نوراة نجم تكتب..المرشد وضعنا في موقف «يا ناخد البلد كلها في كرشنا.. يا نولع لكو فيها»
كتبت : نوارة نجم
«الأولة غربتى فى عالم الأندال الندل فيه احتمى والحر فيه انطال والواطى لما اعتلى أجّر له كام طبّال الشحط والبلطجى واللص والمحتال والكوديا لبست شنب واتحزمت بعقال ومين يحب النبى صقفة كمان يا عيال الرقص دار فى البلد عمال على بطال واللحم لما انكشف غطى على اللى اتقال لا سمعنا صوت فى النغم ولا شعر فى الموال خنقوا الكلام فى الغنا والرنة ف الخلخال».
من قصيدة العنبرة لوالدى الشاعر أحمد فؤاد نجم حفظه الله.
لم يكن لدىّ فسحة من الوقت والجهد البدنى والنفسى لأسرد شهادتى عما حدث فى يوم الأربعاء الأسود، حتى رأيت حلما فى منامى أننى أحاول إقناع زميلة فى العمل وأروى لها تفاصيل كل ما فعله الإخوان بنا منذ اللحظة الأولى فى الثورة وقت أن جلسوا مع عمر سليمان حتى هجموا علينا، وكيف أننى كنت أصدقهم دوما، وأنهم كانوا يخذلوننى دوما، وأننى أحسنت بهم الظن دوما، وأنهم أثبتوا لى تغفيلى فى حسن ظنى بهم دوما، وأذكر أننى كنت أقول لها: إنتى تعرفى إيه عن الإخوان؟ اشتغلتى معاهم سياسة؟ نزلتى العشوائيات وشفتيهم؟ قعدتى معاهم فى الميدان؟ اتبهدلتى فى المظاهرات للإفراج عنهم أيام مبارك؟ قريتى حاجة عنهم طيب؟ إنتى بتدافعى عنهم عشان فاكراهم بتوع ربنا.. أنا كمان كنت فاكراهم بتوع ربنا.. أنا كمان كنت فاكراهم بتوع ربنا.. حتى أيقظنى زوجى من النوم قلقا مؤكدا لى أننى كنت أبكى فى نومى. فعلمت أن جهازى العصبى لم يعد يتحمل تتابُع الويلات، وأن علىّ كتابة شهادتى، فما لا يعلمه البعض أن الكتابة هى أنجع علاج نفسى لكل النكبات والصدمات، ولولا الله ثم الكتابة لما احتمل جهازى العصبى كل ما مررت به طوال العامين الماضيين.
اسمع بقى وشيل معايا:
بعد أن أصدر محمد مرسى، رئيس جمهورية جماعة الإخوان المسلمين وتابعه قفة (السلفيين)، إعلانه الديكتاتورى الذى يتلخص فى: أنا ربكم الأعلى، هاج الناس وماجوا، ما بين جماعة الإخوان وتابعها قفة كمجموعة مؤيدة، وما بين بنى آدمين عاديين زى ما ربنا خلقهم يعارضون هذا الإعلان، الذى دفعْنا الدم والدموع ثمنا كى لا يفرض علينا مثله.
كان من الطبيعى أن يتدفق المعارضون أمام «الاتحادية» فى ممارسة لحقهم السلمى لإبداء الاعتراض على ما اقترفه المرسى بأمر المرشد، لكن ما حال بين المعارضين وبين ذلك هو وجود «المؤيدين» أمام قصر الاتحادية، الأمر الذى يعنى أننا لو عزمنا على التوجه، بعددنا الكبير ذاك اليوم إلى «الاتحاية» فذلك لا يمكن تفسيره إلا بإنه «جر شكل» وجر البلاد إلى حرب أهلية.
فى قصة سيدنا سليمان، أم الطفل الحقيقية هى التى تخلت عنه خشية أن يقوم سليمان بشقّ وليدها نصفين بالسكين، أما الأم المزيفة فلم ترَ غضاضة فى أن يُذبَح طفل فى مقابل أن تحظى هى برأسه أو ساقيه. وهذا هو الموقف الذى وضعنا فيه مرشد جماعة المسلمين: يا ناخد البلد كلها فى كرشنا يا نولّع لكو فيها. وبعد أن أشعل البلاد بحرب أهلية وقف يسألنا سؤالا إن دل على شىء فإنما يدل على خلل فى كيمياء المخ لديه: ما ذنب النباتات؟! تماما كما أحرق نيرون روما ثم جلس يعزف الموسيقى. ولا يمكن تفسير تكليف عناصر الجماعة بالنزول للتأييد على محمل آخر سوى تعمُّد إشعال البلاد وإدخال المدنيين فى مواجهات دامية.
هوّ فى حاجة اسمها مظاهرة مؤيدة؟ بتحصل فين دى يا جدعان، بالإنجليزى اسمها «protest» يعنى اعتراض. ثم إن التظاهرة المؤيدة التى أمر المرشد بنزولها لا تأتى من طرف مستضعَف، أو يعانى من مماحكة سياسية تنافسه على السلطة، وإنما تأتى من فصيل يستحوذ على كل السلطات التشريعية والتنفيذية، حضرتك السلطة، نازل تتظاهر ضد مين؟ ضد الشعب؟ طب نازل تؤيد مين؟ تؤيد نفسك؟ وبتصحوا الصبح كل يوم تبوسوا نفسكو فى المراية وتبعتوا جوابات حب لنفسكو وتعملوا لصوركو على «فيسبوك» لايك وتكتبوا تعليق تحتها: إيه القمر ده؟
هذه التظاهرات المؤيدة، ليس لها أى مدعى سياسى سوى إرسال رسالة إلى الشعب من الدكتور مرسى: أنا معايا رجالة تاكل الحديد تاكل الظلط وحيقطعوا اللى يعترض.
مع ذلك، آثر المعارضون لإعلان مرسى السلامة، وظلوا فى مكانهم بميدان التحرير، ينزلون يوميا إلى الشوارع بأعداد كثيفة، يعبرون عن غضبهم ورغبتهم فى أن يتراجع مرسى عن إعلانه الديكتاتورى، ولم يقل أحد بالمرة، فى ذلك التوقيت، إنه يرغب فى رحيل مرسى.. أبدا، بس ماينفعش تحكمنا كده يا عم، بينما تتملكه، أو بالأحرى تتملك خيرت الشاطر، كل أمارات الكبر والعناد والصلف التى أودت بمبارك إلى السجن، وستودى، إن شاء الله، بكل من محمد بديع وخيرت الشاطر ومحمد مرسى وعصام العريان ومحمد البلتاجى إلى ذات مصير مبارك، وربما أسوأ، وسيحدث ذلك قريبا جدا… اشتروا منى.
أخيرا، لم يجد المعارضون بُدًّا من التصعيد إلى التظاهر أمام «الاتحادية»، خصوصا مع ازدياد تجاهل مرسى لمطالبهم، ولم يكن المتظاهرون ليلجؤوا إلى «الاتحادية» إلا بعد فراغها من المؤيدين.
كانت الأعداد يوم الثلاثاء الموافق 4 ديسمبر 2012 أكبر بكثير من أن يجرؤ ضباع المؤيدين الذين هجموا علينا فى اليوم التالى على الهجوم عليها. كانت التظاهرات غاية فى السلمية إلى درجة أن وصفها بعض الثوار بأنها: سِيس. لم يُقذَف حجر، لم تُكسَر مرآة سيارة، بل لم يلقِ أحد منديلا ورقيا على الأرض. وهنا أود أن أحمّل من دعا الناس إلى الانفضاض عن «الاتحادية» والرجوع إلى التحرير جزءا كبيرا من مسؤولية ما حدث، حيث إن جماعة الإخوان المسلمين، وتابعها قفة (السلفيين)، قد أوسعونا تهديدات بأنهم سيهجمون علينا، وفى كل مرة يعلنون أنهم سينزلون للتأييد تماما فى المكان الذى نوجد فيه، وما إن يجدوا الأعداد قد تزايدت حتى يتراجعوا «حقنًا للدماء»، أو يقوموا بنقل تظاهراتهم البهلوانية إلى المكان المناسب لهم: حديقة الحيوان، حيث تحمل مليونيتهم عنوان «جمعة الشريعة»! ولا أحد منهم حتى الآن قد أجاب عن تساؤلنا المنطقى: ما علاقة الإعلان الديكتاتورى بالشريعة؟ بل إننى أرى الإعلان الديكتاتورى ينافس ربنا عز وجل فى وصفه لنفسه «لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون».
إذن، فهجوم الإخوان وتابعهم قفة على المعتصمين بالاتحادية كان متوقعا، كما أن إصرار البعض على الاعتصام أيضا أمر متوقَّع بسبب تحمس البعض من تزايد الأعداد، وحرارة قلوبهم من جراء تجاهل مرسى لمطالبهم، وعدم وجود «خرفان» بين صفوف المعارضين، الأمر الذى لا يلزم أى فرد فى المكان بالانصياع لما تمليه عليهم المنصة، مع كل ذلك، صعد بعض الناس على منصة الاتحادية وأعلنوا انسحاب التيارات السياسية من أمام قصر الاتحادية، مع هتافات البعض بالاعتصام، وحين حاول الشباب منع السيارة التى تحمل منصّة «الاتحادية» من التحرك، أجاب أحد المسؤولين عن المنصة بأن عليهم التحرك «لأن العربية عليها إيجار»! حسنا، كان يمكنك أن تسلم السيارة لصاحبها دون أن تدعو الناس للانسحاب من أمام «الاتحادية»، مما شقّ الصَّف، وتسبب فى تناقص عدد المعتصمين، وهو ما استتبع هجوم الضباع على القلة الباقية أمام «الاتحادية». فور أن انسحب الناس وظل المعتصمون أيقنّا أن هجوما سيُشَنّ على المعتصمين، وبما أننا نعلم ثقل الجماعة فى التحرك، فأيقنّا أيضا أن الهجوم لن يتم الليلة.
نظرا إلى أننى أقطن بجوار «الاتحادية»، فقد عدت إلى المنزل لأرتاح قليلا قبل مواجهة يوم عصيب توقعناه. فى اليوم التالى عصرا تواترت الاستغاثات منبئة بإن جماعة الإخوان المسلمين تحشد للهجوم على المعتصمين بالاتحادية، نزلت من فورى أنا وزوجى إلى «الاتحادية»، مع توافُد تظاهرات لجماعة الإخوان المسلمين من جهة «الخليفة المأمون». كنت تركت سيارتى أمام قصر الاتحادية لأننى لم أتصور، ولو للحظة، ما حدث، كل ما جال بخاطرى هو أننا سنتبادل التنابز والهتافات، وربما تفاقم الأمر ووصل إلى التراشق بالحجارة، وذلك كان أقصى ما صوره لى خيالى المحدود.
وقفنا أمام التظاهرة الحاشدة لجماعة الإخوان القادمة من الخليفة المأمون، بعددنا الهزيل، نتبادل الهتافات، ثم اقتربت منى رشا عزب هامسة بأن علينا التنحى جانبا لأن مسيرة أخرى قادمة من «رابعة العدوية»، قائلة: لو حننضرب يبقى على الأقل نحدف لنا طوبتين بدل ما ننضرب من ضهرنا.
لم تكد رشا عزب تُتِمّ جملتها حتى فوجئنا بسيل من الراكضين على الاعتصام، وخلفهم متظاهرو جماعة الإخوان المسلمين، ومعهم أناس أعرفهم، من مجموعة «حازمون»، كنت قد عرفتهم إبان تضامنى معهم فى اعتصام العباسية، أكلنا وشربنا معًا، وواجهنا الخطر معًا، فإذا بهم يهجمون علينا لينتزعوا الخيام، ويترصدون كل امرأة للهجوم عليها، وأنا أقف فى المنتصف تماما غير مصدقة، حتى فوجئت بعدد لا يقل عن ثلاثين ذكرا، ولا أقول رجلا، منهم من أعرفه جيدا، وهم يتحلقون حولى راغبين فى ضربى، لولا أن زوجى قد أحاط بى، بينما اندفع بعض الأصدقاء ليخرجونا من بينهم، كان زوجى يدفعنى بعيدا وقد تسمَّرت قدماى فى الأرض وأنا أنظر إلى الوجوه التى أعرفها جيدا تتحرق أيديهم للنَّيل منى وأشير إلى كل واحد منهم: أنت جاى تضربنى أنا؟ أنت؟ أنت حتضربنى أنا؟ أنا؟ وأنت؟ أنت جاى تضربنى؟
وقف رجل مسن من المؤيدين بجوارى وهو يقول للشباب الذى تكأكأ حولى: حافظوا على نوارة.. حافظوا على نوارة..
لم أعلم إن كان يرغب فى الحفاظ علىّ عرفانًا منه لما بذلته من جهد فى التضامن مع الإخوان المسلمين فى عهد مبارك، ومواجهة الموت تضامنا مع «حازمون» فى وقت الحكم العسكرى، أم أنه يرغب فى الحفاظ علىّ إلى حين صدور الأوامر بقتلى.
نظرت إلى الرجل ثم عاودت النظر إلى من تحاول أذرعهم الوصول إلىّ: دول أنا واكلة معاهم عيش وملح..
ضاق زوجى ذرعا من رومانسيتى التى طفت فى غير موضعها أو وقتها وهو يدفعنى: اتحركى بقى. حاول هو والأصدقاء إخراجى من محيط «الاتحادية» بينما أصررت على البقاء: أنا حاخاف من دول ولّا إيه؟ لو فيهم راجل يجيلى.. الجبنا اللى هربوا وسابونا واحنا بنواجه الموت فى محمد محمود.. جايين تضربونا احنا؟ كنتو فين واحنا بنشيل جثث صحابنا فى محمد محمود ومجلس الوزرا؟ تعالوا اضربونى.. لو فيكو راجل يجيلى.
قال أنا باقول لو فيهم راجل يجيلى عشان أكسفهم، قام جولى فعلا! المضحك فى الأمر أن زوجى كان يقف أمامى وأنا أنظر إليهم من خلاله: لو فيكو راجلى يجيلى.. فباغتنى: ما تسكتى بقى، أنا اللى فى وشهم مش شايفة كل واحد فيهم قد البغل إزاى؟ إنتى فاكرة حتكسفيهم؟ حييجوا بجد همّ دول يعرفوا ربنا أصلا عشان يخافوا منه؟
أخذتنى رشا عزب من يدى وقالت: سيبوها معايا. وكانت رشا عزب مثلى تصرّ على البقاء فى محيط «الاتحادية»، لكن لم يكن دافعها التحدى مثلى، وإنما كانت رشا عزب تتربص بشخص من المؤيدين كان قد ضربها وهم يدخلون ليقوموا بنزع الخيام كجيش يزيد، وما إن لمحته حتى قفزت وأوسعته ضربا، بينما أبعدها الأصدقاء عنه وهى تقول: ضربتك.. ضربتك يابن الـ… أنت فاكر حتضربنى وأسيبك؟
تدفقت الأعداد الهائلة من جيش يزيد مع قِلّة عددنا، ووجدت زوجى ينظر بعيدا ثم يقول لى: خليكى هنا، وإذا به يهرع نحو السيدة شاهندة مقلد ليخلّصها من يد شخص ملتحٍ كان يكتم فمها وهى تهتف وهمّ بضربها. بدأنا نتحرك نحو «الخليفة المأمون» تاركين خلفنا المؤيدين يرتعون فى خيام الناس وطعامهم وشرابهم ومالهم… وبمناسبة شرع الله الذين يرغبون فى تطبيقه، فإن شريعة الله تبيح للمعتدَى عليه فقأ عين من يتلصص على مسكنك، والتصدى، بكل السبل، لمن يعتدى على مالك. وبما أن هذه هى أرض الحكومة، وبما أن بعض الناس قد ارتؤوا نصب خيامهم هنا ووضع حاجياتهم فيها، فإنها فى مقام المسكن، ولنا أن نتصدى لهم بكل السبل، ولا أستثنى من ذلك أى وسيلة، خصوصا أن الدولة، المتمثلة فى الشرطة، لم تنقذنا ولا تمد لنا يد العون، بل أفسحت لهم الطريق.
سرنا حتى مفترق الطريق بين «الخليفة المأمون» و«الميرغنى»، وجلسنا هناك فى انتظار مسيرات الإمداد، فوجئت بصديقتى إيمان وهى تأتى من قبل «الاتحادية» وتقول لى: فيه دكر من الإخوان لطشنى بالقلم على وشى عشان كنت واقفة على خيمتى باحميها.
بدأت أعدادنا فى التزايد، وما إن فرغنا من صلاة المغرب حتى استنشقنا رائحة غاز مسيل للدموع، وفجأة سمعنا صوت طلقات خرطوش بينما ركض الشباب من ناحيتنا على أثر المفاجأة. بما أننى فاشلة فى رشق الحجارة، حيث إننى معروفة فى أوساط الثوار: لما تلاقى نوارة بتحدف طوب ابعد عنها عشان حتيجى فيك. فقد قررت أن أجمع الحجارة للشباب، بينما هم يصرخون نحونا: حد يجيب لنا طوب.. حد يجيب لنا أى حاجة.. بيضربوا خرطوش وحىّ.. بيضربوا علينا نار.
كنا نجمع الحجارة ونحملها للشباب فى الصفوف الأولى بينما يقع العديد من الشباب على الأرض مصابين بطلقات خرطوش، فلجأ بعض الأطباء إلى محطة البنزين الواقعة فى «الخليفة المأمون» لتحويلها إلى مستشفى ميدانى لعلاج المصابين، دخلت المستشفى الميدانى كى أعرف ما الذى ينقصها، فوجدت عددا من المصابين، لكن لفتنى شاب فى النزع الأخير، يرتدى بنطالا جينز، وبلوفر رمادى اللون، ولديه لحية خفيفة، كانت «رصد» الإخوانية قد نشرت صورته بوصفه من المؤيدين، وقالت إن اسمه محمد عاصم، والحقيقة أنه ليس من المؤيدين وإنما وقع فى صفوفنا، ولم يكن اسمه محمد عاصم، لأن محمد قد أُصيب فى «الخليفة المأمون» وحضر أهله ونقلوه إلى المستشفى، وحتى الآن لا أعلم اسم ذلك المصاب، ولا مصيره، حيث إننى كنت أقف فى المستشفى الميدانى حين هجم المؤيدون على المستشفى، فهرع الجميع لائذين بالفرار، ولا أعلم إن كان تسنَّى لأحد حمل المصابين أم تركهم غنيمة للإخوان وتابعهم قفة.
كانت أمى تتصل بى للاطمئنان علىّ، وبما إننى أعلم أن لديها من البراءة ما يجعلها تصدق روايات التليفزيون، فإننى لم أُطِل معها فى المناقشة، كل ما قلته لها: إنتى مش بتقولى اتصلتى بعصام العريان بعد ما ضربونى وقالك همّ مالهمش دعوة؟ أرجوكى اتصلى بيه وقولى له يسحب المؤيدين من هنا، معاهم خرطوش ورصاص واحنا مش معانا غير طوب وشماريخ.. كلّميه خلّيه يوقّف ده حالا.. بالطبع اتصلت به، وبالطبع طمأنها، وبالطبع ظهر على قناة «25» يدعو الإخوان إلى الاحتشاد بالآلاف لقتلنا، وخلى حبيبى على هواه لما ييجى ديله على قفاه وأجيلها جثة.. قولوا يا رب.
هجم المؤيدون هجمة أخرى فتفرقنا فى الشوارع الجانبية، اتصل بى جابر القرموطى وأنا أركض من طلقات الخرطوش، فقلت له إنه على أى جهة مسؤولة فى الدولة التدخل لعزل هذا المختل عقليا المسمى محمد مرسى الذى أشعل حربا أهلية فى البلاد… فأغلق الهاتف فى وجهى. ثم اتصل بى الأستاذ وائل الإبراشى وترك لى المجال لرواية كل ما حدث، مستوعبا غضبى وشعورى بالخذلان والطعن من الظهر، ولم يغلق فى وجهى الهاتف… كتّر خيره، أنا بقالى من ساعة «الاتحادية» وأنا كل الناس بتقفل السكة فى وشى، حتى أمى، ولن أنسى لوائل الإبراشى أنه الوحيد الذى استوعب حالتى فى هذه اللحظة. كانت شبكة الإنترنت معطلة فى محيط الاتحادية، مما أعاق قدرتنا على طلب المدد، دخلنا أحد الشوارع الجانبية، فوجدنا بعضا من أهالى مصر الجديدة وهم يعرضون علينا خدماتهم، ويقولون إنهم سوف يستخدمون السلاح الذى كانوا قد اشتروه فى فترة الانفلات الأمنى عقب هروب الشرطة فى 28 يناير 2011 ضد الإخوان إذا ما دخلوا عليهم المنازل أو هددوا بيوتهم! كان الوضع هكذا، كانت هذه الجحافل تنبئ بأنها على استعداد لفعل أى شىء، حتى وإن كان ترويع الآمنين فى بيوتهم، على كل حال، لم ينمُ إلى علمى أن أحدا من المؤيدين قد اقتحم على الناس بيوتهم كما كان يظن السكان.
تطوعت إحدى الساكنات أن تستضيفنى وزوجى فى بيتها لنتمكن من الدخول على الشبكة العنكبوتية ووصْف الوضع على الأرض لمن يجلس فى بيته. تمكنا موافاة القابعين فى بيوتهم بما حدث، كان هناك شاب يحمل جسد محمد عاصم، الذى من فرط خطورة إصابته ظنه الشاب فارَق الحياة، كتب رقم هاتفه على «تويتر» مستنجدا بالناس: أنا معايا جثة محمد عاصم وده تليفونى.. مش عارف أعمل إيه؟
علمت بعد ذلك أن أهل محمد عاصم تمكنوا من الوصول إليه، وأن عاصم يرقد فى العناية المركزة الآن، بينما يتلقى الشاب الذى أنقذه تهديدات يومية بقتله.
تابعنا القنوات الفضائية فى بيت السيدة الكريمة التى استضافتنا، ولم تكن الكريمة الوحيدة من السكان، بل علمت أن عددا من بيوت مصر الجديدة قد استضافت الكثير من الثوار، ومنهم من استضاف محمد عاصم وهو مصاب إصابة خطيرة، وقد يؤدى موته فى بيت المضيفين إلى مساءلتهم قانونا.
فى أثناء متابعتنا للفضائيات قال أحدهم على قناة «أون تى فى» إن الإخوان ينتشرون فى الشوارع الجانبية ويقبضون على كل من يشكون فيه أنه من الثوار… انتو عارفين إحنا لنا شكل كده الناس بتعرفنا بيه، النكد باين على وشنا، ولا يبدو علينا أى تميز فى الملامح، وليس هناك فى مظهرنا ما يلفت النظر إلينا، وهو الأمر اللافت فى حد ذاته: أنا الكافر فى كل شريعة رفضانى، أنا المقتول وانا الجانى، أنا المسحول بأحلامى، أنا ما احنيش جبينى غير لرب الخلق، ولا بالحرق ولا بالشنق، أموت والجنة عنوانى، أنا النسيان، حتفتكرونى لما هموت، بكلمة ضعيفة مكسورة، ومنقوشة على الجدران، مولود كده، ما بشوفش غير نور الصباح، ما اعرفش اشوف ضىّ الشموع، ومافيش وسيلة للرجوع.
المهم، أبت السيدة الكريمة أن تتركنى وزوجى لحال سبيلنا، متخوفة مما سمعت من انتشار عناصر الإخوان فى الشوارع الجانبية، حتى قرأت أن منى سيف قد تم اختطافها، فانتفضت صارخة: صاحبتى.. صاحبتى.. حانزل يعنى حانزل.. فاقترحت ربة المنزل الكريمة أن أبدّل ملابسى لأنها علمت مما تردد أمامها من حوارات أن المتظاهرين من الإخوان المسلمين دخلوا الاعتصام وهم يطلبوننى شخصيا ضمن الأسماء التى كانوا يتوعّدونها، كما شهد على ذلك عدد من الشباب الذين كانوا فى الصفوف الأولى وسمعوهم يرددون هذا الكلام، من بين هؤلاء الشهود كان مالك مصطفى، ناشط سياسى منذ 2004، مصاب فى عينه فى أحداث محمد محمود، ويتجرأ ضباع الإخوان على محاولة الاعتداء عليه. فارتديت سترة زوجى، ووضعت كوفية فلسطينية حول رقبتى.. قال كده مش حيعرفونى، ثم نزلنا من بيت السيدة.
مرارة على مرارة، مرارة خيانة مَن قاسمْتهم اللقمة فى العباسية، أو فى التحرير، فهان عليهم أن يمدوا أيديهم إلىّ بالسوء لحصد مكاسب سياسية، ومرارة سيرى فى طرقات بلادى متخفية حتى لا يعرفنى إخوتى فى الوطن فينكّلون بى فى الشارع… أنا… ده أنا بتاعة «باشكر الجزيرة وباشكر تونس، مافيش ظلم تانى مافيش خوف تانى».. أنا بتاعة الزغرودة، تضربونى يا إخوان وتبقوا طالبينّى بالاسم؟ تضربونى يا حازمون وأنا اللى اتصبت فى رجلى فى العباسية، واتخانقت مع إبراهيم عيسى عشان خاطركو؟ صالحته طبعا… هو أنا لو وقعت حالاقى مين غيره وغير صحابى يا قلالات الأصل يا شبعة من بعد جوعة.
عدت إلى صفوف الرفقاء، بجوار المستشفى الميدانى فى نادى هولوليدو، فوجدت منى سيف سالمة ولله الحمد، احتضنتها وبكيت فرحا بسلامتها، تذكرت أننى تركت سيارتى أمام قصر الاتحادية، فتطوع الصديق عبد المطلب زهران وصديق آخر لا أذكر اسمه لإحضار سيارتى من وسط الإخوة الأعداء، عاد الشابان وعلى وجهيهما ابتسامة مُرّة: دول بيدعوا علينا وبيقولوا اللهم انصرنا عليهم كما نصرت نبيك فى بدر… على أساس إننا قريش يعنى.
لأننا لسنا منظمين، لم نتمكن من حصر كل الشهداء، خصوصا أن الإخوان كانوا قد هجموا على المستشفى الميدانى الذى كان يعج بالمصابين، ولا نعلم مصير المصابين الذين كانوا فى هذا المستشفى حتى الآن، لكن ما دار فى إعلام الإخوان من كذبات وتدليس كان أكثر إيلاما، فمع كل ذلك، ظللت محتفظة بجزء من سذاجتى وبراءتى: لم أتوقع أبدا أن تتاجر الجماعة بالجثث، وأن تدّعى لنفسها شهداء ليسوا منها حتى يخرج ذوو القتلى ليصرحوا بأن الجماعة سرقت أبناءهم وادّعت أنهم من قتلاها!
قال إعلام الإخوان الآتى: خمسة ماتوا منهم ستة إخوان وآدى أسامى تمانية واحنا شيعنا جثامين اتنين بس لكن اللى ماتوا مننا عشرة حداشر كده!
يبدو أن «خمسة ستة سبعة تلات أربعة يستخبوا فى الحارة المزنوقة ويعملوا حاجة غلط وحاكشف الغطا عنهم» هو أسلوب حياة لأعضاء الجماعة وليست جملة عابرة من رئيسهم. طب انتو بتفهموا بعض؟ عشان أنا مش فاهمة منكو حاجة بصراحة.
عدت لأجد «الصديق» الإخوانى أحمد المغير، يفترى علىّ الكذب ويقول إننى أسمعته «وصلة ردح» والحقيقة أننى لم أقل له سوى: انت جاى تضربنى أنا؟ فى اليوم التالى زعم المغير أننى حرّضت على قتله! بعد شوية حيصور نفسه جثة ويكتب تويتة: نوارة شنقتنى لما حطت لى المسدس فى الشاى.
هذا بخلاف عبد الرحمن عز الذى كاد يودى بحياة عدد من شباب «6 أبريل» وهم يحاولون إنقاذه فى العباسية فجاء إلى «الاتحادية» ليدل عليهم الجحافل المتنمرة ويشير إليهم عبر الليزر لحلفائه الجدد.
وأحب أقو ل جملتين بلدى كده، عبد الرحمن عز كان من 6 أبريل وخان مَن كادوا يضحون بحياتهم لإنقاذه، فهل تظن الجماعة، أو «حازمون»، أنه سيكون أكثر وفاء لهم؟
تانى.. خلى حبيبى على هواه، لما ييجى ديله على قفاه.
لن أدخل فى مهاترات على الجثث ولن أتساءل: إن كان كل القتلى من الإخوان، فهذا يعنى ألا مؤيدين للرئيس سوى الإخوان؟ ولن أتعجب من المقولة التى رددها أعضاء الجماعة: احنا جينا نفض الاعتصام بشكل سلمى! ولا أعلم كيف تستخدم عبارة «فض الاعتصام» فى ذات الجملة مع كلمة