إسلاميو تمبكتو… يتطاولون على الدين والتاريخ
مواجهة التنظيمات الإسلامية المتشددة في شمال مالي تصاحبها عقبات جمة، وتكشف كذلك عن حجم الخراب الذي خلفه هؤلاء في مدة وجيزة من سيطرتهم على المنطقة، لعلّ أخطر تعبيرات الخراب إتلاف المخطوطات وهدم الأضرحة والمعالم التاريخية في تمبكتو. مع تقدم العمليات العسكرية التي تقودها القوات الفرنسية في مالي، ومع كلّ مدينة تفتك من سيطرة الجماعات الإسلامية المسلّحة التي تسيطر على شمال مالي منذ العام الماضي، يكتشف العالم حجم الخراب الذي تركته تلك الجماعات في المدن التي مرّت بها، ونقصد بالجماعات هنا التحالف بين "تنظيم انصار الدين" وحركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا المنشق عن تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي، والتي اصدرت أولى بياناتها العسكرية في أكتوبر 2011.
نتائج سيطرة التنظيمات الجهادية المتشددة على شمال تتعدد ملامحها وتعبيراتها، وتبدأ من جنوحها المباشر أولا إلى تطبيق الشريعة وإقامة الحدّ، حيث تداولت المواقع الإخبارية صورا عديدة لشباب مالي بترت أياديهم عقوبة لهم على جريمة السرقة، ولاقت تلك الصور امتعاضا كبيرا من كلّ الأوساط حتى الدينية منها، التي تساءلت عن مدى "أهلية" تلك الجماعات لتطبيق الحدّ على الناس، هذا فضلا عن تقديم مسألة تطبيق الشريعة عن أولويات اخرى أكثر إلحاحا وأهمية بالنسبة لسكان المنطقة مثل التنمية ومستوى الفقر والتصحر وغيرها من القضايا.
ولا شك ان بلدا مترامي الاطراف ويتوفر على ثروات طبيعية كثيرة مثل مالي، يمكنه أن ينهض بإرساء ديمقراطية وتنمية متوازنة، لا بالسعي إلى فرض الحدود وتعاليم الشريعة على شعب يعاني الفقر والبطالة، دون التفكير في بقية القضايا. التعبير الثاني لحجم الخراب الذي أحدثته التنظيمات الجهادية المتشددة كان يُترجمُ في "عدائهم" الشديد لموروث تمبكتو المدينة التاريخية القديمة التي طالما اعتبرت مثالا ناصعا على التعايش بين قيم الإسلام والخصوصيات المحلية الإفريقية، ولكن عراقة المدينة لم تشفع لها عند المتشددين فتطاولوا على مقاماتها ومعالمها الإسلامية، وهدموا مئات الأضرحة التي يتجاوز عمر بعضها خمسة قرون.
وقد بدأ "حوار المعاول والفؤوس" الذي تخوضه جماعة أنصار الدين مع آثار تمبكتو، في أبريل/نيسان 2012 ثم استؤنفت في تموز/يوليو الماضيين عندما هدموا 7 أضرحة من أصل 16 في مدينة تمبكتو، وحطموا باب جامع، ولم تسلم الأضرحة الموجودة داخل المساجد من التحطيم بدعوى أنها ترمز إلى الشرك بالله.
تمبكتو الأعرق:
يشار إلى أن مدينة تمبكتو تشتهر باحتوائها على أكثر من 333 ضريحا تاريخيا وهي مصنفة ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو بوصفها مدينة إسلامية قديمة تحفل بعديد المزارات والمقامات الصوفية وزوايا الاولياء الصالحين والأضرحة، ولكن حركة أنصار أعلنت مؤخرا خلوّ تمبكتو من أي مزار بهدم آخر ضريح في المدينة في كانون الأول/ ديسمبر 2012. وهو ما أعاد إلى الأذهان تطاول تنظيم طالبان في آذار/مارس 2011 على تماثيل لبوذا -في منطقة باميان الافغانية- تعود إلى آلاف السنوات، ولكنهم مع ذلك فجروها في مشهد لم يصدقه العالم.
الملمح الجديد الذي أميط عنه اللثام مؤخرا، هو إتلاف الجماعات المتشددة في شمال مالي لآلاف المخطوطات القديمة في مدينة تمبكتو، حين أحرقوا معهد احمد بابا للدراسات العليا والأبحاث الاسلامية، وتحفظ في المعهد ما بين 60 ألفا إلى 100 ألف مخطوطا قديما، بحسب وزارة الثقافة المالية.
ويشار إلى أن المعهد المذكور قام بمجهود كبير امتد على أكثر من 3 عقود لجمع كلّ هذه المخطوطات والوثائق النفيسة، وحفظها وحمايتها من التلف لكن مساعيه لصون المخطوطات لم تقرأ حسابا للتشدد الديني الذي تبيّنَ أنه لا يبقي ولا يذر، وان عدائه للتاريخ دفين وإلا فماذا يفسّر استهدافه لكل ما يرمز لموروث المدينة وتاريخها؟ نشيرُ في هذا الصدد إلى أن إتلاف مخطوطات تمبكتو أثارت استنكارا واسعا في العالم، لم يقتصر على الاوساط الاسلامية فحسب بل امتد إلى كل الهيئات الثقافية والعلمية ذات العلاقة بالدفاع عن التراث الإنساني.
وفي سياق استعراض المواقف المنددة بالجريمة الثقافية والفكرية التي مورست في تمبكتو أعلن الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي أكمل الدين احسان اوغلي الثلاثاء إدانته لقيام "بعض المتطرفين الغلاة" بإضرام النار في مكتبة "معهد أحمد بابا للدراسات العليا والأبحاث الاسلامية" تحوي مخطوطات إسلامية أثرية في مدينة تمبكتو. وأوضح في بيان أن المكتبة تحوي "مخطوطات اسلامية ووثائق اثرية تعتبر تراثا انسانيا وكنزا للأمة الاسلامية جمعاء". وندد بـ"أعمال العنف والترويع والتدمير التي تتم من طرف بعض المتطرفين والغلاة".
إذا دخلوا قرية أفسدوها:
وقد تتالت الافادات والمعلومات التي تؤكد إتلاف مخطوطات ثمينة تعود الى قرون في هذه المدينة التي كانت عاصمة ثقافية وروحية للإسلام في افريقيا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر. نتبيّن من كلّ ما تقدّم أن التشدد الديني لا يتآلف مع التاريخ ومع الحضارة، ولذلك كلما تحضر جماعة دينية متشددة في أرض حضارة إلا وحاولت محو معالمها بتفجيرها أو تحطيمها أو حرقها، وكأنها تفسخ كلّ ما يفوقها أصالة وعراقة وتاريخا. والملاحظ كذلك أن الظاهرة لم تعد مقتصرة على قطر بعينه، فمسألة هدم الأضرحة أو حرقها حدثت في مالي وفي نيجيريا وفي تونس وليبيا ومصر، والتعلّة نفسها ومفادها أن تلك الآثار والمعالم ترمز إلى الشرك بالله.
ولكن المشكلة أعمق من ذلك وأكثر خطورة وتقوم على أن تلك الجماعات والتيارات المتشددة تسعى إلى فرض نمط واحد من التفكير والإيمان والاعتقاد، يرونه صالحا للجميع ويرون أنفسهم أصحاب أهلية وجدارة بإكراه نمطهم على الجميع، ولا شك أن تطاول التشدد لا يتوقف عند الأضرحة والمزارات والمخطوطات بل يمتد إلى معالم أخرى كالكنائس والمقابر وكل ما يحيل إلى الموروث الإنساني.
المصدر : العرب اونلاين