داخل إحدى الخيم كيفية إعداد القهوة العربية، وأنه يعرف وظيفة الدلال الثلاث التي تستخدم دائما لتجهيز البن وغليه وصبه. يرافقه والده الذي يؤكد حرصه على أن يرافقه أبناؤه الكبار والصغار إلى مثل هذه الفعاليات التراثية من باب حماية العادات والتقاليد.
وتذكر مريم العامري 7 سنوات، أنها تحب شجرة النخيل لأنها تقدم التمر وتساعدنا على بناء البيوت القديمة من السعف، وكذلك الحصير والبسط، وهي كانت تتحدث وفي يدها «مهفة» قالت إنها اشترتها لتريها إلى صديقتها في المدرسة، وتشرح أن «المهفة» كانت قديما تعمل عمل المروحة للتخفيف من الحر.
ويحاول سلطان علي الحمادي 6 سنوات أن يشرح بلغته المتواضعة كيف كان الأجداد يجلبون الماء من الآبار، ويذكر أنه لابد من عدم هدر الماء لأنه ليس من السهل الحصول عليها. وهو يبدو متحمسا جدا لعملية ملء القوارير، ومن ثم إعادة رميها في القعر وتكرار العملية مرة واثنتان وثلاث في اليوم.
إرشاد
تردد الأطفال من البنات والأولاد على فعاليات مهرجان قصر الحصن برفقة ذويهم، ليس من باب التسلية، وإنما نوع من الإرشاد الذي يعزز الهوية الوطنية، فالأجواء هناك كلها محفزة ليتعرف النشء الجدد إلى أبجديات الحرف اليدوية والمهن التقليدية لمجتمع الإمارات الغارق بالأصالة.
تعليم ميداني
عملية الشرح العملي على أرض الحدث الذي يصور القرية التراثية بتفاصيلها، لا شك يترك في صغار السن عظيم الأثر. فهم هنا يتلمسون الأدوات التي قد يكونون سمعوا عنها في الكتب، ويحاولون التعامل معها من قرب لفهم استخداماتها بما هو غير متاح عبر الصور النظرية. وهذا ما يؤكد فاعلية التعليم الميداني ولاسيما بالنسبة لمادة التاريخ والتراث الوطني.
صناعة المراكب
تصدرت مطرزات التلي وحياكة الخوص اهتمام البنات الصغيرات، بينما ركزت استفسارات الأولاد على صناعة المراكب وتجهيز الشباك، وهم كانوا أكثر شجاعة في ركوب الجمال وكذلك في محاولة ملء القوارير من البئر، وتساوى البنات والأولاد في فضولهم بطرح الأسئلة عن كيفية استعمال الكثير من الأدوات التي بدت معظمها غريبة بالنسبة لهم.