الدولة المدنية هي دولة الإسلام …
بقلم محمد بن عبداللطيف ال الشيخ
من يقرأ في التاريخ السياسي للإسلام بالنسبة لأهل السنة يجده تاريخاً لا علاقة حميمية للعلماء والفقهاء باختلاف مشاربهم وتوجهاتهم فيه. تصنيفات الفقهاء ومؤلفاتهم وما ورثناه عنهم اقتصرت على العقائد وما يتفرع عنها وما يُعتبر علوماً مساندة لها، كذلك اهتموا بالتفسير والروايات التي تتطرق إلى علوم القرآن، وكذلك مختلف قضايا الفقه والشأن الحياتي في المعاملات؛ أما السياسة، أو كما يسمونها (الإمامة الكبرى)، فلا يتطرقون إليها إلا كتاريخ وأحداث تاريخية، وتعاملهم في شأنها ظل في غاية المحدودية إذ اكتفوا عند التطرق إليها بالعموميات ولم يدخلوا في التفاصيل؛ ولم يصل إلينا من فكرهم السياسي إلا مؤلفات قليلة جداً، هي عند مقارنتها بالشؤون غير السياسية التي ألفوا فيها وأشبعوها بحثاً وتمحيصاً، كأن تقارن قطرة ببحر؛ في حين أن منظري القرنين الأخيرين وكتابهم وفقهائهم قد أولوا الشأن السياسي جل اهتمامهم وعنايتهم، حتى يسوغ القول إن ما ألف في القرن الأخير فقط عن الشأن السياسي في الإسلام فاق ما ألف خلال الأربعة عشر قرناً الماضية أضعافاً مضاعفة.
وهذا لا يعني أن المسلمين الأوائل لم يهتموا بالسياسة وشؤونها، إلا أن اهتمامهم ظل تحت عنوان كبير مؤداه (توخي إحقاق الحق وإبطال الباطل)؛ ولأن الحق مسألة نسبية، والباطل مسألة نسبية، تختلف من عصر إلى عصر، ومن خليفة إلى خليفة، وتتبدل حسب الظروف والمتغيرات، وتدور معها حيث دارت، ظلت السياسة متعلقة بالأفراد ومعايير الفرد الذي يعنى بتدبير الشأن السياسي ويتحرى العدل في الرعية، سواء كان في قمة الهرم كالخليفة، أو من هم في منزلة أقل كالعمال والولاة على الأقاليم.
فعمر بن عبدالعزيز – مثلاً – يُطرح في الإرث الإسلامي كخليفة عادل كان يتلمس العدل والإنصاف بين الرعية، فظل رمزاً لهذه القيم والمقاصد الشرعية في التاريخ السياسي للإسلام، غير أنه لم يُؤسس لآليات ومعايير استقاها من الدين، تضبط الواقع السياسي، وتُحدد كيفية ضبط شؤونه، لتتراكم فيما بعد، وتتمأسس مع الزمن، حتى تصبح أبواباً ثابتة ومستقرة وتفصيلية من أبواب الفقه.
والسؤال: لماذا إذن ظلت السياسة غائبة عن كتب الفقه الإسلامي، ولم تتم معالجتها، وتفصيل مسائلها مثلما حدث في المسائل المتعلقة مباشرة بالدين كالزكاة والجهاد مثلاً؟
هذا السؤال أجاب عليه في العقد الثالث من القرن الميلادي العشرين شيخ أزهري وقاضٍ شرعي اسمه (علي عبدالرازق) وضمّن رأيه في كتاب أثار ضجة حينها سماه (الإسلام وأصول الحكم). الكتاب وصل فيه إلى نتيجة مؤداها أن الدولة في الإسلام (مدنية) وليست دينية، وأن الإسلام لم يفرض شكلاً محدداً لتنظيم السلطة السياسية؛ وقد ثارت عليه ضجة كبرى في مصر عند صدور الكتاب، ليس بسبب فحوى الكتاب، وعلميته، واستدلالاته، وإنما لأن ملك مصر الملك فاروق كان حينها يطمح إلى أن يرث (الخلافة) بعد أن سقطت الخلافة العثمانية عام 1924، فوجد في مثل هذا الكتاب ومحتواه عائقاً لطموحاته، فسلط عليه الأزهر، وجند كثيراً من الكتاب للرد عليه؛ وحوكم وسحبت منه شهادة الأزهر، وبقي إلى أن مات يعاني من إقصاء لم يشهده أزهري قبله ولا بعده.
الآن، وبعد مضي قرابة التسعين عاماً على صدور ذلك الكتاب، هناك شبه إجماع، في مصر وخارجها، على أن الدولة في الإسلام دولة (مدنية) وليست دينية، تماماً كما انتهى إليه علي عبدالرازق، وهو ما يؤكده الأزهر أخيراً، ونصت عليه الوثيقة الشهيرة التي أصدرها في هذا الشأن، ويتفق معه فيها بقية حركات الإسلام السياسي إلا ما ندر، وعندما تكون الدولة مدنية وليست شأناً دينياً، فهذا يعني أن السياسة وتدبيرها والتعامل معها تدخل ضمن منطقة (العفو) أي أن الدين ليس آمراً بها، ولا ناهياً عنها؛ فالتعامل معها يكون تماماً مثلما تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع تأبير النخل، حين اعتبره شأناً لا علاقة للدين فيه؛ اللهم إلا فيما يتعلق بالمقاصد العليا (إحقاق الحق وإبطال الباطل).
والسؤال: هل سيعيد الأزهر للشيخ علي عبدالرازق اعتباره بعد أن وصلوا الآن إلى ما وصل إليه قبل قرابة القرن من الزمن، وأقروا أن الدولة في الإسلام مدنية وليست دينية كما كان يقول؟
المصدر : جريدة الجزيرة السعودية